الشعوب تحصي بطولاتها والعرب يحصون الهزائم، وآخرها الهزائم الكروية في روسيا، فلم يفلحوا في تحرير أراضيهم المحتلة فظل العدو بينهم كأنه منهم ولم يرفعوا مستوى عيشهم فظل الفقر والبؤس ملازمًا لهم، فلما أرادوا المشاركة في لعبة السعادة الكونية عادوا بأثقل الهزائم وحلا لهم جلد الذات وتقريع ضمائرهم.
يذهب الجلد إلى حد احتقار العنصر العربي ونعته بالمعوق خلقة لا ثقافة، ويبالغ البعض من العاطفيين إلى حد القول إنه يجب على العرب الاختفاء من التاريخ والجغرافيا، لكني أتهم السياسة؛ فهي التي كسرت روح الفرد العربي فلم ينتصر، لا يتعلق الأمر هنا بالبحث عن شماعة لتخفيف الوزر ولكن كلما أدرت الأمر على وجه من وجوهه وجدت يد السياسي العربي تحطم مواطنيه وتحرمهم لحظة نخوة حتى في ملاعب كرة القدم.
الاستعمال السياسي للرياضة
قد يكون استعمال الرياضة سياسيًا أمرًا مشتركًا بين الدول، لكنه عند العرب سياسة ممنهجة القصد منها صرف أنظار الناس عن الاهتمام بالشأن العام، هذه فكرة قديمة ولكنها لا تزال فاعلة توجهها سياسة إعلامية محكمة، لذلك تبذل الأنظمة جهدًا كبيرًا في جعل الناس كافة من جمهور الكرة، وتعتبر الدورات الدولية مناسبات جيدة لتكثيف التركيز هناك وتمرير سياسات غير شعبية والناس منشغلون، وتعتبر تونس رائدة في هذه التعمية والخديعة، هذا الاستعمال السياسي أدّى إلى نتائج كارثية على الرياضة أولاً ومزاج الجمهور ثانيًا، كما كانت له نتائج سلبية أخرى كثيرة.
في تونس كان تعيين هيئات التسيير في النوادي الكبرى أقرب إلى المؤتمرات السياسية التي يحرص النظام على التحكم فيها لوضع إدارات فنية موالية تأتمر بأمره سياسيًا
لقد بقيت الرياضة رهينة تملك النظام، فهمشت الرياضات الفردية الكاشف الفعلي للمواهب والطموح وجيرت التمويلات العامة للرياضات الجماعية وأهمها كرة القدم وهي الأكثر جذبًا للجمهور الغافل، ففي هذه الأيام مثلاً نركز كثيرًا على الخسارات في كرة القدم، فننسى الخسارات الأكبر في مجال الرياضات الفردية، ففي الدورات الأولمبية تحصل نفس الفضائح العربية في مستوى النتائج لكن مستوى الغضب ينظم فلا نهتم إلا قليلاً.
كما منع هذا التملك تحرير الرياضات الجماعية وتحويلها إلى مشاريع ربح يديرها مستثمرون على طريقة النوادي الأوروبية، فتحرير الرياضة كان يعني قطع يد الأنظمة عن التدخل فيها وتوظيفها سياسيًا، ففي الحالة التونسية (مثلاً) كان تعيين هيئات التسيير في النوادي الكبرى أقرب إلى المؤتمرات السياسية التي يحرص النظام على التحكم فيها لوضع إدارات فنية موالية تأتمر بأمره سياسيًا.
فضلاً عن ذلك اشتغلت النوادي كأحزاب سياسية بلا اسم سياسي واستخدمت في فترات كثيرة كمحركات لتنابز جهوي كرس الحزازات المانعة لكل لحمة شعبية ضد النظام، وكان إعلام النظام يدق الأسافين ببراعة متناهية، فعلى سبيل المثال كان جمهور الترجي الرياضي التونسي عندما يذهب إلى سوسة لمقابلة النجم الرياضي الساحلي يقول إنه ذاهب إلى “إسرائيل” ويقول جمهور النجم وهو قادم إلى العاصمة إنه ذاهب لمقابلة الصهاينة (أي فريق الترجي وجمهوره) وكان النظام يسمع ويفرح فسياساته ناجحة والجمهور منقاد.
