مر يوم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية وسط ترقب شديد، ليس من الشعب التركي فقط الذي تمثل له تلك الانتخابات نقطة تحول مصيرية في تاريخه ومستقبل دولته، إنما من كل حكومات وشعوب العالم العربي خاصة ودول العالم عامة، وأخص الذكر منهم دول أوروبا.
انتظر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه هذا اليوم طويلًا، ومعهم مناصروهم جميعًا سواء كانوا داخل تركيا أم خارجها، وانتظرته كل الدول التي سبب لهم أردوغان وحزبه أرقًا مزمنًا بسبب سياساته التي تمضي باتجاهٍ معاكس لتوجهاتهم وخططهم للمنطقة.
هذا اليوم خطت تركيا الخطوة الأولى الحقيقية تجاه بناء رؤيتها لعام 2023، وبدأت تتلمس طريق الخلاص وإلى الأبد من تبعيتها للغرب، عبّر عن ذلك الرئيس أردوغان في أول خطاب له بعد إعلان النتائج قائلًا: “التعديلات الدستورية دخلت حيز التنفيذ الآن وهدفنا تحقيق أهداف تركيا لعام 2023، وتنفيذ تعهداتنا كافة التي قدمناها للشعب التركي عن طريق الإنتاج والعمل ومشاريعنا الكبرى”.
لم يكن ينظر الغرب لتركيا إلا كحديقة خلفية له تمشي بركبه، وليس كشريك له إنما كتابع، وفي هذا الصدد صرح الرئيس التركي أردوغان: “الشعب لم ينتخب اليوم رئيسًا فقط بل انتخب نظامًا جديدًا”، الأمر الذي يعني أن تركيا بعد هذه الانتخابات ستختلف جذريًا عن تركيا قبل هذه الانتخابات، ليس التغير المقصود في سياساتها وتوجهاتها الحاليّة التي من المرجح أنها ستستمر عليها، إنما سيكون التغير في الفاعلية التي ستمتلكها بهذا النظام الرئاسي الجديد على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، بعد أن كانت مكبلة بنظام برلماني لا يمكن التخلص من أزماته السياسية التي لا تنتهي، إلا بانقلابات عسكرية جرت العادة على حدوثها، كل عشر سنوات تقريبًا.
دعم حزب الشعب الجمهوري المعارض، حزب الشعوب الديمقراطية الكردي بأصواتٍ من حزبه في بعض المناطق، لكي يتعدى حاجز الـ10% اللازمة لدخول البرلمان، كون تلك العملية ستعمل على تقليل مقاعد حزب العدالة والتنمية وتجعله لا يحقق الأغلبية المطلقة
لم يكن انتصار أردوغان وحزبه بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية سهلًا في كل الأحوال، فقد اجتمعت أحزاب المعارضة جميعها ضده رغم علمها أنها لن تستطيع الصمود ضده، لكنها كانت تريد على الأقل جعل مهمة أردوغان ليست سهلة، وقد كانت فعلًا كذلك.
دعم حزب الشعب الجمهوري المعارض، حزب الشعوب الديمقراطية الكردي بأصواتٍ من حزبه في بعض المناطق، لكي يتعدى حاجز الـ10% اللازمة لدخول البرلمان، كون تلك العملية ستعمل على تقليل مقاعد حزب العدالة والتنمية وتجعله لا يحقق الأغلبية المطلقة، ولأجل ذلك أمر حزب الشعب أتباعه بإعطاء صوت واحد للحزب الكردي من كل عائلة تصوت له كما فعلها في انتخابات 2015.
وهذا ما أثبتته الإحصاءات لهذا الحزب الذي حقق زيادة بعدد ناخبيه في 64 ولاية بينما انخفضت نسبته في 17 ولاية، هي الولايات التي فيها أغلبية كردية، الأمر الذي يؤكد أن لا شعبية كبيرة لذلك الحزب بين أوساط الشعب الكردي، هذا الحزب الذي لم تكن نسبة أصواته تتعدى 6% في أحسن حالاته وفي كل الانتخابات التي أجريت قبل 2015.
