لطالما تفاخرت تل أبيب بكونها عاصمة الشركات الناشئة، و”وادي السيلكون” في الشرق الأوسط، لكن تتوالى أخبار هروب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية من شركاتها وأصولها ومقراتها، إذ لم تقتصر الحرب على غزة على التطورات الميدانية العسكرية فحسب، بل امتدت لتضرب قلب الاقتصاد الإسرائيلي، في مشهد غير مسبوق، شمل كذلك الشركات المحلية حيث اختارت 80% من الشركات الإسرائيلية الناشئة ولاية “ديلاوير” الأمريكية كمقر لها، وحتى قبل الحرب انخفض الاستثمار الأجنبي بنسبة 60% في الربع الأول من 2023.
تزامنًا مع الانسحاب المتتالي للاستثمارات المحلية والأجنبية، تلاشت أحلام الازدهار وحلت محلها مخاوف وتساؤلات مصيرية حول قدرة “إسرائيل” على الصمود أمام هذه التحديات المتزايدة التي أفقدتها جاذبيتها الاستثمارية، فما أهم الشركات والصناديق السيادية والبنوك التي انسحبت من السوق الإسرائيلية؟
شركات وصناديق سيادة انسحبت من “إسرائيل”
منذ اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شهدت “إسرائيل” موجة غير مسبوقة من هروب الاستثمارات، حيث تسابقت الشركات الكبرى والصناديق السيادية للخروج من السوق الإسرائيلي، وفيما يلي قائمة بأبرز المنسحبين وتفاصيل قراراتهم الحاسمة:
الصناديق السيادية والتقاعدية والاستثمارية:
- صندوق الثروة السيادي النرويجي: سحب استثماراته بالكامل من “إسرائيل”، محذرًا من “حالة عدم اليقين الخطيرة” في السوق.
- صندوق التقاعد الدنماركي “بنسيون” (Danske Bank): سحب جميع استثماراته من البنوك الإسرائيلية.
- صناديق التقاعد البريطانية: واجهت ضغوطًا كبيرة للتخلص من استثماراتها في الشركات التي تزود “إسرائيل” بالأسلحة.
- صندوق تقاعد الجامعات البريطاني (USS): قلل استثماراته في الديون الحكومية الإسرائيلية والشيكل خلال الأشهر الستة الماضية.
- الوكالة الوطنية الأيرلندية لإدارة الخزانة: سحبت ما يقرب من 3 ملايين يورو من محفظة الأسهم العالمية الخاصة بها في صندوق الاستثمار الإستراتيجي الأيرلندي، وتحديدًا من الشركات الست التالية: بنك هبوعليم، وبنك لئومي، وبنك الخصم الإسرائيلي، وبنك مزواجي، والبنك الدولي الأول، ومتاجر رامي ليفي.
البنوك:
- بنك باركليز (Barclays): أعلن البنك البريطاني انسحابه المفاجئ من مزادات السندات الحكومية الإسرائيلية تحت ضغط نشطاء معارضين للعدوان الإسرائيلي على غزة.
- بنك HSBC: قلص البنك البريطاني استثماراته بشكل حاد في “إسرائيل”، محذرًا من عدم الاستقرار في السوق الإسرائيلي.
الشركات:
- إنتل (Intel): أوقفت الشركة الأمريكية العملاقة استثماراتها الاستراتيجية في “إسرائيل”، استجابةً للضغوط الدولية المتزايدة وحملات المقاطعة.
- نيلسن (Nielsen): قررت الشركة الأمريكية المتخصصة في المعلومات والبيانات وقياس السوق إغلاق فرعها في “إسرائيل”.
أسباب الانسحاب المستمر
في خضم العاصفة الاقتصادية التي تجتاح “إسرائيل”، تتجلى أسباب هروب الاستثمارات بوضوح في عدة عوامل رئيسية، كل منها يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل المشهد الاقتصادي الحالي:
- الإبادة الجماعية في غزة: ألقى الصراع المستمر بظلاله الثقيلة على الاقتصاد الإسرائيلي، فالحرب لم تقتصر على ساحات المعارك، لكن امتدت لتضرب في صميم الثقة الاستثمارية، فالخسائر البشرية والمادية الفادحة، إلى جانب الإنفاق العسكري الهائل، خلقوا حالة من عدم اليقين دفعت المستثمرين للبحث عن ملاذات آمنة بعيدًا عن “إسرائيل”.
