ترجمة وتحرير: نون بوست
كان الوقت منتصف الصباح، وكانت درجة الحرارة قد بلغت 40 درجة مئوية في الظل، عندما أوقف السائق سيارة الأجرة ورفض مواصلة السير، وقال: “لا يمكن للسيارة أن تستمر. فلا يوجد طريق”.
لقد امتدت التضاريس من حولنا؛ حيث كانت صخرية وغير مستوية. وكنا في أورانغ آباد، وهي منطقة في ولاية ماهاراشترا غرب الهند، وتركنا أي مظهر من مظاهر الطريق على بعد نصف ميل خلفنا، ونظرنا أنا ورفيقي في السفر، جيمس، إلى بعضنا البعض، واتفقنا على أن نترك السيارة ونسير بقية الطريق سيرًا على الأقدام.
وبعد عشرين دقيقة وجدنا أنفسنا في البرية. ولم تكن هناك أي علامة على وجود حياة أمامنا، لا بشرية ولا حيوانية، بما في ذلك دببة الكسلان التي تشتهر بعدوانيتها ومهاجمتها للناس.
إلى اليمين، كان خط الأشجار ينحني بعيدًا في المسافة، بينما سيطرت على الأفق سلسلة من الهضاب المغبرة إلى اليسار، وكانت الشمس تغرب، ولم يكن معنا ما يكفي من الماء..
ثم ظهر لنا ضريح عثماني صغير في البداية على هضبة من بعيد، ولكن لا تخطئه العين: ضريح عثماني يبلغ ارتفاعه حوالي 15 مترًا وعرضه ثمانية أمتار، تعلوه قبة كبيرة على الطراز التركي ونوافذ مزخرفة وتوجد قناطر على الجوانب الأربعة.
عن قرب؛ كان من الممكن تمييز بقايا مجمع مبني حول الضريح، وكان الهيكل الرمادي نفسه متعبًا ومتهالكًا، على الرغم من أنه لا يزال ينضح بعظمة إمبراطورية معينة.
في الداخل؛ كان المكان مهجورًا، حيث كانت الجدران مغطاة بالكتابات على الجدران، والخربشات التافهة، وأسماء العشاق الذين انجذبوا إلى المبنى لعزلته. وتناثر الجص المتفتت من الجدران السفلية على الأرض العارية، وخيمت الكآبة والغموض على المبنى.
في وسطه، كانت هناك حفرة صغيرة غارقة في وسطه حيث كان ينبغي أن يكون هناك قبر، بينما كانت فارغة.
لماذا كان هناك قبر مهجور على الطراز التركي في برية غرب الهند؟
عبد المجيد الثاني: خليفة في المنفى
كانت محاولة الإجابة على هذا السؤال هي سبب وجودنا في الهند في المقام الأول.
فالرجل الذي كان يأمل أن يُدفن في ذلك الضريح كان أحد أكثر الشخصيات الاستثنائية والمفارقة في أوائل القرن العشرين: رسام موهوب، محب للفرنكوفيلية، ناقد أدبي، عاشق للموسيقى الكلاسيكية، والأهم من ذلك أنه كان يحمل لقب خليفة، وهو لقب يمثل الخلافة الدينية السياسية للنبي محمد.
كان الخليفة عبد المجيد الثاني هو الحاكم الصوري الأخير للعالم الإسلامي، وهو عضو في بيت عثمان، السلالة العثمانية التي حكمت مساحات شاسعة من أوروبا وآسيا وأفريقيا لمدة خمسة قرون.
وُلد عبد المجيد ونشأ في إسطنبول، مركز السلطة العثمانية، سنة 1868، ووصف نفسه بأنه “أمير ديمقراطي” وأيد تحول الإمبراطورية إلى ملكية دستورية، ووافقه آخرون على ذلك. فكما أخبرت مجلة “الإليوستراسيون” الفرنسية قراءها في كانون الأول/ ديسمبر 2022: “في ظل الظروف المناسبة وفي دولة هادئة ومزدهرة، كان عبد المجيد سيصبح فرانسوا الأول التركي، وكان بلاط خليفة القسطنطينية، مثل بلاط خلفاء قرطبة، وكان سيصبح مركزًا جديدًا للفن الإسلامي”.
ولكن بعد الحرب العالمية الأولى، انهار الصرح الإمبراطوري. ومع تنصيب عبد المجيد الثاني على العرش في تشرين الثاني/ نوفمبر 1922، كانت الدولة التركية الجديدة قد تشكلت من رمادها، وأصبح الخليفة الأول – والوحيد – لتركيا الحديثة.