مع ذلك كله استطاع حزب العدالة الفوز بـ295 من أصل 600 مقعد هي مجموع المقاعد البرلمانية، بمعنى أن البرلمان إذا أراد أن يعيق عمل الرئيس فإن عليهم أن يتفقوا جميعًا كي يستطيعوا ذلك، وهذا أمر محال في الواقع العملي بسبب تنافر تلك الأحزاب فيما بينها، بالإضافة إلى أن بعض تلك الأحزاب ربما تغامر بشعبيتها إذا اتفقت سياسيًا مع حزب مثل الحزب الكردي ضد حزب العدالة والتنمية، ذلك لأن أيدولوجيتها قومية رافضة للقوميات الأخرى، وإذا ما احتسبنا عدد مقاعد حزب الأمة بقيادة بهجلي والمتحالف مع حزب العدالة ولديه 49 مقعدًا، فإن الغالبية ستكون مريحة للحزبين، ومريحة للرئيس التركي.
تحالف المعارضين لأردوغان لا يجمعهما جامع إلا عدائهم لأردوغان، فهو مشكل من فسيفساء حزبية وفكرية متباينة ومتعارضة، من العلماني إلى الإسلامي المحافظ إلى الديمقراطي القومي، لذا فإن تحالفهم يحمل في داخله عوامل تفككه، فهو تحالف انتخابي أكثر من كونه تحالفًا سياسيًا دائمًا، سرعان ما يتفكك داخل قبة البرلمان.
وعلى ضوء النتائج التي كشفتها الانتخابات الأخيرة، فإن أردوغان وحزب العدالة سوف يستمر بسياسته الداخلية التي بدأها منذ تسلم هذا الحزب لمقاليد الحكم في تركيا، من تنمية صناعية وعمرانية ومشاريع عملاقة وتشجيع للسياحة وازدهار للاستثمارات العقارية، وبنفس الوقت سوف يضيَّق الخناق على من يهدد أمن الدولة التركية مثل جماعة فتح الله غولن التي كانت ضالعة في العملية الانقلابية الفاشلة عام 2016، وتنظيم داعش الذي شكَّل تهديدًا جديًا على الأمن الداخلي التركي بسلسة التفجيرات التي قام بها، بالإضافة إلى حزب العمال الكردستاني الانفصالي الذي من المرجح أن يستمر الرئيس التركي أردوغان في مكافحته عسكريًا، ليس في تركيا فحسب، إنما في سوريا والعراق، فهذا ما صرح به الرئيس التركي وكثير من المسؤولين الاتراك.
ومؤخرًا، توصَّلت واشنطن وأنقرة لاتفاق على “خريطة طريق” بشأن منبج، تضمن إخراج تنظيم “قوات سوريا الديمقراطية مع حزب العمال الكردستاني” منها، وفوز أردوغان برئاسة واسعة الصلاحيات، سوف يشجع الولايات المتحدة الامريكية على التعامل مع رئيس قوي كأروغان والذهاب معه لأبعد من منبج وصولًا للحدود العراقية السورية.
خارجيًا تركيا في ظل النظام الرئاسي الجديد، ستكون أكثر فاعلية وأكثر تأثيرًا بالأحداث الإقليمية والدولية
سوف يساعد النظام الرئاسي الجديد الرئيس أردوغان للبتّ بالقضايا العاجلة دون المرور بسلسلة الموافقات التي كان يفرضها النظام السياسي القديم، لا سيما أن المحيط الذي تعيش فيه تركيا متسارع الأحداث لا يعطي مهلة كافية لتمرير القرارات عبر الآلية القديمة، وكثيرًا ما كانت تلام تركيا كونها دائمًا ما تكون متأخرة بخطوة أو خطوات عن نظيراتها من دول الإقليم، الأمر الذي أضرَّ بالمصلحة التركية كثيرًا ودفعت ثمنه غاليًا من مصالح شعبها.
