بين الأجواء الإيجابية أمريكيًا، والتفاؤل الحذر إسرائيليًا، وترقب الوسطاء، والتشكيك في نوايا حكومة الاحتلال فلسطينيًا، انتهى الشوط الأول من المفاوضات التي احتضنتها العاصمة القطرية الدوحة (الخميس والجمعة 15 – 16 أغسطس/آب الجاري)، من أجل التوصل إلى اتفاق تبادل ووقف إطلاق النار داخل قطاع غزة، في انتظار الشوط الثاني الذي يفترض أن تستضيفه القاهرة نهاية الأسبوع الجاري.
شهدت الجولة الأولى من تلك المباحثات التي أجريت بمشاركة الوسطاء (مصر وقطر والولايات المتحدة) و”إسرائيل”، فيما غابت عنها حماس، تباينًا في وجهات النظر إزاء بعض النقاط التي يتخوف البعض من أن تعيق التوصل إلى اتفاق في ظل تمسك حماس بثوابتها المعلنة سابقًا، في مقابل إضافة بنيامين نتنياهو شروطًا جديدة يعتبرها مراقبون – بينهم إسرائيليون – أن الهدف منها عرقلة المفاوضات وتجميدها.
تمركزت المباحثات التي جرت على مدار يومين حول مناقشة المقترح الأمريكي الجديد الذي قدمته إدارة جو بايدن كإطار عام للاتفاق المرتقب، ورغم عدم الإفصاح عن تفاصيله، فإن بيانا مصريًا قطريًا أمريكيًا مشتركًا، الجمعة الماضي، أشار إلى أنه “يتوافق مع المبادئ التي وضعها الرئيس جو بايدن في 31 مايو/ أيار 2024″.
تأمل واشنطن أن تسفر تلك المفاوضات عن إبرام اتفاق يثني إيران و”حزب الله” عن الرد الانتقامي على اغتيال الكيان الإسرائيلي لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في العاصمة طهران في 31 يوليو/تموز الماضي، والقيادي الكبير في حزب الله فؤاد شكر في اليوم السابق، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن تأخير الرد يأتي في سياق منح فرصة للتوصل إلى اتفاق ينهي الحرب في غزة، رغم تأكيد طهران والحزب على حتمية الرد وجهوزيته، في المكان والزمان، الذي يتراءى لهما.
تفاصيل المقترح
وفق ما كشفته القناة 12 العبرية عن مصادرها المطلعة فإن أبرز ما جاء في المقترح الأمريكي المقدم:
– تحديد وعدد أسماء المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة الذين سيطلق سراحهم بالمرحلة الأولى، كذلك أسماء الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
– سيتم إطلاق سراح النساء والمجندات أولًا، يليهن المحتجزون الأحياء.
– تشمل قائمة الأسرى الفلسطينيين أسماء 47 أسيرًا أطلق سراحهم في صفقة شاليط، وأعيد سجنهم مؤخرًا مرة أخرى.
– ما زال الخلاف بشأن محوري فيلادلفيا ونتساريم قائمًا، حيث يصر نتنياهو على البقاء فيهما، وسط اعتراض من حماس.
– “رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مصر على استئناف الحرب بعد استنفاد الاتفاق المفترض مع حركة حماس، ويطلب تعهدًا أمريكيًا مكتوبًا”، حسبما نقلت صحيفة “إسرائيل اليوم” العبرية، عن مصدر سياسي.
تفاؤل وترقب وتشكيك
تباينت ردود فعل الوسطاء وأطراف النزاع بعد انتهاء مباحثات الدوحة، حيث أعرب الرئيس الأمريكي جو بايدن عن تفاؤله بشأن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، مضيفًا خلال لقائه مع عدد من الصحفيين حين سئل عن المحادثات:
“أنا متفائل، إلا أن الأمر لم يقترب من نهايته، هناك بضع قضايا أخرى، لكن أعتقد أن لدينا فرصة”، وكان البيت الأبيض في بيان نشره على موقعه الإلكتروني قبل يومين قد نقل عن بايدن قوله: “لا ينبغي لأحد في الشرق الأوسط أن يقوض الجهود الرامية للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة”.
