أعلن الأتراك أمس قرارهم بنقلة نوعية في حياة الجمهورية التركية لكي تنتقل إلى ما يُعرف بـ”الجمهورية التركية الثانية” التي حصد فيها حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب أردوغان كل من الرئاسة والبرلمان، متفوقًا على نظيره من حزب الشعب الجمهوري “مُحرَم إينجه” بأغلبية وصلت نسبتها أكثر من 53%، وأثبت الأتراك أنهم يريدون أردوغان كأول رئيس للنظام الرئاسي الذي سيطبق في البلاد قريبًا.
وفقًا للتعديلات الدستورية التي أقرها استفتاء شعبي في العام الماضي، سوف تتحول الجمهورية التركية من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، يكون فيه الرئيس – وهو الفائز في هذه الحالة رجب طيب أردوغان – المصدر الأول للقرارات التنفيذية والمسؤول عن الموافقة أو الرفض للقرارات البرلمانية، وهو من يُعين السفراء ومبرم الاتفاقات الدولية وممثل البلاد بشكل رسمي خارجها وداخلها، بعدما قرر أكثر من 25 مليون صوت أن يكون أردوغان المسؤول عن كل ذلك بعد مشاركة انتخابية فريدة من نوعها وصلت إلى 87%.
لم يكن مستوى التغير في الجمهورية الجديدة على المستوى الرئاسي فحسب، بل كان أيضًا على المستوى البرلماني، حيث تشهد تركيا لأول مرة تحالفات انتخابية بين الأحزاب المعارضة مكنت كثير من الأحزاب الصغيرة من فرصة الدخول إلى البرلمان، مثل حزب المرشحة الرئاسية السابقة ميرال أكشينار “الحزب الجيد”، وهو ما سيغير كليًا شكل التوازن في البرلمان، بالإضافة إلى انتخاب 600 نائب برلماني هذه المرة بدلًا من 500 نائب، ونال حزب العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية أيضًا.
تضاعف الناتج المحلي التركي إلى 5 أضعاف مقارنة بالعقدين الماضيين، وهو ما يصفه الخبراء بمعجزة اقتصادية سمحت لكثير من الفئات الفقيرة في المجتمع التركي بالصعود إلى الطبقة المتوسطة
ولكن الأهم من بين كل هذه التغييرات التي ستطرأ على أبواب الجمهورية الثانية هو التغيير الاقتصادي، وبمقارنة بتصريحات الرئيس التركي قبل الانتخابات فإنه وعد أن لديه كل الإمكانات والوسائل الكافية التي ستعيد للعملة التركية قوتها التي خسرتها أمام الدولار الأمريكي خلال الأشهر القليلة الماضية، ويبدو أن الأخبار سارة بشأن اقتصاد الجمهورية التركية الثانية.
الجمهورية الثانية.. الجمهورية الاقتصادية
تحسن الليرة التركية بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية أمس
ظهرت الجمهورية التركية خلال السنوات الماضية كقوة اقتصادية ناشئة بعد أن انضمت إلى مجموعة الدول الـ20، وهي المجموعة التي تضم أقوى الدول اقتصاديًا، من بينها الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا، وعلى الرغم من وجود تركيا بين دول تلك المجموعة فإنه لم يُشار إليها من قبل على أنها دولة مُصنعة أو أمة تصنع، إلا أن ذلك يبدو أنه سيتغير قريبًا.
سجلت الأسواق اليوم تحسنًا ملحوظًا لليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، لتنخفض بنسبة 2.2% أمام الدولار بعد أن سجلت نسب ارتفاع حادة ومستمرة خلال الأشهر القليلة الماضية، حيث تُسجل الليرة التركية اليوم أقوى حالاتها في المعاملات التجارية هذا الصباح بعد أن وصلت إلى 4.56 ليرة لكل دولار، بعدما سجلت أعلى ارتفاع لها يوم 23 من مايو/أيار بتسجيلها 4.92، انعكس ذلك على البورصة التركية “Borsa Istanbul“، حيث أشار سوق تداول الأوراق المالية اليوم صباحًا ارتفاعًا بنسبة 3.6% مع بداية معاملته التجارية صباح يوم الانتخابات.
تعرض رجب طيب أردوغان إلى انتقادات لاذعة بشأن الأزمة المالية التي تعرضت لها الليرة التركية خلال الأشهر القليلة الماضية، وتلقى انتقادات طويلة بشأن سياسة الحكومة المالية التي حاولت دعم الليرة التركية من خلال رفع أسعار الفائدة بنسبة وصلت إلى أكثر من 17%، بالإضافة إلى زيادة نسبة التضخم إلى أعلى نسبة يسجلها منذ عام 2004 وهي 12.15%، إلا أن الساعات الأولى من صباح اليوم التالي للانتخابات تدل على مؤشرات إيجابية بخصوص الانتقادات المالية التي تعرضت لها الحكومة سابقًا.
