ضاقت الدنيا بها وهي تحمل رضيعها بين يديها، ما زال جسده طريًا ناعمًا كما اعتادته على مدى 51 يومًا عاشها صغيرها فلم يرَ من الحياة سوى وجهها البشع، إذ قذفه صاروخًا إسرائيليًا من الطابق الثالث إلى بيت الجيران، فحلّقت روحه إلى خالقه، وداهم الأمّ شعورًا بأن روحها تخرج منها أيضًا، فخارت قواها وانهارت تبكيه.
زاد احتراق قلبها، عندما علمت أن رضيعها لم يكن الشهيد الوحيد، إذ رافقه شقيقه الأكبر يمان، وأخواتها راما وربا. استشهدوا جميعًا دفعة واحدة. هكذا تحكي آية شمعة، أم الشهيدَين يمان وريان، لـ “نون بوست”، عن الذكريات الأخيرة لها مع طفليها، عن اختناقها تحت الركام، وأحلامها التي كانت تخطط لها رفقة صغارها الذين خطفتهم غارة إسرائيلية غادرة في ليلة مظلمة.
عمود خرساني بين الشهداء والناجين
وقع القصف الإسرائيلي على المنزل الذي تقطنه آية على أطراف حي التفاح شرقي مدينة غزة، عند الساعة الثامنة والنصف يوم 15 يناير/ كانون الثاني، حيث كانت هي وشقيقاتها الأربعة يفترشن الأرض وسط صغارهم النائمين، وكانت هي بالتحديد بجانب أبنائها الثلاثة اليمان وناصر والرضيع ريَان الذي أنجبته في الهدنة المؤقتة.
كانت الأحاديث في تلك الليلة يغلب عليها الضحك والمزح، رغم قسوة أيام الحرب، فتقول آية: “سرعان ما قطع حديثنا ضوء أحمر، فأغمضت عينَي من شدته، وبعدها وجدت نفسي تحت الأنقاض”.
كانت الحفرة ضيّقة، ورائحة البارود والغبار تخنقها، فقالت لنفسها: “إنها نهاية الطريق.. انتهينا”، حتى تعالى صوت طفلها ناصر لمسامعها وهو يصرخ ويضغط على أصابعها. كان العائق بينهما سقف المنزل، هو فوقه وهي تحته، فانتبه إليه المنقذون، وأرشدهم نحو أمّه المدفونة تحت السقف الخرساني، فأنقذوها هي أيضًا بعد نصف ساعة من محاولات الحفر.
كانت آية آخر الأحياء الذين نجوا من البيت، وفور خروجها من تحت الأنقاض بدأت تسأل عن أحوال البقية، فعلمت أن شقيقتَيها راما وربا وطفلها الرضيع ريان لا يزال مصيرهم غير معروف.
تكمل آية: “أخبرني الجيران أن طفلي الأكبر يمان مصاب إصابة خفيفة وأنه نُقل إلى المشفى، فاطمأن قلبي، وعلمت فيما بعد أن أحد الشبان ذهب به في طريق المشفى مشيًا على الأقدام لصعوبة وصول سيارات الإسعاف إلينا حينذاك، لكن روحه فاضت إلى بارئها قبل أن يصل إلى المشفى، فعاد به إلى منزل الجيران حيث كنت وعائلتي حينها”.
وتكمل: “في تلك الأثناء كان الجيران قد أخرجوا ريان من تحت الأنقاض بعد أكثر من ساعة على الحادثة، رحت أركض نحوه وسرعان ما علمت أنه ليس سوى جثة هامدة”.
لم تعي آية ما الذي يمكن أن يفعله المرء في حضرة الموت والفقدان، آلمها قلبها ولم يخفف البكاء من وجعها ولم تعد ترى إلا الظلام وهو يحيطها من كل الجوانب، لكن شقيقها كان لديه أمل أن يكون ريان حيًا يرزق، فربما تحدث معجزة، فأخذ يركض بين البيوت ينادي على ممرض أو طبيب، فوجد ممرضة في أحد البيوت فأخبرته أن الطفل فارق الحياة ولا داعي لانتظار الإسعاف.