- تصاعد حملات المقاطعة الدولية، حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) اكتسبت زخمًا غير مسبوق، ونجحت الحركة في التأثير على الرأي العام العالمي والضغط على الشركات والمؤسسات المالية. هذا الضغط الأخلاقي والاقتصادي دفع العديد من المستثمرين لإعادة النظر في علاقاتهم مع “إسرائيل”، خوفًا من الأضرار التي قد تلحق بسمعتهم وأعمالهم.
- تراجع الاستقرار السياسي الداخلي: الانقسامات السياسية الحادة داخل “إسرائيل”، والتي تفاقمت مع الإصلاحات القضائية المثيرة للجدل، زعزعت ثقة المستثمرين في استقرار البلاد، وأثارت مخاوف حول قدرة “إسرائيل” على الحفاظ على بيئة أعمال مستقرة وقابلة للتنبؤ.
- تآكل الميزة التنافسية في قطاع التكنولوجيا، مع هجرة الكفاءات وبحث الشركات عن بدائل أكثر استقرارًا.
توقعات مقلقة
في لحظة مفصلية من تاريخها الاقتصادي، تواجه “إسرائيل” عاصفة غير مسبوقة تهدد كيانها الاقتصادي، من تداعيات انسحاب الشركات والصناديق السيادية على الاقتصاد الإسرائيلي وتدهور تصنيفها الائتماني إلى “A2” مع نظرة مستقبلية سلبية تعكس عمق الأزمة الحالية.
على المدى القصير:
- الاقتصاد الإسرائيلي يعاني من انكماش هائل بنسبة 19.4% في الربع الرابع من عام 2023، هذا الانهيار الحاد يعكس تأثير الحرب على غزة على كل القطاعات.
- تراجع حاد في الاستهلاك الخاص بنسبة 27%، والاستهلاك العام انكمش بنسبة 90%.
- ارتفع الإنفاق العام بنسبة 7.1% في الربع الأول من 2024 على أساس سنوي، بعد ارتفاع غير مسبوق بنسبة 86% في الربع الأخير من 2023، ويرجع ذلك أساسًا إلى الإنفاق الدفاعي.
- انهيار في الاستثمارات بنسبة 70%.
- سوق الأسهم لم يسلم من هذه العاصفة، مع تراجع مؤشر تل أبيب 35 بأكثر من 20% منذ بداية الحرب. في الوقت نفسه، يفقد الشيكل الإسرائيلي قيمته، مما يزيد من تكاليف الاستيراد ويؤجج التضخم.
على المدى البعيد:
- انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.1% على أساس سنوي.
- تباطؤ النمو الاقتصادي إلى 2% لعام 2023 مقارنة بـ6.5% في 2022، مع نمو سلبي لنصيب الفرد بنسبة 0.1%.
- تراجع الاستثمارات الأجنبية يهدد القطاعات الحيوية، وخاصة التكنولوجيا.
- تآكل الميزة التنافسية في سوق الابتكار العالمي بسبب هجرة الكفاءات.
- ارتفاع تكلفة الاقتراض مع تدهور التصنيف الائتماني.
- احتمال تحول جذري في هيكل الاقتصاد الإسرائيلي، مع تقلص دور القطاعات المعتمدة على الاستثمار الأجنبي.
تداعيات انسحاب الاستثمارات على الاقتصاد الإسرائيلي
في ظل هذه الظروف الاستثنائية، تبرز أربعة سيناريوهات محتملة لمستقبل الاقتصاد الإسرائيلي عن تداعيات انسحاب الاستثمارات، كل منها يرسم مسارًا مختلفًا للسنوات القادمة. هذه السيناريوهات تتراوح بين الانكماش الحاد والتكيف الهيكلي، مرورًا بالانتعاش التدريجي البطيء، وصولًا إلى نموذج الاعتماد على الذات والانغلاق النسبي.
1. سيناريو الانكماش الحاد:
- تراجع الاستثمارات الأجنبية: استمرار الانخفاض بنسبة قد تصل إلى 70-80% بحلول نهاية العام مقارنة بفترة ما قبل الحرب، ما يعمق الأزمة الاقتصادية.
