عندما حصل اتفاق بين صندوق النقد الدولي وتونس عام 2016 على الموافقة على قرض بقيمة 2.8 مليار دولار أعلنت الحكومة حينها كونه قرضًا بلا شروط مجحفة، ما عدا التعهد بتفعيل جملة من الإصلاحات التي تراها ضرورية، بمعنى آخر وكأنها تقول إنها ستفعلها بوجود القرض أو دونه، لكن مع الوقت تبين أن هذا الإعلان لم يكن دقيقًا إن لم نقل لم يكن صحيحًا وأنه مغالطة للرأي العام، حيث ثبت اليوم أن هذا القرض الذي مُنح كان مشروطًا أو كما قال صندوق النقد الدولي في بيانه بشأن الاتفاق عليه أنه مرتبط بإصلاحات اقتصادية.
هذا القرض يُمنح على أربع سنوات، أي أنه في شكل أقساط مرتبطة بمهالات زمنية، وقبل منح كل قسط يقيم البنك مدى التزام تونس بما فرض عليها من إصلاحات إلى درجة أن القسط الثالث الذي تبلغ قيمته 257 مليون دولار تأخر صرفه عن موعده المحدد بأشهر ولم يتم إيداعه إلا في مارس الماضي لكن مع حزمة جديدة من الشروط.
بالنسبة للحكومة الحاليّة فإنها لم تعد تملك خيارًا أمام تأزم الوضعية المالية وتراجع المخزونات من العملة الصعبة التي وصلت إلى ما دون 80 يومًا توريد إلا أن تسرع الخطى في تنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي، حيث لم يعد الأمر يتم في الخفاء ودون اعتراف، بل اضطرت الحكومة لتقر أنها لم تعد تمتلك خيارًا آخر.
80% من قيمة الموارد الجبائية يدفعها الموظفون في حين أن الشركات وأصحاب المهن الحرة لا يدفعون إلا 20% بسبب منظومة قوانين بالية
هنا علينا أن نفهم طبيعة الشروط والإملاءات التي فرضتها هذه المؤسسة المالية العالمية، وبالإمكان هنا اختزالها في عناوين رئيسة هي:
التحكم في كتلة الأجور من خلال وقف الزيادات في المرتبات والتقليص في عدد الموظفين في القطاع العمومي عبر التسريح الطوعي وإغلاق باب الانتدابات الجديدة وإصلاح الصناديق الاجتماعية من خلال رفع سن التقاعد وزيادة نسبة المساهمات للمنخرطين وفرض قطع نسبة 1% من المرتب تحت عنوان مساهمة تضامنية لكنها في الحقيقة مفروضة وإنقاذ المؤسسات العمومية من المصاعب التي تواجهها عبر خصخصتها أو فتح نسبة من رأسمالها للخواص المحليين والأجانب ومراجعة منظومة الدعم.
وهنا أيضًا وضع عنوان وهو ذهاب الدعم لمستحقيه أي الفقراء في حين أن المعضلة المتعلقة بمنظومة الدعم ليست هنا بل في تهريب المواد المدعومة وأيضًا استغلالها من المصانع والنزل والمطاعم الفاخرة رغم منع القانون لذلك (الإصلاح الجبائي).
وهي معضلة كبيرة تعاني منها تونس، فـ80% من قيمة الموارد الجبائية يدفعها الموظفون في حين أن الشركات وأصحاب المهن الحرة لا يدفعون إلا 20% بسبب منظومة قوانين بالية تشجع بطريقة أو بأخرى على التهرب الضريبي بما فيها مجلة الاستثمارت التي تحولت إلى وسيلة لا للتهرب الجبائي فقط بل لنهب موارد الدولة من الشركات الغربية.
لو عدنا هنا إلى مسألة مراجعة منظومة الدعم فإننا نجد أن تفعيلها صار بخطى سريعة جدًا، فالدولة تؤكد أنها لن تزيد أسعار المواد المدعومة الأساسية وهي الخبز والزيت النباتي والسكر والدقيق، لكنها في مقابل ذلك حررت الأسعار في المواد الأخرى التي تشهد زيادات مستمرة وبنسق جنوني خاصة كلما رفع سعر المحروقات، الأمر الذي بات إجراءً متكررًا وآخره حصل قبل أيام قليلة، حيث رُفع سعر وقود السيارات وهو ما يعني ارتفاعًا جديدًا في الأسعار يحصل مباشرة.
كل هذا أدى إلى نتيجة واحدة وهي الانتقال من تضرر القدرة الشرائية للمواطن التونسي إلى ضربها ونسفها تمامًا
الإجراءات التي تتخذها الحكومة استجابة لشروط صندوق النقد الدولي لم تتوقف هنا، بل امتدت إلى البنوك، فمؤخرًا عمد البنك المركزي إلى زيادة الفائدة المديرية على القروض البنكية بنسبة 1.25% دفعة واحدة، والهدف مساعدة البنوك على حساب المواطن العادي الذي سيتكبد دفوعات جديدة خاصة أن أغلب الأسر التونسية مرهونة لدى البنوك بقروض سكنية أو استهلاكية أو قروض لشراء سيارات.
كل هذا أدى إلى نتيجة واحدة وهي الانتقال من تضرر القدرة الشرائية للمواطن التونسي إلى ضربها ونسفها تمامًا، حيث صار التوازن بين المدخول وما يفترض أنه قيمة الإنفاقات مختلاً إلى أبعد حد.