وفي بيان مشترك للولايات المتحدة ومصر وقطر لفتت البلدان الثلاثة إلى أن المحادثات كانت بناءة وجادة وجرت في أجواء إيجابية، وأضاف البيان أن أمريكا قدمت اقتراحًا بدعم قطري مصري لكلا الطرفين (حماس وحكومة إسرائيل) “يقلص الفجوات بين الطرفين ويتوافق مع المبادئ التي وضعها الرئيس بايدن (الرئيس الأمريكي جو بايدن) في 31 مايو/أيار 2024 وقرار مجلس الأمن رقم 2735″، لافتًا إلى أن المقترح بُني على نقاط الاتفاق التي تحققت خلال الأسبوع الماضي، ويسد الفجوات المتبقية بالطريقة التي تسمح بالتنفيذ السريع للاتفاق”.
واختتم الوسطاء الثلاثة بيانهم بالتأكيد على أن “الوفود المشاركة ستواصل العمل خلال الأيام المقبلة على تفاصيل التنفيذ، بما في ذلك الترتيبات لتنفيذ الجزئيات الإنسانية الشاملة للاتفاق، بالإضافة إلى الجزئيات المتعلقة بالرهائن والمحتجزين”.
إسرائيليًا، أبلغ الفريق المفاوض رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو أن لديه “تفاؤل حذر” بشأن إمكانية المضي قدمًا في إبرام صفقة لوقف الحرب وتبادل الأسرى مع الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، بحسب بيان رسمي صادر عن مكتب نتنياهو غداة اختتام جولة المفاوضات.
وعلى المستوى الفلسطيني، رأى القيادي في حركة حماس، سامي أبو زهري، أن الحديث الأمريكي عن قرب التوصل لاتفاق “ضرب من وهم“، مؤكدًا أن الكيان يواصل عرقلة كل المساعي لإتمام أي اتفاق، منوهًا إلى أن الحركة ليست أمام اتفاق أو مفاوضات حقيقية، بل أمام فرض إملاءات أمريكية حسب تصريحاته لوكالة “فرانس برس” أمس السبت.
ولفت القيادي بحماس أن الوفد الإسرائيلي “وضع شروطًا جديدة في سياق نهجه للتعطيل مثل إصراره على إبقاء قوات عسكرية في منطقة الشريط الحدودي مع مصر – محور فيلادلفيا، وطلب أن يكون له الحق بوضع فيتو على أسماء أسرى وإبعاد أسرى آخرين خارج فلسطين”، مشددًا على أن الحركة “لن تقبل بأقل من وقف كامل للنار والانسحاب الكامل من القطاع وعودة طبيعية للنازحين، وصفقة تبادل بدون قيود وشروط الاحتلال”.
الضغوط تتصاعد
تواجه حكومة نتنياهو ضغوطًا متصاعدة للرضوخ لصفقة تبادل مع المقاومة الفلسطينية، بعدما وصلت الحرب إلى طريق مسدود، حيث لا جديد يمكن تقديمه، ولا انتصار يتوقع تحقيقه ميدانيًا، إثر فشل جيش الاحتلال في تحقيق أهدافه الثلاثة المعلنة سابقًا عند بداية الحرب.
وتنقسم تلك الضغوط التي يتعرض لها رئيس وزراء الاحتلال وحكومته اليمينية المتطرفة إلى قسمين:
الأول: ضغوط داخلية، وتلك التي تنقسم بدورها إلى نوعين، أولها ما يتعلق بالضغوط التي تمارسها المؤسسة العسكرية التي تبعث برسائل بين الحين والآخر للمستوى السياسي بإنهاء عملياتها داخل القطاع وأن القطاع ما عاد في حاجة لاستمرار القوات الإسرائيلية، وأن الوقت قد حان لإبرام صفقة تبادل مع حماس، وكانت الأسابيع الماضية قد شهدت توترات حادة بين نتنياهو ووزير الدفاع بسبب هذا الأمر.
أما ثانيها فتلك التي يمارسها الشارع وعائلات الأسرى المحتجزين لدى حماس، فبعد فترة هدوء نسبي خلال الأيام الماضية عاودت التظاهرات مرة أخرى تملأ ميادين وشوارع مدن الكيان، حيث تظاهر آلاف الإسرائيليين مساء السبت 17 من الشهر الجاري في أنحاء البلاد للمطالبة بإبرام صفقة عاجلة، فقد ذكرت هيئة البث العبرية (رسمية)، أن عشرات آلاف الإسرائيليين تظاهروا في ساحة كابلان، وسط تل أبيب، كذلك في حيفا شمالًا، للضغط على حكومة بنيامين نتنياهو، لإبرام صفقة تبادل أسرى، فيما هدد المتظاهرون بزيادة حدة المظاهرات في حال عدم إبرام صفقة خلال الأسبوع المقبل، وفق الهيئة.