لقد كان مصيره النفي: ففي 3 آذار/ مارس 1924، ألغت الجمهورية التركية لقب عبد المجيد وحملته وعائلته على متن قطار الشرق السريع، متجهين إلى سويسرا.
وعندما سمع الخليفة بأمر العزل، رفض الذهاب، لكن القوات الجمهورية التي حاصرت قصر دولمة بهجة على الضفاف الأوروبية للبوسفور أوضحت له الأمر: يجب أن يذهب.
وعندما غادر منزله للمرة الأخيرة، تعهد عبد المجيد بأنه سيصلي دائمًا من أجل رفاهية الشعب التركي: “وتأكد، حتى وأنا ميت في قبري، ستستمر عظامي في الصلاة”.
لقد صدم زوال الخلافة التي دامت 1300 سنة العالم الإسلامي، وأعلن المفكر الهندي المسلم أمير علي أنها كارثة على الإسلام والحضارة الأوسع من شأنها أن “تتسبب في تفكك الإسلام كقوة أخلاقية”.
وفي لندن، كتبت صحيفة التايمز أنه في عصر سقوط الأسر الحاكمة وظهور أفكار جديدة، “لا يوجد تغيير واحد أكثر إثارة للخيال من هذا: وربما يكون القليل منهم، على هذا القدر من الأهمية في نتائجهم النهائية”.
ومع ذلك، فإن ما حدث للخليفة قد تم تجاهله إلى حد كبير من قبل المؤرخين، فيمكن العثور على أجزاء بسيطة وأجزاء متناثرة عبر الكتب التي تغطي تخصصات مختلفة، ولكن القصة الكاملة غير العادية قد تم نسيانها.
وعندما قرأت عن عبد المجيد لأول مرة في أواخر سنة 2022، كنت منبهرًا وفضوليًا، ليس أقله لمعرفة مصيره في المنفى، فقد كان من الصعب تصديق أنه قَبَل طرده من تركيا.
وقضيت أشهرًا في التحقيق وبدأت في الكشف عن خطة طموحة وفاشلة في نهاية المطاف لإحياء الخلافة، وهي خطة شملت العالم الإسلامي.
جاءت أصل الخطة بعد أسبوع واحد فقط من نفي عبد المجيد في سويسرا، عندما أصدر إعلانًا من الفندق الذي كان يقيم فيه، زعم فيه أن العالم الإسلامي يجب أن “يمر بسلطة كاملة وحرية كاملة” فيما يتعلق بمسألة الخلافة. لقد كان إعلانه رائدًا، حيث أشار إلى نوع جديد من الخلافة التي لا تعتمد على إمبراطورية لشرعيتها، بل على الدعم الطوعي من مسلمي العالم؛ ولكن لكي ينجح هذا الأمر، فهو بحاجة إلى دعم قوي.
مطلوب: قضية الملياردير المسلم
في ثلاثينيات القرن العشرين، كان مير عثمان علي خان، وفقًا لمجلة نايم، أغنى رجل في العالم. وكان النظام، أو الحاكم السابع لولاية حيدر آباد، أكبر ولايات الهند الأميرية وأسرعها تحديثاً في ظل الحكم البريطاني غير المباشر، وكان يوظف 12,000 خادم في القصر وكان لديه معمل تقطير الويسكي الخاص به، كما كان يستخدم ألماسة بقيمة 50 مليون جنيه إسترليني كثقالة للورق.
جاءت ثروة نظام من مناجم جلكوندا في الولاية، ومن هناك جاءت ألماسة كوه-إي-نور، وهي جزء من جواهر التاج الملكي البريطاني والتي طالبت الهند بإعادتها في السنوات الأخيرة.
لكن نظام كان معروفًا أيضًا بتقشفه الشخصي، حيث كان يوزع دعوات العشاء على قصاصات من الورق ممزقة من مظاريف قديمة. وقال وزير المالية في حيدر آباد السير أكبر هيداري بإعجاب: “لم يكن للمال معنى بالنسبة له، على الرغم من أنه يعرف كيف يديره بشكل جيد”.
لقد كان يشرف على الولاية منذ أوائل القرن الثامن عشر؛ حيث تعاقب على حكمها سلسلة من “النظام”، وهي اختصار لكلمة “نظام الملك”، والتي تعني “مدير المملكة” باللغة الفارسية، وهي إحدى لغات البلاط والأدباء في الهند منذ قرون.