- انهيار قطاع السياحة: قد تتجاوز خسائر القطاع 90% من عائداته مقارنة بعام 2023، مع تداعيات خطيرة على الوظائف والإيرادات.
- ارتفاع البطالة: زيادة غير مسبوقة في معدلات البطالة، خاصة في القطاعات الحساسة مثل التكنولوجيا والسياحة والخدمات.
- انكماش الناتج المحلي الإجمالي: تراجع قد يتجاوز 10% سنويًا، مما يقود البلاد إلى ركود اقتصادي عميق.
- تدهور قيمة الشيكل: انخفاض حاد في قيمة العملة الوطنية، يزيد من تكاليف الاستيراد ويؤجج التضخم.
- انخفاض الإنفاق: تراجع حاد في الاستهلاك والاستثمار، مما يؤدي إلى دوامة انكماش يصعب السيطرة عليها.
2. سيناريو التكيف والتحول الهيكلي:
- تحول اقتصادي جذري: انتقال نحو قطاعات أقل اعتمادًا على الاستثمار الأجنبي والسياحة، مثل التكنولوجيا الحيوية والطاقة النظيفة.
- تعزيز السياحة المحلية: تطوير برامج مكثفة لتشجيع السياحة الداخلية وسياحة المغتربين لتعويض الخسائر.
- زيادة الاستثمار الحكومي: دعم البحث والتطوير في القطاعات الاستراتيجية، مما يخلق فرصًا جديدة ويعزز النمو.
- تعزيز الشراكات الاقتصادية: استغلال اتفاقيات التطبيع مع دول الجوار لفتح أسواق جديدة وتنويع مصادر الاستثمار.
- تنمية الصناعات المحلية: توجيه الموارد نحو تعزيز الاكتفاء الذاتي في القطاعات الحيوية.
3. سيناريو الانتعاش التدريجي البطيء:
- عودة تدريجية للاستثمارات: استعادة ما بين 50-60% من مستويات ما قبل الحرب بحلول 2026، ما يدعم الانتعاش الاقتصادي.
- تحسن بطيء في السياحة: توقعات بالوصول إلى 70% من مستويات 2023 بحلول 2027، مع تركيز على حملات ترويجية مكثفة.
- تحسن في مؤشرات الاقتصاد الكلي: بدء عودة النمو الإيجابي بحلول 2026، لكن بمعدلات أقل من فترة ما قبل الحرب.
- استقرار قيمة الشيكل: تحسن جزئي لقيمة العملة الوطنية، مما يساعد في تخفيف الضغوط التضخمية واستقرار الأسعار.
4. سيناريو الاعتماد على الذات والانغلاق النسبي:
- نموذج اقتصادي انغلاقي: تركيز أكبر على تنمية السوق المحلية وتشجيع الاستهلاك الداخلي، مع تقليص الاعتماد على الاستثمارات الخارجية.
- زيادة الإنفاق العسكري: تحويل موارد كبيرة نحو القطاعات الأمنية، مما يؤثر سلبًا على القطاعات الإنتاجية والخدمية.
- دعم الشركات الناشئة المحلية: تعزيز برامج حكومية مكثفة لدعم الابتكار وتعويض تراجع الاستثمارات الأجنبية.
- سياسات حمائية: فرض قيود على حركة رؤوس الأموال وتبني سياسات حمائية لحماية الصناعات المحلية.
- تراجع مستوى المعيشة: انخفاض القوة الشرائية للمواطنين نتيجة ارتفاع الأسعار وتراجع التنافسية.
في نهاية المطاف، يقف الاقتصاد الإسرائيلي على مفترق طرق تاريخي، في لحظة فارقة تحمل في طياتها تحديات غير مسبوقة وفرصًا للتحول الجذري، فالعاصفة التي تجتاح أركان الاقتصاد اليوم ليست مجرد نكسة عابرة، لكنها زلزال عميق يهز أسس النموذج الاقتصادي الذي اعتمدت عليه “إسرائيل” لعقود.
إن انسحاب الاستثمارات وانهيار الثقة في “الدولة الآمنة” يكشفان عن هشاشة كامنة في بنية الاقتصاد الإسرائيلي، فما كان يُنظر إليه سابقًا على أنه قوة أصبح اليوم نقطة ضعف في مواجهة الاضطرابات الجيوسياسية.