وفي مؤتمر صحفي مشترك أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب، طالبت عائلات الأسرى الإسرائيليين حكومة بلادهم بإبرام صفقة هذا الأسبوع، متهمين في بيان لهم نتنياهو بعرقلة إتمام الصفقة من خلال إضافة شروط جديدة خلال المحادثات، وفق صحيفة “إسرائيل اليوم” العبرية الخاصة، محذرين من أن “هذه هي الفرصة الأخيرة” لإنقاذ حياة أبنائهم المحتجزين بغزة منذ أكثر من 10 أشهر، كما حذروا من أن عدم إتمام الصفقة “سيؤدي إلى إشعال المنطقة برمتها”، في إشارة إلى مخاوف من اندلاع حرب إقليمية واسعة.
الثاني: ضغوط خارجية، تتعرض حكومة نتنياهو لضغوط أخرى على المستوى الخارجي، فبعيدًا عن الضغوط التي تمارسها المنظمات الأممية، مجلس الأمن والأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والجنائية الدولية، أعرب وزراء خارجية الدول الحليفة للاحتلال، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، السبت، عن دعمهم جهود الوسطاء للتوصل إلى اتفاق ينهي الحرب في قطاع غزة، بما يشمل صفقة لتبادل الأسرى.
وفي بيان مشترك لهم قال وزراء الدول الأربع: “ندعم بقوة جهود الوساطة التي تبذلها الولايات المتحدة ومصر وقطر لإبرام اتفاق وقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن والمحتجزين، ومتحمسون إزاء النهج البناء الذي تم تبنيه حتى الآن” خلال المحادثات الأخيرة في العاصمة القطرية الدوحة، مرحبين بمواصلة الفرق الفنية عملها خلال الأيام المقبلة خلال جولة مباحثات القاهرة الأسبوع المقبل.
وفي إطار الضغوط ذاتها، توجه وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إلى تل أبيب، في زيارة هي التاسعة للمنطقة منذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتي كان قد أرجأها لمدة يومين لحين الانتهاء من مباحثات الدوحة، على أمل إقناع حكومة نتنياهو بقبول الصفقة مع التأكيد في الوقت ذاته على استمرار دعم واشنطن لـ”إسرائيل” وأمنها الإقليمي.
بين اتفاقي 27 مايو/أيار و 2 يوليو/تموز
يتمحور الخلاف بين حماس و”إسرائيل” في تمسك كل طرف بمسودته الخاصة في المفاوضات، فعلى المستوى الإسرائيلي تتشبث حكومة نتنياهو بما يسمى بـ”مبادئ 27 مايو/ أيار” وهي مسودة الاتفاق التي قدمتها الحكومة المحتلة في ذلك التاريخ وتتضمن بعض النقاط أبرزها استمرار الحرب دون وضع سقف زمني، والبقاء عسكريًا في محوري فيلادلفيا ونتساريم.
أما حماس فتتمسك باتفاق 2 يوليو/تموز وهو المنبثق عن المقترح الذي قدمه الرئيس الأمريكي جو بايدن، والمعدل عليه لاحقًا عبر الوسيطين المصري والقطري، والذي قبلته المقاومة بصورة مبدأية، قبل أن يرفضه نتنياهو ويزعم أنه مخالف لما جاء على لسان بايدن.
وبين هذا وذاك تحاول المفاوضات عبر تكثيف الجهود الدبلوماسية وأدوات الضغط المتاحة تقريب وجهات النظر، إذ يصر نتنياهو على شروطه الخاصة باستمرار الحرب حتى بعد انتهاء الهدنة وتبادل الأسرى، وعدم الانسحاب من كامل قطاع غزة، والسيطرة على محوري فيلادلفيا ونتساريم، وهي الشروط التي تعتبرها حماس إجهاضًا للاتفاق ونسفًا لما تم التفاهم بشأنه سابقًا.
