قبل قرابة 25 سنة، كانت الأنظار موجهة نحو روندا الجمهورية الإفريقية بمنطقة البحيرات العظمى، لتناقل أخبار الحرب الأهلية هناك، بين المكونين الرئيسين في البلاد، الهوتو والتوتسي، التي راح ضحيتها قرابة 800 ألف قتيل، أما اليوم فالأنظار تتجه لتلك الدولة الإفريقية لنقل نجاحها الاقتصادي وتحولها إلى واحدة من أكبر اقتصادات إفريقيا.
800 ألف قتيل في 100 يوم
في ليلة الـ6 من أبريل/نيسان عام 1994 أُسقطت طائرة كانت تقل الرئيس الرواندي آنذاك جوفينال هابياريمانا ونظيره البوروندي سيبريان نتارياميرا وقتل جميع من كانوا على متنها، حينها ألقى متشددو الهوتو باللائمة على جماعة الجبهة الوطنية التي تتشكّل من أقلية التوتسي، وبدأوا على الفور حملة منظمة للقتل.
في تلك الليلة، بدأت مليشيات قبيلة الهوتو التي تشكل 84% من السكان، حملة تطهير عرقية واسعة لقبيلة التوتسي التي تشكل 15% من السكان، حيث سُلمت قوائم بالغة التنظيم بأسماء خصوم الحكومة المكونة من الهوتو إلى المليشيات المسلّحة الذين ذهبوا وقتلوهم إلى جانب قتل جميع أفراد أسرهم.
نهاية هذه الإبادة، جاءت على أعقاب سيطرة بول كاغامي الرئيس على البلاد
في تلك الفترة، ولمدّة مئة يوم، قتل الجيران جيرانهم كما قتل بعض الأزواج زوجاتهم المنتميات للتوتسي وقيل لهم إن رفضوا فسوف يقتلون، وكانت بطاقات الهوية الشخصية في ذلك الوقت تتضمن تحديد الانتماء العرقي، ومن ثم أنشأت المليشيات نقاط تفتيش في الطرق حيث كان يجري قتل التوتسي.
وجمهورية رواندا التي تعني “أرض الألف تل” باللغة المحلية تعد إحدى الدول التي ينبع منها نهر النيل، وتقع في شرق إفريقيا بمنطقة البحيرات العظمى لشرق وسط إفريقيا، تحدها تنزانيا شرقًا، وأوغندا شمالاً، والكونغو الديموقراطية غربًا وبوروندي جنوبًا، وهي من أقاليم الكونغو الكبير.
كان لدى الحزب الحاكم في ذلك الوقت، الحركة الوطنية الجمهورية من أجل الديمقراطية والتنمية، جناح شبابي يطلق عليه اسم (إنتراهاموي)، تحولت إلى مليشيا تنفذ المذابح، كما أنشأ متطرفو الهوتو محطات إذاعية وصحفًا تنشر الكراهية وتحث الناس على “التخلص من الصراصير”، أي قتل التوتسي.
وكانت الإذاعة تبث أسماء الأشخاص الموجودين على قوائم الاغتيالات والقتل، حتى القساوسة والراهبات، اتهموا بالقتل من بينهم بعض ممن لجأ إلى الاختباء في الكنائس، كما احتجزت الآلاف من نساء التوتسي لاستغلالهن في إشباع الرغبات الجنسية.
نهاية هذه الإبادة، جاءت في أعقاب سيطرة بول كاغامي الرئيس الحاليّ وقائد الجبهة الوطنية التي تكونت من نحو 4 آلاف مقاتل معظمهم من التوتسي الذين تربوا في المنفى، على البلاد في يوليو/تموز 1994.
نتائج وخيمة للكارثة
عندما وضعت الحرب أوزارها، كان تسعة أعشار السكان الباقين على قيد الحياة في رواندا مزارعين، وكانت الزراعة العمود الفقري للاقتصاد، لكن الإنتاج الزراعي انخفض بشكل حاد بعد الحرب، إذ خسرت البلاد نحو ثمن سكانها الذين شكلوا خُمس القادرين على العمل والمتوفرين على الخبرة في الزراعة.
عقب الحرب، كانت الكهرباء متوفرة لأقل من عُشر السكان فقط، والأمية تتفشى في نصفهم، ومتوسط الدخل السنوي للمواطن لم يتجاوز حينها 360 دولارًا، فرّ المستثمرون جميعًا، والمواطنون الأغنياء كذلك، والشباب أصحاب الكفاءات، وحتى المؤسسات الخيرية التي يفترض بها إغاثة الناس حين الكوارث، ابتعد جلها عن الكارثة الرواندية.
سنة 1998، وضعت الحكومة الرواندية قانون استثمار جديد، وأنشأت نظام “الشباك الواحد” للاستثمار
حينها أيضًا، كانت البنية التحتية متهالكة ولا تصلح لأي نشاط اقتصادي، وكان الجهل يسيطر على غالبية السكان، واليأس متمكّن منهم، ولا أمل أمامهم سوى الاجتهاد للخروج من محنتهم وتحويلها إلى منحة تمكّنهم من الإقلاع.
إجراءات محفزة
تغيّر الوضع هناك كان بحاجة إلى معجزة وهو ما حصل بالفعل، فقد بدأ العمل أولاً على المصالحة بين أبناء الشعب الواحد، واعتماد الحكومة سياسة “الاتحاد والمصالحة”، المستندة إلى نظام قضائي تقليدي يعرف باسم “غاكاكا”، أمكن بموجبه التعامل مع مئات الآلاف من الأشخاص المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، وتحقيق التسامح بين الناس واستئناف العيش المُشترك.