وخلال هذه الفترة، المعروفة بعصر آصف جاهي، كانت حيدر آباد مركزاً ثقافياً وفكرياً للعالم الإسلامي، حيث عززت روابط قوية مع الشرق الأوسط، بما في ذلك فلسطين، التي كانت هي نفسها جزءاً من الإمبراطورية العثمانية حتى أوائل القرن العشرين.
وكان خان، الذي كان يحكم سكاناً معظمهم من الهندوس، يتمتع بسمعة طيبة كحاكم متسامح ومثقف للغاية. ولكن كل ذلك كان سينتهي عندما غزت جمهورية الهند بعد الاستقلال في أيلول/ سبتمبر 1948، وذُبح حوالي 40,000 مسلم؛ وفقًا لتقديرات متحفظة.
وفي سنة 1924، انتقلت عائلة الخليفة من سويسرا إلى نيس على شاطئ الريفييرا الفرنسية في تشرين الأول/ أكتوبر من سنة 1924 واستقرت في قصر كاراباسيل، وهي فيلا تعود إلى القرن التاسع عشر. وقد دفع الإيجار النظام الذي كان حريصًا على تعزيز مكانته في العالم الإسلامي من خلال دعم العثمانيين بشكل واضح.
ولمعرفة كل هذا، درست روايات شهود العيان العثمانيين عن نفي عبد المجيد في فرنسا وقضيت ساعات في المكتبة البريطانية في لندن، وهي نفسها نتاج دائم للإمبراطورية البريطانية. وهناك بحثت في مئات الصفحات من الوثائق غير المنشورة التي أحضرت من حيدر آباد إلى إنجلترا عندما غادر البريطانيون الهند.
ووجدت نفسي أتصفح عشرات الرسائل، العديد منها مكتوب عليها أنها سرية، مرسلة بين نظام الملك ومسؤول حيدر آباد والبريطانيين والمنفيين العثمانيين. وقد حكت هذه الرسائل التي تم تجميعها معًا كيف تم في سنة 1931 تشكيل اتحاد زواج بين سلالة آصف جاهي في حيدر أباد والعثمانيين المنفيين.
وكان وسيطها هو مولانا شوكت علي، أسطورة حركة الاستقلال المبكرة للهند، والحليف المقرب من غاندي، والزعيم السابق لحركة الخلافة التي ضغطت نيابة عن العثمانيين بعد الحرب العالمية الأولى.
وكان مفتاح هذا التحالف هو ابنة الخليفة، الأميرة دوروشهفار ذات الثقافة العالية، والتي ولدت في قصر كامليكا في إسطنبول سنة 1914، وتعلمت في طفولتها الإنجليزية والفرنسية والفارسية والعربية بالإضافة إلى التركية. وفي منفاها على شاطئ الريفييرا الفرنسي، درست الموسيقى وذهبت لركوب الخيل ولعب التنس، بينما كانت تقدم مقالات إلى المجلات الأدبية الفرنسية. وعلى مدار حياتها، التقط المصور الشهير سيسيل بيتون صورًا للأميرة عدة مرات.
من المعروف أنه في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 1931 في نيس تزوجت الأميرة، التي لم تكن قد تجاوزت السابعة عشرة من عمرها، من الأمير عزام جاه الابن الأكبر لنظام وولي عهده، مما ربط العثمانيين بشكل وثيق بأغنى عائلة مسلمة في العالم.
لكن كلما قرأت أكثر، كلما اتضح لي أن الجميع، من الحكومة التركية في إسطنبول إلى الصحافة الأردية في بومباي، ومن الزوار الإنجليز في حيدر آباد إلى الصحفيين الأمريكيين في نيس، أدركوا أن هناك ما هو أكثر مما تراه العين في هذا الزواج: إمكانياته السياسية.
وكشفت الأرشيفات أن الحكومة التركية حذرت البريطانيين قبل إتمام الزواج من أن “مؤامرة خلافة” كانت على قدم وساق، وهو أمر لم تدركه لندن إلا متأخراً. ففي دلهي، كتب السير تشارلز واتسون، السكرتير السياسي البريطاني: “هناك مضايقات واضحة من وجود أميرة من العائلة الإمبراطورية العثمانية السابقة في بلاط حيدر آباد… مضايقات اجتماعية بالتأكيد وربما سياسية”.
وقبل أيام من الزفاف، ذكرت مجلة تايم الأمريكية “إذا ما تزوج هذان الشابان وأنجبا طفلاً رجلاً، فإن السلالات الزمنية والروحية ستمتزج فيه بوفرة، ويمكن إعلانه “الخليفة الحقيقي”.
