“شيّد قصورك على المزارع، من كدّنا وعمل إيدينا”.. مطلع أغنية ظلت على مدى عقود تُغنّى في الشوارع والمدرجات والزنازين، وشكلت كلماتها وعي جمهور واسع في مصر، لكنها في الأيام الأخيرة سُمعت وهي تُغنّى، بألحان موزعة بشكل جديد، في إحدى حفلات الساحل الشمالي بمصر، الذي تقضي فيه الطبقات العليا فصل الصيف، وقد نال مقطع الفيديو الذي يظهر الحفلة وجمهورها سخرية من قطاع واسع من أبناء الطبقات الدنيا والوسطى، على عبثية القدر التي تُغنّى فيه أغنية الفقراء في فضاءات فاحشة الثراء.
ليست “شيّد قصورك” الأغنية الوحيدة التي انتقل مكانها وغُيّرت ألحانها، بل وُجدت أغنيات أخرى، سياسية وثورية، وحتى أغنيات اجتماعية شعبية كما تُسمّى، انتقلت من أماكنها وتغيّر دورها، فكيف حدث هذا التحول؟
ستجد في الحفلات على الشواطئ الخاصة والمولات والبارات، أي الأماكن التي ترعاها المنظومة النيوليبرالية، ألحان وكلمات أغنيات الشيخ إمام وصديقه الشاعر أحمد فؤاد نجم. هذه الأغنيات التي طالما أُلّفت وغُنّيت لانتقاد الجشع الرأسمالي، وانتقاد حماية النظم المستبدة له تحت حكمها، بل دفاعًا عن الطبقات الكادحة، حتى أن أصحابها دفعوا سنوات حياتهم ثمنًا لها، قمعًا وسجنًا ونفيًا، الآن أصبحت أغنيات تتراقص عليها هذه الطبقات التي تنتقدها كلمات الأغنية، في تناقض واضح للحدث ذاته بين الكلمات ومردّيدها.
أيضًا الأغنيات الثورية التي عبّرت عن أحلام ثورة يناير في مصر من كرامة وعيش وحرية وعدالة اجتماعية، انتقلت من مكانها في الميادين والمدرجات والشوارع إلى أماكن النيوليبرالية، بل انتقل مؤلفوها ومغنّوها معها، فتجد الآن فرقة مثل كايروكي، وهى الفرقة الأشهر في مصر، وربما في المنطقة العربية كلها، تتنقل بين الحفلات في المهرجانات بتذاكر باهظة الثمن.
كما نجدها تغني أغاني تعبّر عن قضايا اجتماعية تخصّ الفقر والعدالة الاجتماعية، وأغاني تعبّر عن قضايا التحرير مثل أغنية “تلك قضية”، في المهرجانات، إذ غنّتها مؤخرًا في مهرجان جبيل بلبنان، وكانت أسعار التذاكر تتراوح بدءًا من 25 إلى 80 دولارًا، فضلًا عن بلدان وأماكن أخرى ذات صلة.
هذه الازدواجية، سواء من الكلمات مع الراقصين عليها، أو المهرجانات التي ترعاها، أو حتى مع المبادئ والقيم التي دفعت مؤلفي ومطربي هذه الكلمات إلى تأليفها وغنائها، لا تعبّر سوى عن مدى الفراغ الحقيقي للفكر والممارسة السياسية والفنية، وهذا نتاج واضح أحدثته سياسات القمع لدى منظومات الحكم في السياسة ورأس المال.
فقد مارست السلطويات السياسة العربية، لا سيما في مصر، شتى سبل القمع من تهديد وسجن وإخفاء لمن له صلة بالعمل السياسي المناهض لها، سواء من أفراد أو جماعات أو نقابات أو حزاب.
الكل أخذ نصيبه من القمع، ما أفرغ العمل السياسي والفني من وجوده، ومضمونه أيضًا، وعلى إثر هذا بات كل شيء مائعًا ليس له أطر ثابتة يمشي عليها، فتجد كل شيء تائهًا ضعيفًا، يخضع لسياسات المنظومة النيوليبرالية التي بدورها تسيّل كل القيم لإعلاء قيمة الربح وفقط.
وتجد، مع الأسف، استسلامًا واسعًا لسياسات هذه المنظومة، والتماهي معها من أجل الظهور والعمل والربح، حتى لو كانت هذه المنظومة تناقض روح وكلمات العمل الفني، بل أخذت البارات والملاهي الليلة، ذات الطابع الأيديولوجي (اليسار والعروبة ومشتقاتهما من أفكار وتنظيمات، ولبنان نموذجًا)، هذه الأغنيات لتتناسب مع مزاج مريديها المثقفين.