بموجب هذا النظام يجتمع سكان القرية بأكملها ليشهدوا على عمليات الاعتراف وعلى صدقيتها، وتشجيع الضحية على الصفح والغفران، والاتفاق على بعض التعويضات مثل المساعدة في حراثة حقل الضحية لفترة من الوقت، وقد نجح هذا النظام إلى حد كبير في تحقيق المصالحة والاستقرار في رواندا.
بالتوازي مع ذلك، كثّفت السلطات الجديدة الجهد المنظم للقضاء على الفساد المالي والإداري، كما توجّهت السلطات إلى الزراعة كونها النشاط الرئيسي للبلاد حينها، فوضعت الحكومة خطة لتطوير الزراعة، وجلبت خبراء أجانب لأجل ذلك.
وضعت الحكومة آليات لحل الإشكالات العالقة، مثل شبكة هاتفية للمعلومات الزراعية، ومكتب للتصدير وخدمة حكومية لنقل المحاصيل، كما وفرت الأسمدة بأسعار في متناول المزارعين، ومعدات للتأجير بأسعار مشجعة، وقروض ميسرة، وغير ذلك، وكانت النتيجة مذهلة.
سنة 1998، وضعت الحكومة الرواندية قانون استثمار جديد، وأنشأت نظام “الشباك الواحد” للاستثمار، الذي يمكن للمستثمر أن يقوم بجميع الإجراءات القانونية في مكان واحد، واليوم في رواندا، يمكن إنشاء شركة في يوم واحد، أو بضع ساعات فقط، بينما يحتاج المستثمر في دول كثيرة في العالم إلى أسابيع أو شهور لكي يحصل على ترخيص للاستثمار.
عقب ذلك، تأسّس مجلس استشاري للاستثمار والتطوير، وكان أعضاؤه من الروانديين ذوي الكفاءات العليا والمنتشرين بمختلف دول العالم، فضلاً عن خبراء من الأجانب في الاقتصاد والطب والإدارة والإعلام، يضعون الخطط الإستراتيجية، ويجتمعون مرتين في السنة لتقييم سيرها.
كما ألغت رواندا التأشيرة عن جميع الأجانب سواء كانوا أفارقة أم أوربيين أم غيرهم، وهذا ما جعل كيغالي أكثر العواصم الإفريقية استقبالاً للسياح الأجانب، بالنظر إلى هذه التسهيلات وسلاسة الإجراءات التي يجدها كل زائر في مطارها الدولي، حيث تعتبر السياحة أحد أكبر القطاعات في اقتصاد البلد، رغم أن مساحته صغيرة جدًا، حيث تبلغ نحو 26 ألف كيلومتر مربع فقط، وعدد سكانه في حدود 12 مليون نسمة.
نتائج كبرى
خلال سنوات قليلة، بدأت النتائج تظهر للعيان، فقد حققت رواندا أحد أسرع معدلات النمو في العالم، من سنة 2000 إلى 2015، بمعدل 7% سنويًا، وترتب على هذا النمو انخفاض معدل الفقر من 60% إلى 45%، ونسبة الأمية من 50% إلى 25%، ومتوسط أمد الحياة من 48 سنة إلى 64 سنة، كما نالت الرتبة الـ44 في مؤشر الشفافية، متفوقة على إيطاليا والبرازيل والهند وجل دول العالم.
وتعتبر العاصمة كيغالي، من أفضل المدن الإفريقية في النظافة والأمن والمحافظة على نظام المدينة النموذجية، وتضاهي شوارع وسط مدينة كيغالي، بنظافتها وحسن صيانتها، معظم شوارع العواصم الأوروبية، فجميع شوارع العاصمة حتى في الضواحي رصفت على أعلى مستوى، والخضرة شرط أساسي في رواندا، فالاهتمام بالتشجير من السياسات الصارمة التي تنتهجها الحكومة الرواندية، وحققت السياحة وحدها نحو 43% من الدخل الإجمالي للبلاد.
يحسب لكاغامي تحقيق التنمية الاقتصادية في رواندا
تمتلك رواندا الأن أكبر مزرعة تقوم على الطاقة الشمسية في إفريقيا جنوب الصحراء، وأصبح إنتاجها من القهوة مفضلاً لدى أرقى الشركات العالمية المسوقة لهذه السلعة، كما نجحت في تخفيض نسبة المكون الأجنبي في ميزانيتها العامة (منح وقروض) حتى أصبح نحو 20% من الميزانية العامة، مقارنة بعام 1994 عندما كانت الميزانية كلها تعتمد على المصادر الأجنبية.
حفظ الذاكرة
نجح الروانديون في استثمار محنتهم وتحويلها إلى منحة يستفيدون منها، ويوجد في كيغالي عدة نصب تذكارية ومتاحف ومراكز مخصصة لذكرى الإبادة الجماعية في رواندا، مثل مركز “ميموريال للإبادة الجماعية” في كيغالي و”المتحف الوطني” لرواندا ومتحف “كاندت للتاريخ الطبيعي“ ومقر الحكومة الرئيسي المعروف بـ “يورقويرو” حيث يشكل قرية بأكملها داخل منطقة كاسيرو في كيغالي.
ويسيطر كاغامي على الحياة السياسية في رواندا منذ أن أنهى جيش التمرد الذي أدخل البلاد في الحرب الأهلية والإبادة الجماعية في 1994، ويحسب له فضل تحقيق تنمية اقتصادية في رواندا، ولكن معارضين يتهمونه أيضًا بإدارة البلاد بطريقة قمعية، وتتهم منظمات حقوقية الحكومة بتضييق الخناق على وسائل الإعلام والمعارضة السياسية.