لم يكن طريق رجب طيب أردوغان إلى الرئاسة مفروشًا بالورود في دولةٍ يهيمن عليها النظام العلماني، فلقد نمت طموحاته السياسية وسط تجاهل إعلامي ورفض أيديولوجي جعل الباب يغلق أمامه مرارًا، لكن اليوم بالكاد تذكر تركيا دون أن يتبادر اسم أردوغان إلى الأذهان – إذا شاء المعارضون أم رفضوا – فهو من نهض بتركيا من انتصار إلى آخر.
يستكمل أردوغان هذه المسيرة اليوم بعد نتائج الانتخابات التي حصل فيها على نسبة 52.8% من الأصوات وغالبيتها من مدينة إسطنبول التي يسميها أردوغان “الخلاصة” أو “مفتاح جميع المدن التركية الأخرى”، ليبدأ بفضلها حقبة أو مرحلة جديدة في تاريخ تركيا، وذلك بعد تجارب مريرة أتى بثمارها اليوم. في هذا التقرير نستعرض أبرز المحطات السياسية والإنسانية التي صنعت اسم أردوغان داخل وخارج تركيا.
الحي والمدرسة التي جعلت أردوغان ما هو عليه اليوم
نشأ السياسي الإسطنبولي في حي قاسم باشا الذي توارث منه تواضعه الملحوظ وخطابه الشعبوي المميز، إذ يعتقد أن تربية أردوغان في هذا الحي كانت سببًا رئيسيًا في نجاحه للوصول إلى الشارع التركي وقياس نبضه وتحديد متطلباته، فاستعماله للغة الشعب وابتعاده عن التكلف لفت الأوساط العامة لخطاباته وأفكاره، إضافة إلى براعته في تذكير مناصريه بأنهم جزء من هذا الوطن ومسيرته، واستعماله مفردات تخاطب ودهم وحماسهم، مثل: “أخوكم هذا لا يعدكم بالمعجزات وإنما بالتنمية الشاملة، معكم يدًا بيد”.
لم تسمح أزقة قاسم باشا لأردوغان بنسيان الطبقة الفقيرة والمهمشة في البلاد، فاضطراره يومًا من الأيام لبيع السميت “الكعك التركي” والماء فيها، حفز لديه مشاعر المناصرة والتضامن مع الفئات التي حُكِم عليها بالعيش كمواطنين من الدرجة الثانية، وهذا الدافع نبع أيضًا من تعلمه في مدارس الأئمة والخطباء الإسلامية التي عانت سنوات طويلة من إجراءات الحظر والاحتقار المؤسسي، فلم يسمح لخريجيها دراسة أي تخصص جامعي باستثناء الشريعة الإسلامية، وهذا ما صرح به أردوغان في كلمة ألقاها عام 2013؛ معبرًا عن تعرضه للسخرية والاستخفاف، فعلى سبيل المثال قيل له إن دراسته لا تؤهله سوى لغسل الموتى.
نوعية التعليم الذي تلقاه أردوغان، جعله يعتز بهويته الإسلامية وجذوره العثمانية وصولًا إلى تاريخ السلاجقة، ومن هذه المرحلة بالتحديد يمكن فهم توجهاته الفكرية وقراراته التي اتخذها لاحقًا بشأن الحجاب وشرب الخمور
وبطبيعة الحال فإن نوعية التعليم الذي تلقاه أردوغان، جعله يعتز بهويته الإسلامية وجذوره العثمانية وصولًا إلى تاريخ السلاجقة، ومن هذه المرحلة بالتحديد يمكن فهم توجهاته الفكرية وقراراته التي اتخذها لاحقًا بشأن الحجاب وشرب الخمور وتعليم العربية في المدارس وبناء المساجد وإعادتها لمكانتها الحضارية الأولى وغيرها من الخطوات التي أزعجت العلمانيين وسببت نقاشات جدلية عما إذا كان أردوغان يستغل سلطته لفرض الشريعة الإسلامية ومظاهر التدين على المدن التركية.
يتضح انتماء أردوغان إلى الإسلام بشكل كبير في أجوبته أيضًا، فلقد أشيعت أقاويل عديدة تفيد بأن أسرته التي تنحدر من قرية دومانكايا الممتدة بالقرب من جبال محافظة ريزه، هي بالأصل من قبائل اللاز المسلمة في جورجيا وليست تركية الأصل، فكان رد أردوغان على هذه الاعتقادات، مقتبسًا الجواب من والده بـ”إن الله سيسألنا من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ ولن يسألنا ما قومك؟ وعندما تُسأل هذا السؤال، أجب “الحمد لله أنا مسلم”.
