لم تكن الملابس والأزياء دائمًا موضع اهتمامٍ أو ذات تأثير كبير على “معرفة” شخصياتنا كما هي اليوم. ولو عدنا لتاريخ الحضارات القديمة، لوجدنا أنّ الملابس وُجدت لهدفٍ وظيفيّ، إذ كان الهدف من ابتكارها بشكلٍ أساسيّ هو تغطية العورة من جهة، ولتدفئة الجسم من جهةٍ أخرى، أيْ أنها أسباب تدعم النجاة والبقاء على قيد الحياة أكثر من كونها إضافات تجمّل الجسم وتغيّر من شكله.
ومع التقدم الكبير الحاصل في كافة المجالات على مدى قرونٍ عديدة، أصبحت خيارات الملابس كثيرة، وتطوّرت أهدافها لتتحول من هدفها الوظيفي لتصبح علامة اجتماعية ذات قدرات تعبيرية وتواصلية، فهي تؤثر على الطريقة التي نرى بها أنفسنا، وتساعدنا على أن نرى ذواتنا في ضوء ما نرغب أن نكونه. كما تعمل، سواء أردنا أم لم نرد، على عكس شخصياتنا للآخرين ووضعنا الاجتماعيّ أمامهم، أي أنها باتت وسيلة اتّصال صامتة بين الأفراد والجماعات.
مع بدء هذا التحول من الأداء الوظيفي البحت إلى النطاق الواسع من الاستخدامات الاجتماعية المحتملة للملابس، يمكن للمرء أن يرى كيف بدأت أنواع وأنماط الملابس بالتنوّع والاختلاف. فقد تدخّلت الكثير من العوامل فيها، كالأديان المختلفة، والطبقات الاجتماعية والآراء الجنسانية والهوية الاجتماعية والشخصية وغيرها الكثير من العوامل.
وفي منتصف القرن العشرين، ظهر مصطلح “الموضة” كمفهوم. فلم تعد الملابس عملية بحتة، ولم تعد كيانات خارجية تتحكّم بها وترسم مساراتها، بل سرعان ما أصبحت طابعًا فردانيًّا بحتًا وأداةً للتحديد الذاتي والتعريف بالنفس والحديث عن الهوية. ونتيجة لذلك، أصبحت الصناعات الموجهة نحو الملابس منتشرة بشكل متزايد في المجتمعات، وبدأ منتجو الملابس في إنشاء وتسويق ونشر المزيد من الأنواع والأنماط والتصميمات أكثر من أي وقت مضى، ممّا خلق مجموعة لا حصر لها من الاحتمالات لمرتديها.
كلّ تلك المستجدات أدّت لما يمكن تسميته بعلم نفس الأزياء ” the psychology of fashion“، أي محاولة دراسة أثر الملابس والثياب على النفسية وما يتعلّق بها من ثقة وصورة النفس ومزاج وما إلى ذلك. إضافةً لفهم دوافع الأفراد بامتلاكها وتغييرها وأثر النزعة الاستهلاكية على الصحة النفسية والعقلية للأفراد.
الفائدة من الحصول على قطعة جديدة من الأزياء هي ربح عصبي، بمعنى أنّ الأمر يمنحنا شعورًا جيدًا بتجربة شيء نحبه ونريد أن نكون جزءًا منه
المكافأة والرغبة بامتلاك الجديد
فسيولوجيًّا، يمكن الرجوع إلى “مبدأ المكافأة”، حيث يتمّ تحفيز أجزاء معينة في الدماغ في حالات الحصول على شيء جديد أو ما هو مرغوب. ولذلك نسعى دومًا لتحقيق أو الحصول على الأشياء الجديدة لتحفيز الهياكل العصبية المسؤولة عن سمة الحوافز والدوافع والمشاعر الإيجابية، وخاصة تلك التي تنطوي على المتعة كمكوّن أساسي. ووفقًا لعلم الأعصاب، يمكن تعريف المكافأة بأنه كلّ ما لديه القدرة على جعلنا نقترب منه ونستهلكه.
وبالتالي، يمكننا القول أنّ الفائدة من الحصول على قطعة جديدة من الأزياء هي ربح عصبي، بمعنى أنّ الأمر يمنحنا شعورًا جيدًا بتجربة شيء نحبه ونريد أن نكون جزءًا منه. لكن الأمر يتحوّل لوجهٍ آخر حينما يعتاد المرء على امتلاك تلك الأشياء الجديدة والاستكثار منها، الأمر الذي قد يثبط من نظام التحفيز بالدماغ ويختلّ تعريف الحافز والدافع، بحيث يصبح الفرد ميّالًا أكثر للامتلاك وتصبح الأشياء الجديدة التي اعتاد عليها لا تفي بالغرض ولا تؤدي لمستوى المشاعر الإيجابية المطلوب، فينتج ما يمكن أنْ نسمّيه بالانفجار، سواء فيما يتعلّق بالطعام أو الأزياء أو غير ذلك.
نتاجٌ طبقيّ ونزعة للتقليد
للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسيّ “جيل ليبوفيتسكي” تحليلًا اجتماعيًا مميّزًا عن ظهور الموضة وتصاعد أفقها في جميع طبقات المجتمع، بحيث أصبحت جميع الطبقات بغض النظر عن وضعها الاقتصادي والمادي. إذ يرى ” ليبوفيتسكي” أنّ التنافس بين الطبقات ونزعة المظهرية هو ما أدّى إلى نشوء وتشكّل ظاهرة الموضة “الشاذة”. فكلما ابتكرت طبقة النبلاء أو الطبقة العليا في أي مرحلة تاريخية زيًا ما، سعت الطبقات الأقل منها لتقليده واستنزاله إلى طبقتها، وهو السلوك النابع من رغبة لاشعورية في الانتماء للطبقة الأعلى.