رهان نتنياهو على الوقت
شهد قطاع غزة منذ بداية الحرب الإسرائيلية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عشرات الجولات من المفاوضات التي جرت بوساطة مصرية قطرية أمريكية، عبر 4 محطات رئيسية: الدوحة والقاهرة وباريس وروما، من أجل التوصل إلى اتفاق لإنهاء القتال وتحرير الأسرى.
وعلى مدار ما يقرب من 11 شهرًا من الحرب لم تسفر كل تلك الجولات سوى عن هدنة واحدة، لمدة 4 أيام، بدءًا من 24 نوفمبر/ تشرين الثاني، تم تمديدها في اليوم الأخير لمدة يومين، ومرة ثانية لمدة يوم، لتنتهي في 1 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أسفرت عن الإفراج عن 109 من المحتجزين الإسرائيليين وبعض الجنسيات الأخرى لدى المقاومة في مقابل 240 أسيرًا فلسطينيًا في سجون الاحتلال، مع السماح بدخول المزيد من المساعدات لغزة، قبل أن تنتهي وتستأنف تل أبيب الحرب في الأول من ديسمبر/كانون الأول.
ونجح نتنياهو عبر تلك الجولات المكوكية في إجهاض كل الجهود الدبلوماسية المبذولة وتسويف أي اتفاق لوقف إطلاق النار، واللعب على وتر الوقت على أمل تحقيق أي إنجاز يتم تسويقه للداخل الإسرائيلي، يحقق له المأمول في استعادة شعبيته واستمراره في منصبه وإرجاء حسم مستقبله السياسي الذي بات مرتبطًا باليوم التالي للحرب.
وبعيدًا عن التصريحات الدبلوماسية الوردية التي يرددها حلفاء تل أبيب، فإنهم جميعًا شركاء في هذا التسويف، ففي الوقت الذي كانوا يدعون فيه دعمهم لجهود وقف إطلاق النار، لم تتوقف صفقات السلاح من واشنطن وباريس وبرلين منذ بداية الحرب وحتى اليوم.
كان حلفاء نتنياهو يعولون على الوقت لإنجازه وجيش الاحتلال أهداف الحرب المعلنة، لكن يبدو أن الأمور لم تسر بالشكل المطلوب، فبعد ما يقرب من 11 شهرًا من القتال الوحشي، وتوظيف الاستراتيجيات الخبيثة واللا إنسانية من جيش الاحتلال، والدعم الذي لا يتوقف من أكبر جيوش العالم وأجهزته الاستخباراتية، فشل المحتل في تحقيق أهدافه، اللهم إلا قفزات جنونية في أرقام الضحايا من النساء والأطفال.
وبات يقينًا لدى الجميع أن استمرار الحرب أصبح أمرًا عبثيًا، فلا جديد يذكر ميدانيًا ولا انتصار يلوح في الأفق القريب، بعيدًا عن أرقام الضحايا المتزايدة، هذا بخلاف تزايد المخاطر المحتمل أن يتعرض لها الكيان المحتل بعد توسعة دائرة الصراع ونقله خارج الجغرافيا الفلسطينية، الأمر الذي يتوقع معه تصاعد منسوب الضغط الممارس على رئيس الوزراء للرضوخ لصفقة تبادل في أقرب وقت قبل خروج الوضع عن السيطرة.
وفي تطور هو الأول من نوعه منذ بداية الحرب، ويعكس استشعار القلق إزاء وضعية الكيان الحرجة، طالب الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، بطرد ما وصفها بالكاهانية من الحكومة الإسرائيلية، في إشارة إلى الوزراء المنتمين للتيار اليميني المتطرف: إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وذلك في أعقاب جدال اندلع بينه وبين متظاهرين مناهضين لحكومة نتنياهو، يطالبون بإبرام صفقة تبادل عاجلة ويتهمون حكومة اليمين المتطرف بعرقلة المفاوضات ووضع العثرات أمام الاتفاق المحتمل.
وفي الأخير يحاول بايدن حسم معركة غزة قبيل الانتخابات المقرر لها نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، كونها إحدى الأوراق المهمة التي يمكن توظيفها لصالح الديمقراطيين في هذا الماراثون الشرس أمام ترامب الذي لا يكل عن مغازلة الصهيونية بشتى السبل، هذا في الوقت الذي يحاول نتنياهو اللعب على هذا الوتر لإطالة أمد الحرب قدر الإمكان لما بعد الانتخابات الأمريكية، الأمر الذي يزيد المفاوضات تعقيدًا.