وهذا على النقيض التام من مصطفى كمال أتاتورك الذي حاول بجد قطع الحبال التي تربط الشعب التركي بتاريخه وهويته، من خلال تغريب اللغة أو القوانين أو الأعراف، إذ يمكن تعليل هذا التوجه بدراسته في “مدرسة شمس الدين” الابتدائية التي كان نظامها التعليمي يُسمى بـ”الأصول الجديدة” التي نادت بالتشبه بأوروبا وأفكارها.
جدير بالذكر أن أردوغان تأثر في مرحلة الإعدادية بمجموعة من المفكرين والأدباء الأتراك الذين أسسوا المحتوى الثقافي لديه وساهموا في ثراء وعيه السياسي مثل محمد عاكف أرسوي وأحمد نجيب فاضل قيصا كيوريك وعثمان يوكسل ونور الدين طوبجو وأحمد كباكلي وجلال الدين الرومي، وفي نهاية هذه المرحلة، تعلق الشاب الإسطنبولي بكرة القدم وتخلى عنها بناءً على رغبة والده، لينتقل من ملاعب الكرة إلى ساحات السياسة الوعرة.
صعود غير متوقع يغير العناوين العريضة في أحاديث السياسة
في المرحلة الجامعية، التقى أردوغان بأستاذه نجم الدين أربكان في جامعة مرمرة وأصبح ناشطًا في الأحزاب الإسلامية التي يقودها أربكان مثل “الخلاص الوطني” و”السلامة الوطنية” التي انتخب رئيسًا لها بمنطقة باي أوغلو التابعة لمدينة إسطنبول، وفي العام 1976 نفسه أصبح رئيسًا للمنظمة الشبابية في إسطنبول، لكن في نهاية المطاف حكم على هذه التيارات بالموت بعد بضعة أيام من الانقلاب العسكري الذي حل الأحزاب الإسلامية.
بعد عام واحد من الحظر، تخرج أردوغان من كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية وعمل محاسبًا وإداريًا في القطاع الخاص إلى أن عاد رئيسًا لفرع حزب “الرفاه الوطني” في إسطنبول الذي أسسه أربكان في عهد حكومة تورغوت أوزال، خلال هذه الفترة عمل أردوغان بجد بجانب أستاذه أربكان وأدخل أفكارًا وخططًا جديدةً للحزب ساعدته على تلميع اسمه وتحقيق الفوز في انتخابات باي أوغلو المحلية عام 1989.
المنعطف الرئيسي والأبرز في بداية حياته السياسية كان عام 1994 عندما انتخب عمدة إسطنبول ليكون أول محافظ يتولى منصب رئاسة البلدية في إسطنبول أهم المدن التركية على الإطلاق
لكن المنعطف الرئيسي والأبرز في بداية حياته السياسية كان عام 1994 عندما انتخب عمدة إسطنبول ليكون أول محافظ يتولى منصب رئاسة البلدية في أهم المدن التركية على الإطلاق، كما لم يكن هذا الفوز بالحسبان خاصة مع اشتداد قوة المنافسة مع مرشحي الأحزاب الأخرى مثل إلهان كسيجي وبدر الدين دلان وزوفلو ليفانلي وعلى دينتشار.
في أثناء الحملة الانتخابية لهذا المنصب، كان احتمال الفوز مجرد خيال لحزب الرفاه، وذلك لأسباب عدة منها انعدام شهرة أردوغان وسوء حظه في الإعلام، إلا أن الحزب اهتم بالناحية التنظيمية وابتكر الأغاني والشعارات التي تخاطب الشعب، مثل “تمام إن شاء الله” و”صوت الجماهير الصامتة”، وأدرج سياسات جديدة تعني باستغلال دور المرأة، فضلًا عن مئات الاستطلاعات الأسبوعية التي مكنتهم من معرفة المواطن وفهم احتياجاته.
خلال سنوات الانتصار الأولى، تعهد أردوغان بإنقاذ المدن التركية وسكانها من التلوث الشديد والنقص الحاد في مصادر المياه والطاقة وسوء البنية التحتية والمواصلات، ونجحت بالفعل هذه الوعود الدعائية باستمالة الشعب تجاهه ليصبح بعد ذلك أكثر الرؤساء إنجازًا في تاريخ تركيا، إذ أنشأ أكثر من 50 جسرًا ونفقًا وطريقًا سريعًا للحد من الأزمات المرورية وتسهيل التنقل بين المدن، كما سدد ديون البلدية التي بلغت نحو ملياري دولار أمريكي وبادر بجذب استثمارات ضخمة وصلت قيمتها إلى 4 مليارات دولار.