خارجيًا تركيا في ظل النظام الرئاسي الجديد، ستكون أكثر فاعلية وأكثر تأثيرًا بالأحداث الإقليمية والدولية، والأهم من ذلك أن الأحزاب التي لها هوى خارجي لن يكون لها الإمكانية بوضع العصي بعجلة الرئيس الجديد إرضاءً لمصالح الغرب كما كانت تفعل ذلك بالسابق، الأمر الذي جعل تركيا تتراجع في تأثيرها الدولي والإقليمي كثيرًا بشكل لا يتناسب وحجم تركيا وموقعها الجغرافي وتأثيرها الثقافي على شعوب المنطقة.
سيكون على أوروبا أن تتحمل وتصبر على رئيس عنيد وليس سهل مثل الرئيس أردوغان، لمدة خمس سنوات قادمة، ومسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، تلك الأمنية التي كانت تدغدغ أحلام الأتراك بالسابق وساومت أوروبا تركيا عليها لتحصل منها على تنازلات، لم تعد ورقة رابحة بيد الأوروبيين، ذلك لأن الرئيس التركي سيأخذ مسارًا جديدًا لا يجعل ذلك الانضمام أمرًا ملحًا للشعب التركي، بل العكس هو ما سيحصل من خلال إيجاد البدائل.
إن استعادة تركيا سيطرتها على الممرات والمضايق البحرية التابعة لها بعد 2023، وموقعها الجغرافي الواصل بين أوروبا وآسيا، وتحكّمها بأعداد اللاجئين الذاهبين لأوروبا عبر أراضيها، سيجعل أوروبا تخطب ود تركيا وليس العكس، وتلك الأسباب وغيرها، سبب الانزعاج الأوروبي الكبير من أردوغان وحزبه.
الانتخابات التركية التي شارك بها الشعب التركي بنسبة قاربت 90%، تجد دولة عربية مجاورة لها، تدعي بأن نظامها ديمقراطي، لم تتجاوز نسبة المشاركة في انتخاباتها النيابية الـ18%
لكن ماذا سيمثل انتصار أردوغان وحزبه بالانتخابات بالنسبة للشعوب العربية وحكام العرب؟ من المؤكد أن الشعوب العربية ليست على هوى حكامها المتسلطين على رقابها، ففي الوقت الذي قضى أمراء وملوك ورؤساء العرب ليلة ثقيلة في يوم الـ24 من هذا الشهر، تلقت الشعوب العربية خبر فوز أردوغان، بفرحة غامرة، كونه يمثل لها النموذج الديمقراطي الوحيد المتبقي في المنطقة، نموذج تحرر فيه من ربقة الحكم العسكري وانطلق لرحاب الديمقراطية الحقَّة، الشيء الذي كانت تتوق إليه الشعوب العربية حينما ثارت على حكامها في ربيعٍ عُرفَ باسمها.
الانتخابات التركية شارك بها الشعب التركي بنسبة قاربت 90%، وتجد دولة عربية مجاورة لها، تدعي بأن نظامها ديمقراطي، لم تتجاوز نسبة المشاركة في انتخاباتها النيابية الـ18%، إن المعاناة التي تعاني منها الشعوب العربية تجعلها تتوق لتكرار تجربة ناجحة مثل التجربة التركية في بلدانها، وغالبًا ما تعقد المقارنات بين ما يحدث في تركيا من تطور وما يحدث في بلدانها من تدهور.
إن النموذج الديمقراطي التركي مصدر إلهام للشعوب العربية وبنفس الوقت مصدر تحدٍ خطير على الحكومات العربية المستبدة، لكن شاء أولئك الحكام أم أبوا فإن التجربة الديمقراطية التركية ستترك ظلالها على المنطقة وستكون نموذجًا يُلهم الشعوب العربية للوصول إلى حالة الانعتاق والحرية، وسنرى أصداء تلك التجربة في البلدان العربية قريبًا، فهي شعوب حيَّة مُضحية.