أخدت آية طفلها من يد شقيقها وشرعت في بكاء عنيف، فسمعت صوت أحدهم يقول: “لقينا ربا وراما مستشهدات، مش قادرين نطلّع راما لإنه واقع عليها عمود”. وحينها انفجر الحزن في قلبها.
تضيف: “انهرت تمامًا.. أبكي من؟ شقيقاتي أم طفلي الذي أتى إلى الحياة أيامًا معدودة ليعلق قلبي به ثم يرحل؟ لحظات قليلة وأنا أتجرّع فيها مرارة الفقد وأكتوي بناره، محاولةً استيعاب ما يحصل”.
قبل أن تعرف خبر استشهاد بكرها، كانت آية تخاف أن يرى شقيقه ريان جثة هامدة، فطوال فترة الحمل كان متحمسًا يلحّ بالسؤال عن موعد قدومه، وحين تمّت ولادته كانت ضحكة يمان مبهرة لكل من شاهدها، فتقول آية: “في إحدى المرات سمعته يهمس في أذن ريان ويقول: “أنت ما شفت بيتنا ولا مرة لأنه اليهود قصفوه، بس لا تخاف بابا حيصلحه ونرجع عليه كلنا بس تخلص الحرب””.
لم يكن يمان صاحب الـ 7 سنوات ونصف طفلًا عاديًا أبدًا، إذ كان يبهر والدته في كل موقف حتى فاجأها في بداية الحرب بثباته، فكان يطمئن شقيقه ناصر بصوته الطفولي لحظة الغارات الإسرائيلية الشديدة، قائلًا: “لا تخافوا ما في إشي بخوّف”، فيما كان الخوف يتسلل إلى قلب والدته مع كل غارة، وهي تشفق على ناصر ويمان ويعزّ عليها ما يعيشه الصغار، وقبل استشهاده كان يخبر أمه بأنه مشتاق للبيت ولألعابه ولحياته ويودّ العودة إلى بيتهم.
غادر يمان الدنيا مشتاقًا أن يعيش بسلام وأمان، أن يذهب في فسحة مسائية في يوم العطلة، تردف والدته لـ”نون بوست”: “في آخر أيامه بدأت تظهر عليه آثار الحرب في كل حركاته، إذ أصبح من خلال لعبه يتحدث هو والأطفال عن الأحزمة النارية والصواريخ، فكنت أشفق عليه لتحول اهتماماته لهذا الجانب بعيدًا عمّا يشغل عقل الصغار في مثل عمره”.
تكمل: “غادر صغيري يمان دون أن يجرب كل ما في الحياة، فقد كان شديد الانتقائية في طعامه ولم يجرب منه إلا القليل، كما كان في الشهور الأخيرة التي سبقت الحرب يشعر بضيق كل الأماكن من حوله، كان يخبرني أنه يريد بيتًا كبيرًا جدًا يحتوي على حديقة ومسبح، فكنت أشعر بالحزن حينها تجاه أحلام صغيري البريئة في ظل ظروف غزة الصعبة، لكن عندما ترك يمان هذه الحياة عرفت أنه كان يرجو حياة في مكان آخر، دون حتى أن يعي ذلك”.
لم تفرّط آية بقلبه أبدًا طوال فترة الحرب، لم تخبره عن مدرسته التي قُصفت، ومركز التحفيظ الذي أصبح ركامًا، وعن من استشهدوا من معارفهم، أخافتها فكرة أن يتذوق يمان طعم الفقد قبل أن يعي ماهية الحياة، لكن لم تجرؤ يومًا على التفكير في أن تطاله هو وأخوته يد الموت.
قبل الحرب، كانت يونيسيف تعتبر أن 500 ألف طفل فلسطيني بحاجة إلى خدمات الصحة النفسية ودعم نفسي في غزة. واليوم، تشير تقديراتها الأخيرة إلى أن جميع الأطفال تقريبًا بحاجة إلى هذا الدعم، أي أكثر من مليون طفل.