مُكَرَّم جاه: الطفل الذي وحّد السلالات
وفي سنة 1933، أي بعد أقل من سنتين من الزواج، عادت الأميرة دروشهفار من الهند إلى نيس لتلد الأمير مكرم جاه حفيد الخليفة والنظام.
نشأ جاه في الهند، ولم يُحك الكثير علنًا خلال طفولته عن مكانته الفريدة، ولكن قبل 20 سنة، اكتشف المؤلف الأسترالي جون زوبرزيكي رسالة رائعة في أرشيف المكتبة البريطانية، وقد ذكرها في كتابه “آخر نظام”، وهو سيرته الذاتية عن الأمير.
وقد بحثتُ في حزم من الوثائق بحثاً عن الرسالة حتى وجدتها مدفونة في ملف ثقيل، وكانت قصاصة من الورق مكتوب عليها “سري”. وقد كتبها السير آرثر لوثيان، المقيم السياسي البريطاني في حيدر آباد، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1944، بعد ثلاثة أشهر من وفاة عبد المجيد في باريس.
وكشف لوثيان لرؤسائه في دلهي في هذه الرسالة الصادمة عن اكتشافه أن النظام كان يحجب معلومات عن البريطانيين حول وصية الخليفة الراحل. وذكر أن رئيس المجلس التنفيذي للنظام أخبره أن عبد المجيد، كإحدى وصاياه الأخيرة، طلب أن يُدفن في حيدر آباد.
وكان هناك المزيد: فقد كتب لوثيان أيضًا أن النظام قد أغفل ذكر أن عبد المجيد قد سمى حفيده مكرم جاه خليفة للخلافة في الوصية.
وكان ذلك أمرًا لا يصدق: فقد أوحى بأن الخليفة المخلوع كان يخطط سرًا لإحياء الخلافة العثمانية في شبه القارة الهندية من خلال حفيده، وأن النظام الذي كان أغنى رجل في العالم كان موافقًا على ذلك.
ولم تتخذ الحكومة البريطانية أي إجراء، وهو أمر غير مستغرب: فقد توقعت لندن أن تنسحب من الهند في وقتٍ وشيك، وفعلت ذلك بعد أقل من ثلاث سنوات. في 15 آب/ أغسطس 1947، أعلنت حيدر آباد استقلالها في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه بقية الهند استقلالها، ورفضت الجمهورية الجديدة قبول سيطرة نظام على ولاية عملاقة في وسط أراضيها وتم غزوها في نهاية المطاف.
ولكن ماذا لو لم يحدث التقسيم، وأصبحت الهند بدلاً من ذلك فيدرالية، وهو خيار كان مطروحًا على الطاولة في أواخر سنة 1946؟ كان من المعقول أن تصبح حيدر أباد ولاية أميرية مستقلة وحديثة.
وكان يمكن للأمير مكرم جاه بصفته نظامًا أن يطالب بالخلافة كحق مكتسب له، مع تأثير كبير على السياسة العالمية، بما في ذلك إمكانية تحويل العالم الإسلامي.
ربما كانت الخلافة في شبه القارة الهندية ستؤدي إلى خطر الصراع الديني، لكن نظام الملك لم يكن ليحكم خارج حيدر آباد، وكان حكم آصف جاهي يرقى عادةً إلى التعددية المتسامحة.
وكان يمكن لخلافة هندية أن تجعل من حيدر آباد نقطة محورية في العالم الإسلامي، مما يعزز أهمية شبه القارة الهندية للمسلمين، ولكن كل ذلك لم يحدث أبدًا.
لقد كنتُ الآن حريصًا على معرفة أي تفاصيل، مهما كانت صغيرة، عن الأحداث التي وقعت منذ عقود مضت. ثم رأيتُ في كانون الثاني/ يناير 2024، في صحافة حيدر آباد تقريرًا عن إمام الملك الرابع، نواب سيد أحمد خان (كلمة “نواب” تشير إلى زعيم وراثي)، الذي قال إنه يمتلك صكًا موقعًا من الخليفة عبد المجيد.
واتصلت بسيد أحمد خان، والذي كان قد قرأ إحدى مقالاتي السابقة التي أشارت إلى رسالة المكتبة البريطانية وروت بعضاً من القصة. هل أردت أن آتي إلى الهند، بدعوة من عائلته، لإجراء المزيد من البحث؟
وافقت، على أساس أنه يمكنني كتابة ما أريد كباحث محايد. وسيسافر معي جيمس راثال، وهو صديق مهتم بالتاريخ الإسلامي ودرس النصوص العربية والأردية القديمة في كامبريدج.