انعكست هذه الصراعات على اختيار لاعبي الفرق الوطنية في المنافسات الدولية؛ فكم من رياضي جيد أغمض حقه لأسباب تتعلق بأمر سياسي غير مباشر، أو لحقد جهوي غرسه النظام وبرره إعلامه المتواطئ.
الإعلام الرياضي كان ولا يزال من جنس الإعلام السياسي
الإعلام الرياضي يجرم في حق الرياضة
يكفي أن يدفع رياضي موسر لصحفي ثمن عشاء لكي تظهر صورة الرياضي في الصفحة الأولى أكبر حتى من صورة الرئيس، صحافة زمن بن علي يمكن أن تعطينا نماذج كثيرة من خلال صور الصفحات الأولى، وإذا أراد رئيس جمعية أن يبيع لاعبًا ( توجد سوق نخاسة قذرة هنا) يوعز لصحفي فيرفع قيمة الرياضي في السوق بقطع النظر عن الموهبة لذلك بيع لاعبون كثر ولم يحقق المشتري أي مكاسب.
قبل المباريات الدولية ينشط إعلام مأجور لتحقير أبناء الجمعيات الصغيرة أو للحط من لاعبين منحدرين خاصة من طبقات فقيرة وليس لهم سند فيقصون من كل تشكيل، فزمن بن علي وسيطرة صهره على جمعية الترجي الرياضي كان تشكيل الفرق الوطنية يمر أولاً من مكتبه ولا سلطة للمدرب الوطني ولو كان أجنبيًا، وكان يسبق كل الاختيارات حملات إعلامية على لاعبي بقية الفرق تحط من شأنهم، وتعقد في الأثناء صفقات بيع لاعبين محليين وأجانب.
الإعلام الرياضي كان ولا يزال من جنس الإعلام السياسي، أحكام غير موضوعية أي غير رياضية وبعضها مأجور بعشاء رخيص، وهو أحد أدوات تخريب الرياضة في تونس ولا شك أن الأمر قابل للتعميم عربيًا فالحال واحدة وإن اختلفت المسميات وهو نفس الإعلام الذي يزرع الشقاق بين أقطار الأمة الواحدة إذا تعلق الأمر بتنافس بين قطرين.
المواطن الجاهل يسهل قياده
أرادت الأنظمة السياسية العربية دومًا أن يكون لها رعايا ولا يصل الرعايا إلى درجة المواطنة التي هي حالة وعي متقدم، واستعملت الرياضة كأداة تجهيل وتحكم في القطيع، لذلك لم ترب شخصية واعية وقادرة على فهم الرياضة بصفتها عملية أخلاقية بانية للكرامة الفردية والجماعية.
الرياضة تربية على الانتصار والانتصار شجاعة ذاتية يمكن أن تتوسع من الرياضة إلى السياسة، وهو أمر مخيف لحاكم يعرف أنه يجلس على رقاب شعبه بلا وجه حق
لقد كنا نشاهد الفرق الرياضية العربية على الملاعب مكبلة الأرجل خائفة مرعوبة بينما يحصرها منافسوها في مناطقها وهي تدفع البلاء بجهد مضاعف خوفًا من أن تمارس الهجوم على المنافس وتربكه، وإنه لمن دواعي حزني كعربي أن أتذكر في لحظة الكتابة أن تونس تنافس على كأس إفريقيا منذ الاستقلال ولم تفز به إلا مرة واحدة بواسطة لاعب برازيلي تم منحه الجنسية لهذه الغاية (نسي بعدها ولم نعد نسمع له ذكرًا وربما قد يكون عاد إلى بلده الأصلي).
لست أول من قال ذلك ولكني أكرره شخصية اللاعب العربي فوق الميدان هي عينة من شخصية الفرد العربي المقهور الخائف من الهزيمة قبل وقوعها، يدخل الملعب مهزومًا يردد العبرة بالمشاركة أو الخروج بأخف الأضرار أو التعادل يساوي انتصارًا، وأخيرًا تم ابتداع تبرير غاية في الانحطاط هو (الهزيمة المشرفة)، لذلك وطيلة عقود من الرياضات الجماعية نبغ مدافعون كثر ولم نر مهاجمين أفذاذًا إلا استثناء يؤكد قاعدة التربية على الخوف.