عام 1997 انتهى المطاف به في السجن بسبب أبيات اقتبسها من قصيدة “مآذننا رماحنا والمصلون جنودنا” التي قرأها أمام الجماهير في مدينة سيرت وفصل من رئاسة البلدية بتهمة التحريض على الكراهية الدينية ليسجن لمدة 4 أشهر مع استمرار المظاهرات أمام مبنى البلدية لفترة، رفضًا لهذا القرار المناقض للتصرفات الحكومية، فلقد نشرت القصيدة ذاتها في كتب المدارس الحكومية التي أوصت بها وزارة التعليم التركية.
من السجن إلى سدة الحكم
بعد خروج أردوغان من السجن قرر التعلم من أخطاء حزب الرفاه وأدرك صعوبة نيل غياته في الحكم مع الاستمرار بنفس الإيديولوجية والسياسة الفكرية، لذلك استغل قرار حظر حزب الفضيلة وانشق منه برفقة عدد من أعضائه وأبرزهم غريمه الحاليّ عبد الله غل وشكلوا حزب العدالة والتنمية عام 2001 هروبًا من التضييقات العلمانية.
حاول الحزب في جميع نشاطاته الابتعاد عن “الشبهات” الدينية، فعلى سبيل المثال نقل مقره من منطقة الفاتح المعروفة بالتجمعات الإسلامية إلى منطقة باي أوغلو (المكان الأكثر انفتاحًا وازدحامًا في البلاد)، فكان الخيار الأمثل لمخاطبة شرائح مختلفة من المجتمع التركي، كما وظف الحزب النساء في الدعايا الانتخابية والفعاليات الخيرية، حتى أزيلت تمامًا أي شكوك عن إيديولوجية هذا التيار.
أعلن أردوغان أن سياسة الحزب ستحافظ على أسس النظام الجمهوري الذي أسسه أتاتورك “في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99% من مواطني تركيا”
شكل هذا الحزب فرصة مريحة ومعقولة لتهدئة الأوساط اليسارية والعلمانية من غضبهم على الأحزاب الإسلامية السابقة، وبهذا أعلن أردوغان أن سياسة الحزب ستحافظ على أسس النظام الجمهوري الذي أسسه أتاتورك “في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99% من مواطني تركيا” على حد قوله، ومنذ ذاك الوقت لم يوصف الحزب بكونه إسلاميًا وإنما “ديمقراطي محافظ”.
هذه الوسطية أكسبت الحزب غالبية الأصوات في الانتخابات التشريعية عام 2002 بنيل ثلثي مقاعد البرلمان، الخطوة التي مكنته من تشكيل حكومة منفردًا بقيادة عبد الله غل بدلًا منه بسبب قرار منعه من العمل في وظائف حكومية ومنها الترشيح للانتخابات العامة، ولكن مع بعض التعديلات القانونية التي أجريت استطاع أردوغان أن يصبح عضوًا برلمانيًا عن مدينة سيرت ثم تولى منصب رئاسة الوزراء عام 2003 مؤكدًا موقفه في تجنب استفزاز العلمانيين واستغلال الدين في الأغراض السياسية.
في محاولة إثبات أخرى، طرح أردوغان قضية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، التي كانت قد تنقذ الفئات المتدينة أيضًا بسبب قوانين الاتحاد التي تدعم حرية المعتقد والدين، إضافة إلى هدفه في منع أي تدخلات عسكرية مفاجئة في المستقبل القريب.
استلم الطيب الحكم بعد سنوات مريرة من الانقلابات العسكرية والفراغات الاقتصادية التي شوهت البلاد وحاصرتها بالبطالة والديون، ومع ذلك فإن تركيز أردوغان على أهمية تحقيق مشروعه في بناء دولة “عميقة” أو “حديثة” شجعه على الاهتمام بالموارد البشرية والمسائل المالية، وبذلك سيطر على التضخم المالي ورفع الدخل الفردي السنوي، معتبرًا نفسه خادمًا لشعب لا سيدًا عليهم.
