على بعد ساعات معدودة قبيل الانتخابات الأكثر أهمية وحساسية في تجربة العدالة والتنمية، التي صبغت تاريخ تركيا الحديث بصبغتها المميزة، تتجه الأنظار إلى استطلاعات الرأي وتوقعات النتائج لمعرفة مدى قدرة أردوغان والعدالة والتنمية على الاستمرار وسقف المتغيرات التي يمكن أن تطرأ على تركيا داخلياً وخارجياً وفق السيناريوهات المتوقعة لنتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة.
بيد أنني أريد أن أتطرق هنا لبعض المتغيرات التي تبدو حتمية أو شبه حتمية بغض النظر عن النتائج التي ستخرج من صناديق الاقتراع يوم الأحد المقبل، وأهمها:
الأول: النظام الرئاسي
سيبدأ مع الانتخابات الحالية سريان النظام الرئاسي وفق ما أقر في الاستفتاء على التعديل الدستوري في نيسان/أبريل 2017. وهو ما يعني تغيرات كبيرة وعميقة على عدة مستويات، بدءاً من تراجع البرلمان نسبياً وتقدم مؤسسة الرئاسة عليه في الأهمية، مروراً بالعلاقة بين الرئاسة والبرلمان وباقي مؤسسات الدولة، وليست انتهاءً بالسياسة الخارجية التي يفترض أن تكون أكثر زخماً وتأثيراً في ظل النظام الرئاسي الذي من أهم ميزاته الحكومات القوية المستقرة والآليات السريعة لاتخاذ القرار وتنفيذه.
رغم التناغم المبدئي في معسكر تحالف الشعب بين العدالة والتنمية الديمقراطي المحافظ والحركة القومية والاتحاد الكبير القوميين (كأحزاب يمينية)، إلا أنه من الصعب توقع استمراره بنفس التركيبة ومنظومة العلاقات في ظل المشاكل والأزمات التي يتعرض لها الحركة القومية
الثاني: برلمان جديد
بغض النظر عن أيٍّ من التحالفين – الشعب والأمة – سيفوز بأغلبيته، إلا أن شكل البرلمان المقبل وخريطته الحزبية ستختلف بشكل جذري عنهما حالياً. إذ بفعل التحالفات الانتخابية التي تشهدها الانتخابات التركية لأول مرة، ستتمكن بعض الأحزاب الصغيرة من دخول البرلمان، وسيشارك في البرلمان 7 أحزاب سياسية على أقل تقدير (هي الأحزاب المنضوية رسمياً وضمنياً في التحالفـَيْن) مقابل أربعة حالياً. وهو متغير سيكون له الأثر الكبير على آلية عمل البرلمان والتوازنات داخله والعلاقة مع الرئاسة وغيرها من النقاط، فضلاً عن الفائدة بعيدة المدى المتمثلة بإثراء الحياة السياسية التركية بتجربة مختلفة وأحزاب جديدة.
الثالث: معارضة قوية
تظهر بعض استطلاعات الرأي احتمالية فوز تحالف الأمة المعارض بأغلبية البرلمان المقبل في حال دخله حزب الشعوب الديمقراطي وتعاون معه، بينما تظهر أغلبها تفوق تحالف الشعب. لكن وبغض النظر عن هذه التوقعات، إلا أنه يمكننا الجزم بأن المعارضة التركية ستكون بكل الأحوال أقوى في البرلمان المقبل عنها اليوم، خصوصاً في ظل غياب أي توقعات بفوز ساحق أو كبير لأيٍّ من التحالفين. وبالمقارنة مع 16 عاماً امتلك فيها العدالة والتنمية أغلبية البرلمان بما سهّل عمله كثيراً في ظل التناغم بين البرلمان والحكومة والرئاسة، يمكن القول إن هذا مستجد مهم في الساحة السياسية التركية.
الرابع: تحالفات جديدة
يبدو تحالف الأمة المعارض مشكلاً من فسيفساء حزبية وفكرية متنوعة بل ومتعارضة، من العلماني الكمالي للإسلامي المحافظ ومن الديمقراطي للقومي، ولا يكاد يجمعها سوى التوافق على مواجهة أردوغان والعدالة والتنمية، وإن رفعت شعارات تتعلق بالاقتصاد والسياسة الخارجية والنظام البرلماني والديمقراطية. ولذا يحمل التحالف في داخله عوامل تفككه بعد الانتخابات، إذ هو تحالف انتخابي مؤقت أكثر من كونه تحالفاً سياسياً دائماً، بحيث يمكن توقع سير كل من أحزابه وفق أفكاره وبرامجه وسياساته الخاصة، وبما قد يجعل بعضها (السعادة مثلاً) أقرب للعدالة والتنمية منه لتحالف المعارضة في بعض القضايا والملفات.
في المقابل، ورغم التناغم المبدئي في معسكر تحالف الشعب بين العدالة والتنمية الديمقراطي المحافظ والحركة القومية والاتحاد الكبير القوميين (كأحزاب يمينية)، إلا أنه من الصعب توقع استمراره بنفس التركيبة ومنظومة العلاقات في ظل المشاكل والأزمات التي يتعرض لها الحركة القومية بعد انشقاق الحزب الجيد عنه وتراجع فرصه وحضوره، وفي ظل احتمال انضمام أحزاب أو تيارات أخرى للتحالف في المستقبل مثل حزب الدعوة الحرة الإسلامي الكردي وغيره.
تحمل الانتخابات المقبلة، وبغض النظر عن التفاصيل الدقيقة لنتائجها في الرئاسة والبرلمان، بذور متغيرات مهمة في المشهد السياسي الداخلي سيكون عنوانها نظام سياسي بمفردات وسياقات مستجدة تفرض ثقافة سياسية جديدة وتوازنات مختلفة على البلاد
كما أن نتيجة الانتخابات البرلمانية قد تفرض على مختلف الأحزاب وفي مقدمتها العدالة والتنمية توافقات وتحالفات جديدة وفق الخريطة الجديدة للبرلمان، في غياب قدرة أي من التحالفين على السيطرة والاستحواذ.
في الخلاصة، تحمل الانتخابات المقبلة، وبغض النظر عن التفاصيل الدقيقة لنتائجها في الرئاسة والبرلمان، بذور متغيرات مهمة في المشهد السياسي الداخلي سيكون عنوانها نظام سياسي بمفردات وسياقات مستجدة تفرض ثقافة سياسية جديدة وتوازنات مختلفة على البلاد، قد تتخطى تأثيراتها المشهد الداخلي للسياسة الخارجية أيضاً. العنوان العريض لهذه المتغيرات المتوقعة هو النهاية الوشيكة للحياة السياسية التي تعودتها تركيا منذ 2002 بسيطرة العدالة والتنمية وحكمه منفرداً، وسيكون جوهرها منظومة علاقات جديدة بين الأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة وخرائط جديدة للتحالفات والتوافقات