داخل قصور حيدر أباد
وتعتبر مدينة حيدر أباد في سنة 2024 هي إحدى أكبر مدن الهند وعاصمة ولاية تيلانجانا. وتضم المدينة، التي يطلق عليها السكان المحليون اسم “سايبر آباد”، طرقاً واسعة ومطاعم براقة وامتداداً لا نهاية له من الأبراج الشاهقة التي تعرض شعارات كل شركة تكنولوجيا عالمية كبرى تقريبًا.
ولكن حتى منتصف القرن العشرين، كانت عاصمة سلالة نظام. بينما يرقد ستة من هؤلاء الأمراء مدفونين، جنباً إلى جنب، في مسجد مكة، أكبر مساجد المدينة القديمة، والذي يكتظ كل يوم بالناس الذين يصلون ويجتمعون وينامون بين شواهد القبور.
وفي جميع أنحاء الحي، ووسط مجموعة من محلات العطور ومطاعم البرياني وبائعي الشاي، تتوارى القطع الأثرية التاريخية على مرأى من الجميع.
وفي متحف صغير غير واضح المعالم يضم أنابيب نرجيلة مزخرفة ولوحات من عصر نظام يقع سيف الخليفة عبد المجيد نفسه، وهو أداة رائعة منحنية على الطراز العثماني ومزودة بمقبض ذهبي. كان مكرم جاه وريث الخلافة يحمل السيف عند توليه لقب نظام في سنة 1967. في هذه الأيام، يمرّ معظم الزائرين من أمامها دون أن يلقوا نظرة.
إن بعض المساكن الفخمة آيلة للسقوط، مثل قصر الملك كوثي، حيث عاش مير عثمان علي خان. أما البعض الآخر فقد كان أفضل حالاً: فقصر تشوماهالا الذي كان يستضيف احتفالات الدولة أصبح الآن متحفاً ولا يزال يفتخر بهندسته المعمارية الهندية الإسلامية الراقية، بما في ذلك الأقواس المقببة والأبراج.
وفي قاعة دوربار الكبرى في القصر، كان النظام يجلس متربعًا على عرش من الرخام الأبيض، محاطًا بأبنائه. وكان النبلاء ورجال البلاط يرتدون الحرير والديباج، وكان الحراس العرب المسلحون ونساء البلاط يراقبون، ويفتح أحد جانبي القاعة الكبرى على حديقة مغولية كانت محاطة ذات يوم بأشجار السرو والنخيل، لكن اليوم لم تعد النوافير تعمل.
وعلى النقيض من ذلك، تحول قصر فالاكنوما إلى فندق فخم يقطنه نخبة الأثرياء في الهند. وقد بُني هذا الفندق في سنة 1880، ويمزج بين الطراز البالادي الأوروبي واللمسات الهندية الإسلامية، فيجسد بذلك عالم النخبة في حيدر أباد في أواخر عهد آصف جاهي، وهو عالم متعدد الثقافات ومتناقض إلى حد مذهل.
بعد السلالم التي تصطف على جانبيها الآلهة الإغريقية العارية توجد قاعة العرش التي كانت تُستخدم في كثير من الأحيان كقاعة للرقص. وتقع خلفها قاعة الولائم التي تضم مائدة طعام بطول 101 قدم تتسع لأكثر من 100 ضيف؛ حيث اشتهر نظام بإقامة حفلات عشاء غير اعتيادية، فقد كان يقدم الشمبانيا للضيوف الذين كان مولعاً بهم، بينما كان الآخرون يتلقون فقط عصير الزنجبيل غير الكحولي.
وقد أصبحت هذه القصور الآن أطلال حضارة آيلة للسقوط، ومع ذلك لا يزال بعض من ذلك التراث الثقافي العالمي حياً؛ وكذلك ذاكرته.
أثناء وجودنا في حيدر آباد، أقمنا كضيوف في دار راهنوما الدكن، وهو مقر إقامة المدينة القديمة لعائلة إمام الملك الأرستقراطية التي لا تزال تنشر صحيفة راهنوما اليومية، وهي أقدم صحيفة يومية هندية باللغة الأردية كانت تصدر في الهند، وكان نظام الملك يرعاها في السابق. رب الأسرة، المولود في سنة 1942، هو نواب أكرم عباس سيد، وهو والد سيد أحمد خان، الذي رتب إقامتي: والده بدوره هو العقيد سيد محمد أمير الدين خان، السكرتير العسكري لخان وأحد المقربين منه.