صورة توضح الفرق الذي أحدثه حزب أردوغان في منطقة “خليج أوغلو”
من الصعب التغاضي أو التعامي عن التحولات الجذرية التي حققها حزبه منذ توليه الحكم، فلقد شهدت تركيا تقدمًا ضخمًا في منشآت البنية التحتية، سماها قادة الغرب “الثورة الصامتة”، فلقد تم بناء ما يزيد على 367 ألف وحدة سكنية، مع 5500 مدرسة ومستشفى، و17 ألف كيلومتر من الطرق المزدوجة والسريعة، و30 مطارًا جديدًا، وآلاف المساجد، إذ تم بناء نحو 9 آلاف مسجد بين عامي 2006 و2009.
كذلك نجح في تغيير وظيفة البلديات التقليدية وجعلها أحد مراكز القوة في البلاد، لتصبح مثالًا للبلدان الأخرى ومحلاً لكسب الثقة والشعبية في عموم البلاد، وهي خطوات لم يكن تنفيذها سهلًا ولكنه بالتأكيد عزز من قوة الطيب في البلاد، وهو أمر يتفاخر به ولا سيما عندما تقارن إنجازاته بإنجازات الأحزاب السابقة مثل حزب الشعب الجمهوري الذي وجه إليهم أردوغان تعليقًا مفاده أنهم لم يزرعوا شجرة واحدة في البلاد والإجراء الوحيد الذي يذكر لهم حظر أذان محمد لمدة 18 عامًا والتسبب في موت عدد من المواطنين بسبب قمم القمامة التي انتشرت في كل زاوية من المدينة.
اعتنى أردوغان بهيئة الشؤون الدينية وعزز من دورها في المسائل والفعاليات الدينية وضاعف أعداد موظفيها مع زيادة موازنتها السنوية بأكثر من أربعة أضعاف
ومن جهة أخرى، اعتنى أردوغان بهيئة الشؤون الدينية وعزز من دورها في المسائل والفعاليات الدينية وضاعف أعداد موظفيها مع زيادة موازنتها السنوية بأكثر من أربعة أضعاف، إضافة إلى تشجيع الطلاب الأتراك على الانضمام لمدارس الأئمة والخطباء الإسلامية، إذ صرح أردوغان مغترًا بارتفاع عدد المنتسبين إلى هذه المدرسة من 65 ألف طالب إلى ما يقرب مليون شخص، وهو تحول عميق في نظرة الشباب الأتراك لدينهم وتراثهم وتاريخهم.
عام 2007، حقق أردوغان فوزًا سياسيًا كبيرًا في الانتخابات التشريعية التي نال حزبه 46.6% من مجموع الأصوات وشكل الحكومة الستين للجمهورية التركية، وجدد هذا النجاح عام 2011 مع فوزه بـ49.8% من الأصوات، ونهاية صار الرئيس الثاني عشر عام 2014 عندما انتخبه الشعب التركي رئيسًا للجمهورية التركية.
تلقت هذه التعديلات انتقادات من الأحزاب المعارضة مفادها أن هذه الإجراءات ستدفع الديمقراطية إلى الهلاك وتكرس السلطوية، لكن جاء رد أردوغان كعادته مقنعًا، إذ قال “لا تخرج الدكتاتورية من صناديق الاقتراع”
لم ينته طموح أردوغان إلى هذا الحد، ففي عام 2017 دعا إلى استفتاء شعبي بهدف التعديل الدستوري والانتقال إلى النظام الرئاسي لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد بعد محاولة الانقلاب الفاشلة وحالة الذعر التي عاشتها تركيا، إذ تمت الموافقة عليه بنسبة 51.4% ما مكنته من العودة إلى الحزب الذي أسسه وتركه بعد أن ترشح لرئاسة الجمهورية طواعيةً للقوانين الدستورية.
وكما جرت العادة، تلقت هذه التعديلات انتقادات من الأحزاب المعارضة مفادها أن هذه الإجراءات ستدفع الديمقراطية إلى الهلاك وتكرس السلطوية، لكن جاء رد أردوغان كعادته مقنعًا، إذ قال “لا تخرج الدكتاتورية من صناديق الاقتراع”، وهي إشارة إلى رغبة الشعب المنسجمة مع الحكومة التركية في تحقيق هذا النظام وما يتبعه من مصالح داخلية وخارجية.