سجلت الأسواق اليوم تحسنًا ملحوظًا لليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، لتنخفض بنسبة 2.2% أمام الدولار
أول تلك المؤشرات أن ردة فعل الليرة التركية لنتيجة الانتخابات الرئاسية يدل على وجود استقرار سياسي نسبي أثر إيجابيًا على العملة التركية، وهو خبر سار لكل مستثمر كان قد استثمر أصولًا له من قبل أو ينوي الاستثمار في تركيا في الوقت الراهن، استنادًا إلى ما صرح به نائب رئيس الوزراء التركي “محمد شيمشك” عقب نتائج الانتخابات الرسمية قائلًا: “الآن نستطيع تمهيد الطريق للإصلاحات السريعة”.
الانتخابات المبكرة والطريق للأمة الصناعية
تحدث رجب طيب أردوغان عن الإصلاحات الصناعية وتعزيز الصناعة المحلية التركية حتى قبل إعلان الانتخابات المبكرة، بعد إعلان صناعة أول سيارة تركية محلية “سيارة دفريم” التي وعد الرئيس التركي أن يُنهيها مهندسون أتراك لتكون محلية الصنع بشكل كامل، إلا أن الآن بعد أن فاز أردوغان بالانتخابات الرئاسية أمس ليكون أول رئيس تركي للنظام الرئاسي الذي وافق عليه الأتراك في استفتاء شعبي العام الماضي، يبدو أن قرار الانتخابات المبكرة سوف يسمح للأتراك بالتحول لأمة صناعية بحسب تنبؤات الخبراء الاقتصاديين.
وصل الاستثمار الأجنبي أعلى معدلاته في تركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية – الحزب الحاكم – للسلطة منذ عام 2002، مع المحافظة جنبًا إلى جنب على معدلات التضخم لتكون رقمًا واحدًا
تضاعف الناتج المحلي التركي إلى 5 أضعاف مقارنة بالعقدين الماضيين، وهو ما يصفه الخبراء بمعجزة اقتصادية سمحت لكثير من الفئات الفقيرة في المجتمع التركي بالصعود إلى الطبقة المتوسطة، وعلى الرغم من أن ذلك يبدو مشجعًا للغاية بالنسبة للاقتصاد التركي فإنه لا يُحقق معدلات عالية وكافية بالنسبة لدخل الفرد، ليكون على النظام الجديد في الجمهورية الثانية تحدي أن يتحول من نظام القطاعات كثيفة العمال إلى نظام التصنيع عالي القيمة المضافة.
وصل الاستثمار الأجنبي أعلى معدلاته في تركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية – الحزب الحاكم – للسلطة منذ عام 2002، مع المحافظة جنبًا إلى جنب على معدلات التضخم لتكون رقمًا واحدًا، ذلك قبل أن تعلو إلى 12% بشكل استثنائي مع أزمة العملة الحديثة، بالإضافة إلى انخفاض نسبة الدين العام طوال السنوات الماضية مما يعني استقرارًا في الاقتصاد الكلي كان له أثره على طبقات وفئات كثيرة من المجتمع التركي.
حققت تركيا كل المراحل الواجب عليها تحقيقها للتحول من أمة زراعية إلى دولة تعتمد على القطاعات كثيفة العمال وهو ما جعلها تضاعف من نسبة الصادرات وتدخل ضمن مجموعة الـ20 ضمن أقوى الدول اقتصاديًا
يتوقع الخبراء أن الانتخابات المبكرة وفوز حزب العدالة والتنمية بها برلمانيًا ورئاسيًا يمنح الفرصة ليتحول الاقتصاد التركي إلى اقتصاد “الإنتاج بكثافة” (capital intensive production)، وهو تحدي يقع على عاتق الرئيس الجديد قبل أن تقع بلاده في أزمة تُعرف بـ”أزمة أو فخ الدخل المتوسط” التي قد يعيق حلها أزمة العجز التجاري الكلي الذي يكون سببه الأساسي استيراد تركيا لمنتجات الطاقة بنسبة 75% وذلك بعدما تضاعف استخدام تركيا من تلك المنتجات بسبب النمو الاقتصادي.
لا يزال هناك تحديات اقتصادية على الجمهورية الثانية، أهمها حل عدم التوازن بين الصادرات والواردات رغم تضاعف نسبة الصادرات التركية مقارنة بالسنوات السابقة، ما يجبرها على التركيز على المشروعات قصيرة المدى التي لا تحقق رأس مال ضخم بشكل كافٍ ليدعم المشروعات طويلة الأجل التي ستعزز بالتبعية الدخل القومي وترفع من دخل الفرد للخروج من أزمة الدخل المتوسط.
لقد حققت تركيا كل المراحل الواجب عليها تحقيقها للتحول من أمة زراعية إلى دولة تعتمد على القطاعات كثيفة العمال وهو ما جعلها تضاعف من نسبة الصادرات وتدخل ضمن مجموعة الـ20 ضمن أقوى الدول اقتصاديًا، وهو ما جعل اقتصادها اقتصادًا ناشئًا، إلا أنه حان الوقت الآن للصعود إلى مرحلة أكثر تطورًا، وهي الدخول ضمن الاقتصادات القوية المُصنعة وليست الناشئة، التي يكون دخل الفرد السنوي فيها ما بين 10 – 12 ألف دولار كحد أدنى، وهي ضمن الخطط المالية والاقتصادية للنظام الجديد في تركيا.