كان سيد ذو لحية بيضاء قصيرة وعينين حادتين، ويتحدث بمشية هادفة ووقفة وقورة – تكاد تكون ملكية – ويتحدث باللغة الإنجليزية الأنيقة والمهذبة التي يتحدث بها كبار رجال الدولة الهنود، وإن كان ذلك مع لهجة خفية اكتسبها من الفترة التي قضاها في كندا.
أخبرنا سيد ذات مساء كيف تم إبلاغ والده خلال أربعينيات القرن العشرين بأن الأمير عزام جاه – ولي عهد حيدر آباد – لن يصبح الحاكم التالي؛ ولا حتى شقيقه الأصغر الأمير معظّم جاه الذي تزوج من أميرة عثمانية أخرى هي الأميرة نيلوفر ابنة عم دروشهفار.
وبدلاً من ذلك، ستنتقل الخلافة إلى الأمير مكرم جاه؛ فقد تم شطب والد الصبي وعمه في خط الخلافة لصالح طفل، وأخبرنا النَّواب “أن السبب في عدم منح عزام جاه الخلافة كان بسبب إسرافه، وكان معظّم جاه يتمتع بنفس الإسراف أيضاً”.
وقال إن معظم جاه كان يدعو نخبة حيدر أباد، بما في ذلك والديه، إلى حفلات تنكرية، وكان يجعل نساء النخبة يجلسن ويغنين له. وكان معظم جاه أيضاً يجعل محظياته يرتدين سراويل ركوب الخيل، ويعين السكرتير العسكري لمرافقتهن. وقال النَّوَّاب الذي يبلغ من العمر الآن 82 عاماً: “أتذكر أنني ركبت مع المحظيات، وكان عمري آنذاك حوالي 18 أو 19 عاماً”.
يتذكر أيضًا ذهابه مع والده، عندما كان مراهقًا، لرؤية الأميرة دوروشهفار: “كانت سيدة جميلة جدًا، وكانت ترتدي الساري دائمًا، وكان الساري يغطي رأسها. وكانت دوروشهفار تقف هناك وتصف كان نظام (الحاكم)، وكيف ستؤول الخلافة إلى مكرم جاه”.
وبعد سنوات، أصبح أمير الدين مستشارًا للجيل التالي واستشير في خلافة مكرم جاه. وجد نجل النواب – نواب سيد أحمد خان – بين أوراق العقيد، الذي توفي سنة 2012 عن عمر يناهز 99 سنة، وثيقة مكتوبة باللغة العربية تؤكد كل ما كشفته حتى الآن.
وأخبرنا خان أنه لم يكن لديه أي فكرة عما جاء في الوثيقة التي تم اكتشافها في كانون الأول/ديسمبر 2021 – حتى أطلع الأكاديمي البارز الدكتور سيد عبد المهيمن قدري في أوائل سنة 2023 على أوراق جده: “كنت أبحث عن مساعدة لفهمها بشكل أفضل، وخلال تلك الزيارة علمت بأهميتها التاريخية”.
يعمل قدري من مكتبته الضيقة الموجودة داخل مجمع أضرحة أحد الأولياء المبجلين محليًا، حضرة بآثار ولي صاحب، في المدينة القديمة.
تطغى على المكان مجموعة من المخطوطات، بما في ذلك عدد لا يحصى من الكتب الأردية النادرة وأكثر من 600 مخطوطة فارسية وعربية عمرها قرون.
قدري هو عالم ملتحٍ يرتدي قلنسوة وكورتا تقليديين، ويقدّم لنا شخصية هادئة ومثقفة للغاية، مع التزام عميق بعمله في مجال حفظ التراث. وخلال زيارتنا، كان يستقبل سيلاً متواصلاً من الزوار، الذين حيّوه جميعًا بتوقير (قيل لي أن وزير داخلية ولاية تيلانغانا قد مرّ عليه مؤخرًا).
كان قدري متحمسًا لوثيقة الخليفة، وقال لنا بثقة: “إنها صحيحة”.
وكانت الوثيقة موجهة إلى النظام (الحاكم) ووقعها عبد المجيد في نيس في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1931، أي بعد أسبوع من زفاف ابنته. ومن خلال الوثيقة؛ التي ترجمها جيمس إلى الإنجليزية، ينقل عبد المجيد لقب الخليفة إلى النظام ليحتفظ به في عهدته عند وفاته، قبل أن يطالب به الابن البكر من اتحاد السلالة.