حادثة مؤتمر دافوس أو الـOne Minute
خطف أردوغان أنظار وإعجاب الشعب التركي والعربي على حد سواء في هذا المؤتمر بعد المشادة الكلامية الحادة التي وقعت بينه وبين الرئيس الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريز الذي أخذ يدافع عن عدوان “إسرائيل” على غزة؛ ما أثار حفيظة أردوغان قائلًا “إسرائيل تعرف جيدًا كيف تقتل الأطفال وأنا أعرف جيدًا كيف قتلتم أطفالًا على الشواطئ” لينتهي الأمر به منسحبًا بشكل غاضب لعدم إعطائه فرصة للرد على تعليق الرئيس الإسرائيلي المطول.
على إثر هذا الموقف، احتشد الآلاف في إسطنبول بأعلام تركية وفلسطينية في محيط مطار أتاتورك لاستقبال أردوغان أو “البطل” كما أسماه البعض تأثرًا بموقفه الداعم للقضية الفلسطينية وتضامنه مع غزة بالتحديد في الوقت الذي تعمقت فيه مشاعر الإحباط واليأس لدى الشعوب العربية والإسلامية تجاه مواقف حكام العرب الصامتون.
دلل هذا الموقف على تحول كبير في سياسة تركيا الخارجية، فبعد انغلاقها على نفسها لسنوات طويلة، استطاع أردوغان أن يثقل من حجم تركيا السياسي إقليميًا ودوليًا عبر التفاته الملحوظ للشرق الأوسط وقضاياه
على نحو مفاجئ، دلل هذا الموقف على تحول كبير في سياسة تركيا الخارجية، فبعد انغلاقها على نفسها لسنوات طويلة وانشغالها بأزماتها الداخلية المتكررة وشؤونها مع الاتحاد الأوروبي، استطاع أردوغان أن يثقل من حجم تركيا السياسي إقليميًا ودوليًا عبر التفاته الملحوظ للشرق الأوسط وقضاياه، ونتيجة لذلك، نمت أبعاد اقتصادية وإستراتيجية وثقت العلاقات العربية والتركية في نواح متعددة، أفادت كلا الطرفين وجعلت تركيًا طرفًا بالغ الأهمية في المسائل السياسية ولاعبًا رئيسيًا في مجريات الأحداث، وخصوصًا بعد الربيع العربي الذي ساندته وفتحت أبوابها للمتضررين من سياسات دولهم.
المثير للدهشة حول نشاط هذه الحكومة قولًا وفعلًا، هو اهتمامها الممتد إلى القضايا العالمية والتي تخص الطوائف الإسلامية، فالعام الماضي، كان أردوغان أول سياسي يدعو المسؤولين وزعماء منظمة التعاون الإسلامي إلى التحرك للحد من الانتهاكات التي يتعرض لها المسلمون في إقليم أراكان والتي وصفها أردوغان بـ”الإبادة الجماعية”، وبعيدًا عن خطاباته الاستنكارية لهذا الاضطهاد الممنهجج، كانت دولته أول الدول التي تمكنت من الحصول على إذن لإرسال المساعدات الإنسانية إلى منطقة النزاع في ولاية راخين التي تعيش فيها غالبية الروهينغا؛ وهذه الخطوة لفتت أنظار العالم خاصة أن زوجته أمينة أردوغان شاركت في توزيع هذه المساعدات وزارت المخيمات في بنغلاديش.
تركيا تحتل المرتبة الثانية في العالم من حيث حجم المساعدات الإنسانية، إذ أنفقت حوالي 6 مليارات دولار في عام 2016
هذه التحركات المدروسة وضعت تركيا في مكانة مختلفة زادت من ارتباطها بالقضايا العالمية، حيث انتهجت سياسة المناصرة والدعم نفسها مع الأزمة السورية ومسألة القدس والانتهاكات الإسرائيلية، لتصبح قوة إنسانية عالمية أو “دولة إنسانية” كما يصفها البعض، فوفقًا لمصادر رسمية أفادت أن تركيا تحتل المرتبة الثانية في العالم من حيث حجم المساعدات الإنسانية، إذ أنفقت حوالي 6 مليارات دولار في عام 2016، وبعيدًا عن الجانب المادي فهي أبرز الدول التي تستغل منابرها ومناصبها لتسليط الضوء على القضايا المهمشة.