تحب آية أن تنادي يمان بـ”الفيلسوف الصغير”، كونه كان طفلًا بارعًا في صياغة الأسئلة العميقة، مهتمًا بعالم القراءة، باحثًا صغيرًا يتحدث الفصحى ببراعة، لم يكن يشبه من في عمره أبدًا، فتقول عنه: “كان منذ عمر الروضة يجلس لساعات يشاهد الأفلام الوثائقية عن حياة الحيوانات، وعالم البحار، والفضاء، وحتى النباتات ومراحل نموها، كما كانت تشدّه برامج صناعة السيارات كثيرًا، وكانت قناة ناشيونال جيوغرافيك هي قناته المفضلة، وكان منذ سنوات عمره الأولى يحفظ قصص الكثير من الأنبياء ويرويها لشقيقه ناصر بلغته الفصحى المميزة”.
كانا يمان وآية يحلمان بيوم إتمامه لحفظ كتاب الله، إذ كان قبل الحرب قد انضم إلى مركز لتحفيظ القرآن وداوم على الحفظ حتى في أيام الحرب، وكان مصرًّا ومتحمسًا لتحقيق ما يصبو له رفقة والدته التي تفتخر أنها كانت أمًا لطفل مثله، وستظل تحكي طوال عمرها عن أسطورتها الصغيرة يمان.
ظلَّ طفلها الثالث ناصر يقاسمها الشوق للراحَلين، فتقول آية لـ”نون بوست”: “كان شديد التعلق بيمان، شقيقه الذي يكبره بعامين، فقد كان حنونًا جدًا، يشاركه اللعب والدراسة ويرافقه في كل نشاطاته، وفي يوم الواقعة ولصعوبة الظروف لم نستطع إخفاء الحدث عن ناصر، وأكثر ما يؤلمني هو تذكره لحظة خروج يمان وريان من المنزل للمرة الأخيرة، فقد أخد ناصر يشد الكفن الذي كان يلفّ يمان وهو يبكي حتى لا يأخذوا منه أخاه”.
أما عن استشهاد شقيقتَيها، فتقول قبل يومين من استشهادهما أنها أخبرتهما أنها رأت في حلمها أن منزلهم سقط عليهم، وهي نالها منه عمود خرساني وقع وأصابها في الرأس مباشرة، تألمت بشدة، وصعدت روحها للخالق رفقة أختها، وعند سؤالها: “أي وحدة فينا؟”، أشارت بإصبعها نحو ربا وضحكت وقالت: “ودّعوها ودّعوها”.
وفي الواقع، سقط عمود فوق رأس راما فبقيت تحت الأنقاض ليلة كاملة بعد أن تأكد الجيران أنها فارقت الحياة، لكن لم يستطيعوا إخراجها لثقل العمود، وعدم توفر الأدوات اللازمة، وفي صباح اليوم التالي وعندما أخرجوها من تحت الركام، وجد المسعفون في فمها قطعة من كاجو لم تمهلها الحياة فرصة ابتلاعها، ليخرجوها من فمها ملطخة بالدم.
تنهي آية حديثها وتقول أنها في تلك الليلة، احتارت في حزنها، ولكنها خلعت قطعة من ملابسها لتدثّر طفلها خوفًا عليه من برد يناير القارص، احتضنته بجسده البارد ولم تفرّط به لليلة كاملة، كانت تتمنى أن تحدث معجزة ويعود قلبه للنبض لكن أمر الله نافذ، كما أرادت أن تحتفظ بجسد شقيقه يمان أيضًا لتودعه الوداع الأبدي عسى أن يشفي قليلًا من غليل قلبه، لكن انتزعوه منها خوفًا على قلبها المقهور.
قتل الجيش الإسرائيلي 2100 طفل رضيع فلسطيني ممّن تقلّ أعمارهم عن عامين، ضمن نحو 17 ألف طفل قتلهم في قطاع غزة منذ بداية جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” منذ السابع من أكتوبر الماضي، وهو عدد غير مسبوق في التاريخ الحديث للحروب، ويعبّر عن نمط خطير وقائم على نزع الإنسانية عن الفلسطينيين في قطاع غزة بأكثر الطرق وحشية وأشدها فظاعة.