وجاء في خاتمة الوثيقة: “أثق بأن يكون الابن البكر لهذه الأسرة الجديدة من بعدك [النظام] مناسباً لمنصب الخلافة وحكم حيدر آباد ديكان”.
حملتُ الوثيقة ونظرت إليها بدهشة، وكانت مصنوعة من ورق قمح سميك، مهترئ ولكنه سليم. كانت الكلمات العربية المزخرفة منقوشة بحبر أسود كربوني – بصرف النظر عن توقيع الخليفة المعقد، والذي كان باللون الأحمر الغامق. كانت هذه هي القطعة المفقودة في اللغز، الوثيقة التي تثبت طموح عبد المجيد المحفوظ بعناية لاستمرار خط الخلافة في حيدر أباد.
وبالنسبة لخان، فقد ملأه هذا الاكتشاف أيضًا بالدهشة: “لقد أدركت أنني اكتشفتُ لغزًا عظيمًا وكنزًا ثقافيًا مرغوبًا فيه”.
ليس لدى عائلة إمام الملك أي أجندة سياسية ولا نوايا تتعلق بالوثيقة، على الرغم مما تثبته. يقول خان: “إن وصايتنا على الوثيقة هي وصاية ثقافية وتاريخية وغير سياسية. ولا أطماع لنا في إحياء الخلافة سياسيًا”.
إن الروابط بين عائلة الإمام الملك والشرق الأوسط عميقة؛ فقد استضافت الأسرة كل من أئمة المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة إلى إمام الأزهر في مصر، وهو أحد أعرق المعاهد الدينية في العالم الإسلامي.
كما أن للعائلة علاقة طويلة الأمد بفلسطين: فقد استضاف رئيسها الراحل، إمام الملك الثالث، ياسر عرفات في حيدر آباد مرتين. وفي سنة 1998، وضع مفتي القدس حجر الأساس لمسجد في تلال بانجارا في حيدر آباد، أحد أغنى أحياء المدينة.
وهكذا كان الحال في سنة 1931، فبعد أسابيع من زواج السلالة في فرنسا، توجه مولانا شوكت علي، الذي توسط في عقد الوحدة، إلى فلسطين لحضور المؤتمر الإسلامي العالمي. الذي نظمه مع مفتي القدس.
وهناك، كان يأمل هو وعبد المجيد أن يستغلا المؤتمر لحشد التأييد بين الأعيان المجتمعين والزعماء السياسيين الإسلاميين المستقبليين لمطالبة بالخلافة العثمانية.
لكنهما فشلا: فمع اقتراب موعد انعقاد المؤتمر، أعلن البريطانيون أنهم سيمنعون الخليفة المخلوع من دخول فلسطين.
لم يتحقق طموح عبد المجيد، لكن الحدث حقق شيئًا واحدًا ذا عواقب بعيدة المدى: ترسيخ النضال الفلسطيني كقضية إسلامية وعربية عالمية.
أمنية الخليفة المحبطة
توفي عبد المجيد إثر نوبة قلبية في سنة 1944، بالقرب من بوا دو بولون في باريس، وسط تبادل لإطلاق النار بين الجنود الأمريكيين والنازيين أثناء تحرير المدينة من القوات الألمانية.
لكن العالم كان قد تغير كثيرًا لدرجة أن النظام لم يحقق أمنية الخليفة بأن يُدفن في الهند.
إن أورانجاباد، حيث وجدتُ ذلك الضريح المهجور، هي الآن جزء من ولاية ماهاراشترا، لكنها كانت تابعة لولاية حيدر آباد. ومن المعروف جيدًا بين مثقفي حيدر آباد أن نظام الحكم في أوائل الأربعينيات من القرن العشرين كان قد بنى ضريحًا عثمانيًا لعبد المجيد.
ولكن في سنة 1944، ووفقًا للمراسلات الخاصة في المكتبة البريطانية، اعتبر النظام أنه ليس من الحكمة، نظرًا للتوترات الطائفية المتزايدة بين الهندوس والمسلمين في جميع أنحاء الهند، أن يتم نقل جثمان الخليفة إلى الهند؛ حيث كانت تعيش ابنته وحيث ترعرع وريثه مكرم جاه. وبالمثل، منعت الحكومة في تركيا دفنه في أرض أجداده.