وبدلًا من أن تنظم وتعمل في مقرات الأحزاب والتنظيمات، وتهتف في الميادين والشوارع؛ ترقص وتهتف على ألحان الأغنيات في البارات والملاهي، وهذا أيضًا رغم وجوده منذ زمن قديم، لكن ازدادَ في السنوات الأخيرة، ما دلَّ على انتقال السياسة ومفرداتها وأفكارها من مقرات عملها إلى مقرات ترفيه مريديها، والتي أصبحت، أي مقرات الترفيه، مع السنوات الأخيرة فضاءً نيوليبراليًا خالصًا.
أما فيما يخص الأغنيات الشعبية والمهرجانات، فهذا الذوق الموسيقي المتقارب والمتداخل، والمتباين أيضًا من حيث التوزيع، نبع وترعرع في الحارات الشعبية، ليعبّر عن حياة ساكنيها من حيث أفكارهم وأنماط حياتهم، حيث الفقر وجدعنة أو غدر الأصحاب، وتعاطي المخدرات والكحول، كما الأخلاق والأصول والعيش والملح والعِشرة وصونها وعدم التفريط فيها، كما الحب المستحيل والضائع والطموح والحاضر والمستقبل وغير ذلك من يوميات شعبية، تنتقد السلطويات الرأسمالية والسياسية.
كل هذه الأغاني والمفاهيم استطاعت المنظومة النيوليبرالية احتضانها بشكل مباشر وسلس، وأخذها من الصالونات في الحارات الشعبية إلى الأماكن التي ترعاها، فتجد أغنية المطرب الشعبي محمود الحسيني “العبد والشيطان” تمّت إعادة توزيعها من جديد، ويتم سماعها في حفلات النيوليبرالية، ويُدفع من أجلها تذاكر تُباع بالدولار.
أيضًا أغاني المهرجانات ومؤدّوها، لا سيما الأسماء الأشهر مثل حمو بيكا وعمر كمال وحسن شاكوش وعنبة وغيرهم، فهم الآن النجوم الدائمون في حفلات مصايف الساحل الشمالي، بل نجوم حفلات زواج الطبقات فاحشة الثراء، ونجوم حفلات صنّاع ومقدّمي ولاعبي السينما والإعلام والرياضة.
هؤلاء النجوم نسوا ما كانوا يدّعونه في فترات كثيرة، أنهم أبناء الطبقات الفقيرة، ومن خلال أغانيهم يعبّرون عن واقعهم وأحلامهم، وأنهم يحاربون من قِبل نقابة المهن الموسيقية ومن فئات مجتمعية متعلمة، لأنهم من طبقات دنيا وشعبيون منبوذون في نظرهم، لكنهم على عكس ما ادّعوا، سرعان ما ودّعوا الحارات الشعبية وساكنيها، وقطنوا أماكن النيوليبرالية داخل مصر وخارجها، وخضعوا لكل قوانينها وأنماط عيشها.
تتفق المنظومات الاستبدادية في الحكم، والنيوليبرالية في رأس المال، على تفريغ كل محتوى ذي معنى سياسي أو فكري أو فني من مضمون، وتأثيره، فتعمل الأولى على تفريغ السياسة من محتواها الحقيقي من خلال القمع، إذ تقتل وتسجن وتنفي المعارضين والمثقفين والأدباء والصحفيين والحقوقيين، وغيرهم ممّن لهم صلة بالشأن العام، كما تمنع عمل الأحزاب وتقمع النقابات وتسيطر على صناعة الفنون.
أمّا ما تبقى أو حتى انفلت من يد السلطة القمعية، وصدر من فنون ذات معنى أو فكر اجتماعي أو ثوري يناهض السلطة، تأخذه المنظومة النيوليبرالية عبر سياساتها الناعمة في قمعها، وتجرّده من قيمته الذي يكتسبها من مكان بعينه، وضمن فئات اجتماعية بعينها، ليصبح معدومًا من المعنى، ومحط التعليقات الساخرة من الكثيرين.
تماهى أو خضع أو استسلم الكثيرون من صنّاع الفن والمثقفين والسياسيين لقمع هذه المنظومات، خوفًا من السجن أو القتل، كما هربًا من النبذ والانعزال، بل سعيًا إلى كسب الشهرة والنفوذ والمال.
فالعروض التي تقدَّم سواء من المنظومات السياسية والنيوليبرالية تغري هؤلاء، وتجعلهم يتخلّون أو يتناسون القيم والمبادئ التي تبنّوها ودافعوا عنها من قبل، مثل الحق في الكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية، وفي تمثيل الطبقات الشعبية وإيصال صوتها والسعي نحو انتشالها من فقرها ونبذها، كما الدفاع والتضامن مع السجناء والعمّال وكل من همّشتهم أو ظلمتهم السلطويات السياسية والاقتصادية.