وبالنسبة إلى اعتماد أردوغان على الرموز الإسلامية والسياسية، فلقد رفع شعار “رابعة” خلال خطاباته بشكل متقطع، ولكن بعد حادثة الانقلاب الفاشل لوحظ تكرار رفع هذه الإشارة في مناسبات متعددة على هامش افتتاح عدد من المشروعات في البلاد؛ وهذا ما أثار الجدل بشأن انتمائه إلى “الإخوان المسلمين”، وردًا على ذلك قال الرئيس التركي إن هذا الشعار يمثل مبادئ الدولة التركية التي تقوم على 4 دعائم، وهي علم واحد وأمه واحدة وبلد واحد وحكومة واحدة، مضيفًا “هذا يعني أننا أمة واحدة مهما اختلفت أعراقنا وخلفياتنا”.
يعتقد بأنها أحد العلامات الأساسية الاحتجاجية والتي عادةً ما يقوم بها معارضي الانقلابات العسكرية، فاستخدمت كإشارة لرفض الحكم العسكري
لكن لاقت هذه الحركة الانتقادات نفسها في تونس العام الماضي خلال لقاء الرئيس التركي بالرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، على اعتبار أنه استغل هذه الزيارة لتأكيد تأييده لتنظيم الإخوان وتذكيرًا بضحايا مجزرة رابعة وانتقادًا لنظام السياسي الحاليّ في مصر أو بأنها رسالة للإمارات التي تدعم بعض الأطراف في تونس، إلا أن السلطات التركية نفت هذه الادعاءات وأكدت على كونه شأنًا داخليًا وشعارًا يمثل مبادئ الحزب لا أكثر.
وخلافًا لهذه التكهنات، فإنه يعتقد بأنها أحد العلامات الأساسية الاحتجاجية والتي عادةً ما يقوم بها معارضي الانقلابات العسكرية، فاستخدمت كإشارة لرفض الحكم العسكري واشتهرت بشكل واسع عندما أطيح بالرئيس المصري محمد مرسي بعد سنة واحدة من ترأسه الحكم.
فناء أردوغان لا يعني فناء سلطته
أعلن أردوغان منذ البداية عن رؤيته لـ “تركيا الحديثة” والتي عمل حزبه بدأب على تحقيقها، وهي الشعار التي وصف بـ “مشروع أردوغان” الذي لا يتمثل فقط في تطوير البلاد، وإنما بإعادة تشكيلها وتغيير ملامحها، ولإنجاز هذه المهمة كان لا بد من إجراء تغييرات دستورية ونظامية في البلاد، وهو ما أزعج المعارضة وأثار تخوفها من احتكار أردوغان السلطة لسنوات مديدة، لكن إلى متى؟
في خطاب ألقاه رئيس الوزراء داوود أوغلو في أغسطس/آب 2014، أشار إلى أن: “حزب العدالة والتنمية بدأ كحركة جيل جديد، ولكنه ليس حصرًا على جيل واحد كما أنه ليس مقتصرًا على أجيال وقرون معينة. بل هو رمز للكفاح من أجل العدالة والحق، انبثق من عمق التاريخ وسيتواصل إلى نهاية الزمان”.
تبعه تصريح آخر لأردوغان قال فيه “الهدف هو 2071، هدفنا نحن 2023، ولكن أنتم من ستقومون بتأسيس مستقبل البلاد حتى عام 2071″، فالتاريخ الأول إشارة إلى الذكرى الألف لدخول الإمبراطورية السلجوقية إلى تركيا بعد هزيمة الجيوش البريطانية في معركة “ملاذ كرد” بقيادة ألب أرسلان، والتاريخ الثاني دلالة على الذكرى المئوية للجمهورية التركية.
خطة أردوغان التي لا تنحصر فقط على التحديث والإصلاح والبناء، بل في خلق نظام متين وراسخ في الجذور التاريخية والدينية والاجتماعية لتركيا وعلى مر سنوات مديدة.
أما الجانب الاقتصادي فيكمن في جعل تركيا من بين أكبر اقتصادات العالم في 2023، وأن تكون أكبر قوة عالمية في العالم عام 2071، وعلى ضوء هذه المعطيات، تتضح خطة أردوغان التي لا تنحصر فقط على التحديث والإصلاح والبناء، بل في خلق نظام متين وراسخ في الجذور التاريخية والدينية والاجتماعية لتركيا وعلى مر سنوات مديدة.
ومع ظفر أردوغان مجددًا بأصوات وثقة الشعب التركي في انتخابات اليوم وسط منافسة شديدة وتقلبات اقتصادية مقلقة، تمكن أردوغان مجددًا من إزالة آخر العراقيل أمامه للمضي نحو مستقبل يحمل الكثير من سنوات التقدم والازدهار لتركيا إقليميًا ودوليًا.