وبدلاً من ذلك، دُفن عبد المجيد في باريس لما يقرب من عقد من الزمان قبل أن يُدفن أخيرًا في المدينة المنورة، في المملكة العربية السعودية سنة 1954، وأصبح ضريحه المهجور، مثله مثل رسائله ووصيته، أثرًا آخر من عالم الاحتمالات الضائعة.
انتقل مكرم جاه وريث كل من نظام والخليفة إلى إنجلترا سنة 1948 بعد سقوط حيدر آباد، حيث التحق بمدرسة هارو الراقية وجامعة كامبريدج والكلية العسكرية الملكية في ساندهيرست، كأي رجل إنجليزي من الطبقة العليا.
وفي سنة 1954، انفصل والداه اللذان أنجبا ابناً آخر في سنة 1939، وهو الأمير مفخم جاه بعد 23 سنة من الزواج. وبينما توفي عزام جاه في سنة 1970، عاشت دوروشهفار في لندن حتى وفاتها في سنة 2006 عن عمر يناهز 92 سنة، ودُفنت الأميرة في مقبرة بروكوود جنوب غرب لندن؛ حيث رفضت أن تُدفن في تركيا لأن الحكومة في أنقرة رفضت السماح بدفن والدها هناك قبل 62 سنة.
خلف مُكَرَّم جاه جده في منصب النظام عند وفاته سنة 1967، ولكنه لم يكن في وضع يسمح له بالمطالبة بلقب الخليفة من عبد المجيد: وبدون سلطة، واجه نزاعاً قانونياً على الميراث؛ حيث طالب به آلاف الأشخاص. وفي سنة 1971، ألغت الحكومة الهندية لقبه “نظام” وأخضعت ممتلكاته، بما في ذلك قصري تشومالا وفلاكنوما، للضرائب وقوانين الأراضي.
لذلك اختار مكرم جاه حلاً غير تقليدي، فانتقل إلى غرب أستراليا في سنة 1973؛ حيث اشترى مزرعة أغنام مساحتها 200 ألف هكتار. أخبر جاه أحد الصحفيين ذات مرة أن أبا بكر، خليفة الإسلام الأول، كان راعيًا للأغنام، وأضاف: “لا أرى سببًا يمنعني من أن أكون راعيًا”.
في سنة 1996، انتقل جاه، الذي كان في الستينيات من عمره آنذاك، إلى إسطنبول، حيث تولى جده السلطة ذات يوم. وهناك أقام وريث الخلافة العثمانية في شقة صغيرة في العاصمة العثمانية السابقة، وعاش في خفاء نسبيًا لبقية حياته.
في كانون الثاني/يناير 2023، طلب نواب سيد أحمد خان من أخيه الأكبر، الذي كان مسافرًا إلى تركيا، أن يتعقب مكرم جاه ويخبره عن وثيقة الخلافة. وقال لي: “لسوء الحظ، توفي جاه قبل أن يتمكن أخي من تحديد مكانه”.
وقد حقق مكرم جاه، وهو النظام الثامن، ما لم يستطع جده لأمه تحقيقه بعد وفاته، ودُفن في الهند، في مسجد مكة المكرمة في حيدر آباد. أما ابنه البكر الأمير عزمت جاه الذي أصبح النظام التاسع فهو صانع أفلام بريطاني ويمتلك عدة قصور في حيدر آباد، بما في ذلك قصر تشومالا وفلاكنوما.
قد تبدو حكاية الخلافة الهندية التي لم تحدث أبدًا حكاية ثلاثة عوالم انهارت وتفككت، الإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية البريطانية، والدولة الهندية التي يحكمها الأمراء؛ ولكنها كانت أيضًا محاولة مهمة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية لتصور مستقبل سياسي جديد للإسلام والمسلمين في القرن العشرين؛ فهي حكاية تضيء الروابط الواسعة والاستثنائية والمنسية في كثير من الأحيان بين المناطق النائية من العالم الإسلامي.
إنه تاريخ يجب ألا يُنسى.
لقد أصبح ضريح الخليفة المفترض ضريحًا مهجورًا، ولكن ربما لا يكون الأمر كذلك دائمًا إذا ما أصبح التاريخ الغني الكامن وراءه معروفًا. ففي نهاية المطاف، كان قصر وفلاكنوما خراباً في يوم من الأيام، ولكن تم ترميمه بشكل رائع.
سألت نواب أكرم عباس سيد عما إذا كان يعتقد أن التراث الثقافي المتبقي لحيدر آباد سيبقى في المستقبل.
فأجاب بثقة: “سوف يبقى هناك”
المصدر: ميدل إيست آي