نموذج التربية صنعته الأنظمة السياسية في المدرسة وبواسطة أجهزة إعلامية محترفة في التخذيل قبل التحفيز، هل تخاف الأنظمة من مواطن قادر على الانتصار إجابتي هي نعم كبيرة وواثقة.
الرياضة تربية على الانتصار والانتصار شجاعة ذاتية يمكن أن تتوسع من الرياضة إلى السياسة، وهو أمر مخيف لحاكم يعرف أنه يجلس على رقاب شعبه بلا وجه حق، كلما انهزم الفرد من الداخل وتبنى عن نفسه كل الأحكام المسبقة الحاطة من إرادته، سهل قيادته سياسيًا.
نلاحظ هنا أنه عقب كل هزيمة تنطلق أصوات جلد الذات التي تصل إلى حد الكفر بالعرق نفسه كما لو أنه يحمل جينات هزيمة في دمه، والحقيقة أنه رغم انخراط جمهور واسع في هذا التجريح الذاتي فإن إعلام الأنظمة هو الذي يقود أوركسترا التخذيل ونبذ الذات.
يغيب عني علم كثير بما تعيشه فرق رياضية قادمة من شعوب أخرى أراها تنتصر ولا يمكنني إلا أن أتوقع أنها ربيت على الانتصار
وهكذا تتحول هزيمة في الكرة إلى هزيمة أكبر للجمهور وانتصار للأنظمة لقد صار جمهورها محبطًا بما يكفي لكي تواصل الحكم مرتاحة من احتمال انتفاضات كرامة، “اذهب لتلعب وانهزم لكي أحكمك على هواي، إن في هزيمتك انتصاري”، يهمس كل حاكم عربي في سره وهو يسمع غليان الجمهور ويرى بكاءه في الساحات المكسورة الخاطر.
إنها أوركسترا تملك خطة تبدأ من الحاكم الفعلي وتمر عبر المسير الرياضي لتنتهي بالرياضي نفسه الذي يستبطن الهزيمة المشرفة مكتفيًا بالسياحة الرياضية حتى قبل ظهور السلفي، أعرف أن هذا الكلام يظلم بعض الرياضيين الجيدين والواعين بالمهمة الوطنية ولكنهم حالات شاذة تؤكد قاعدة التلاعب السياسي بالرياضة في بلدان العرب، إن الوطنيين هنا يتحركون داخل برمجية فاسدة وضعتها يد تعرف أن تخلق الفساد وتعيش منه.
ألخص بلا أمل في انتصار قريب
يغيب عني علم كثير بما تعيشه فرق رياضية قادمة من شعوب أخرى أراها تنتصر ولا يمكنني إلا أن أتوقع أنها ربيت على الانتصار، لذلك تدخل اللعبة منتصرة وتهاجم وتتحمل نتائج اللعب الشجاع.
سألخص بلا أمل أن الانتصار ابن الديمقراطية التي تبدأ من الرأس السياسي حتى تصل إلى التسيير الرياضي حيث يمكن فرض الكفاءة قبل الولاء والمحسوبية، حينها سيكون هناك فرص كثيرة للفوز، ويشترط هذا تغيير برمجية أكبر تقود المدرسة منذ سن الطفولة الأولى تربي الطفل على النجاح بالكفاءة والاقتدار لا على النجاح بالغش في الامتحانات.
في انتظار أول انتصار عربي في لعبة جماعية دولية وجب تثوير المدرسة والمعلم ووجب تثوير الإعلام بتحريره من مرتزقة الوجبات الرخيصة في المطاعم الشعبية، إنها طريق طويلة لذلك فإن جيلي لن (زمخشرية) يفرح بانتصار كروي جميل ولو كان بين أبناء البلد الواحد، في الأثناء لنشاهد بحسرة بالغة انتصارات الآخرين على ذواتهم وعلى منافسيهم.