وبما أنّ الطبقات الأقل لا تستطيع في جميع الأحوال الاحتفاظ بتفاصيل وتكاليف الأزياء الباهظة بما لا يتناسب مع ميزانياتها وإمكانياتها المادية، فتجد نفسها تلجأ لتقليدٍ شبيه لكنّه مشوّه بعض الشيء، مما يدفع بالطبقة الأعلى للتخلي عن الزي وابتكار آخر جديد تتميز به، وهكذا يستمرّ التنافس محصورًا في دائرة مغلقة.
الطبقات الفقيرة تقلّد الطبقة الراقية في لبسها بحثًا عن التقدير الاجتماعي، تمامًا كما تعمل الطبقات الراقية على الابتكار والتجديد باستمرار بهدف المحافظة على الفرق بين الطبقات الاجتماعية
ربما نستطيع من خلال نظرية ” ليبوفيتسكي” هذه، الوصول إلى تفسيرٍ حقيقيّ للاهتمام المتزايد بأفراد الطبقات الوُسطى في المجتمعات الحالية بآخر صيحات الموضة وامتلاء الأسواق بالأزياء والثياب المقلِّدة للعلامات التجارية العالمية والشهيرة، رغبةً في تقليد الطبقات البرجوازية والظهور بمظهر الأغنياء.
كما يجادل عالم الاجتماع “هربرت سبنسر” أيضًا بأنّ الطبقات الفقيرة تقلّد الطبقة الراقية في لبسها ومظهرها بحثًا عن التقدير الاجتماعي، تمامًا كما تعمل الطبقات الراقية على الابتكار والتجديد باستمرار وتغيير أزيائهم ومظاهرهم بهدف المحافظة على الفرق بين الطبقات الاجتماعية، أيّ أنّ التغيير يفرض نفسه دائمًا من أعلى كي يعيد تسجيل التمييز الاجتماعي، ومن هذه الحركة المزدوجة للمحاكاة والتمييز ولدت الموضة.
إضافةً لذلك، يرى “ليبوفيتسكي” أنّ ظهور صناعة “الملابس الجاهزة” التي تحاكي تصميمات الأزياء الراقية والماركات العالمية مع الاستغناء عن بعض التفاصيل، قد نَقلت الصيحات الحديثة من طبقات المجتمع الراقي إلى الشارع والطبقات السُفلى في جميع أنحاء العالم، داعيةً الشباب إلى التحرر والنزعة العملية والتخفف من قيود ومعايير الزي القديم الاجتماعي.
استقلال فردانيّ وحريّة مخادعة
وممّا لا شكّ فيه أنّ المحرّك الأساسي للعالم الاستهلاكي والرأسمالي الذي نعيش فيه هو تنافس البشر وحب الذات الذي يحملهم علي الرغبة العنيفة في مقارنة أنفسهم مع الآخرين والانتصار عليهم بأيّ طريقةٍ كانت. أيْ أنّنا نبحث في النهاية عن التقدير الاجتماعي، ولهذا يقول عالم الاجتماعي الاقتصادي “ثورستين فيبلن” أنّنا غالبًا ما نحبّ الموضة لأنها تسمح بوضعنا في طبقة اجتماعية معيّنة وتمنحنا ماركة يمكننا استغلالها لنتميّز بها عن غيرنا.
أصبح الاستهلاك قيمة اجتماعية، فالفرد لا يستهلك ما يريده فحسب، وإنما يستهلك ما يجد جيرانه وزملاءه يستهلكونه، ومن هنا نفهم الدور التي يقوم به الإعلان في العصر الحديث.
وبالتالي، أصبح استهلاك الفرد لا يتوقف على ذوقه وما يريده هو بقدر ما يتأثر بما يستهلكه الآخرون. أي أنّ التداخل بين أذواق المستهلكين هي ما يحدّد ذوق المستهلك. وبكلماتٍ أخرى، أصبح الاستهلاك قيمة اجتماعية، فالفرد لا يستهلك ما يريده فحسب، وإنما يستهلك ما يجد جيرانه وزملاءه يستهلكونه، ومن هنا نفهم الدور التي يقوم به الإعلان في العصر الحديث.
أصبحت الثياب والملابس موضعًا للاستعراض الفرديّ، يحاول كلُّ فردٍ من خلالها عرض ما لديه أمام من حوله مستثمرًا ذاته وشخصيته وأناه بطريقةٍ تكاد تتحول إلى النرجسية، وهو ما أسماه “ليبوفيتسكي” بمصطلح “الفردانية الجمالية”، أي أنّ الموضة تسمح باستقلال الأفراد فيما يتعلّق بمظاهرهم مقابل العديد من القيود الاجتماعية الأخرى، إذ أنّ هناك مساحةً لظهور الذوق الشخصي في عالمٍ تحكمه دور صناعة الأزياء ومصمّميها ومستثمريها.
وهكذا، تعمل الموضة وعالم الأزياء على خداع الأفراد بحريّتها وقدرتها على تحديد ذاتها وبناء هويتها ورسم ملامح شخصيّتها من خلال زرع النزعة الاستهلاكية عند الأفراد وتحفيزهم على الامتلاك والتغيير المتجدّد والحرية المشروطة بما تفرضه عليهم دور الأزياء وشركات صناعة الملابس من جهة، وأذواق الآخرين وتقبّلهم من جهةٍ أخرى.