لا تكاد موجة التظاهرات في إيران تهدأ حتى تظهر مرة أخرى، حتى بدا النظام الإيراني أشبه بالواقف على حافة بركان ضخم، يُخِمد فوهة، فتنفجر في وجهه أخرى، فالأزمة الاقتصادية الناتجة عن سياسات الدولة بدأت تستفحل وتقابلها تظاهرات غضب شعبية، امتزجت فيها الشعارات الاقتصادية بالسياسية.
ومن قلب العاصمة طهران انطلقت موجة جديدة من الاحتجاجات طالت أكبر شرايين الاقتصاد، وباتت على مرأى من البرلمان، وعلى وقعها ارتفع سقف الانتقادات ووصل حد المطالبة بتغيير الفريق الاقتصادي لحكومة الرئيس الإيراني حسن روحاني وإجراء انتخابات مبكرة وانسحاب بلادهم من الأراضي السورية.
مطالب اقتصادية تفوح منها رائحة السياسة
تواصل كرة التظاهر والاحتجاجات في طهران تدحرجها ويتضاعف حجمها، هذه المرة احتجاجًا على موجة غلاء الأسعار والانهيار الكارثي للاقتصاد والعملة المحلية التي تخطت أدنى مستوياتها التاريخية، حيث بلغ الدولار حاجز الثمانين ألف ريال في السوق السوداء، ولا تزال العملة تواصل سقوطها الحر.
من احتجاجات طهران يوم أمس (وكالات)
المئات من أصحاب المحال التجارية تظاهروا أمام مبنى البرلمان ومجمع مكاتب ومساكن رؤوس النظام في بستور وقرى بيت المرشد وباقي الرئاسات، وداخل المجمعات التجارية في طهران، وهتفوا بذات العبارات: “اتركوا سوريا وفكروا فينا”، فيما أغلقت المحال التجارية أبوابها.
وكسرت أزمة أخرى حاجز الخوف لدى الإيرانيين، بسبب حشود المحتجين الذين تجمعوا رغم إعلان وزارة الداخلية خطة تنظيم التجمعات بـ”شروط تعجيزية”، كتحديد أماكن خاصة للتظاهر، ما أجمع مراقبون أنه شكل مفارقة على مدى 39 عامًا من عمر النظام الإيراني.
أغلقت المحال التجارية أبوابها احتجاجًا على غلاء الأسعار
وطالت الاحتجاجات الشريان الأكبر في إيران، وسوق الإلكترونيات والأثاث المنزلي، فارتفاع سعر الدولار تسبب في تسوماني ارتفاع لكل ما هو مستورد، وبلغ الأمر حد العقار والسيارات والسلع اليومية، ما دعا البعض لشراء وتخزين المواد الغذائية لمدة أسبوع تحسبًا للارتفاع.
وفي أول مواجهة منذ تظاهرات مماثلة هزت أرجاء البلاد أوائل العام الحاليّ احتجاجًا على سياسات الرئيس الإيراني وإدارته الأزمة، اندلعت اشتباكات بين محتجين غاضبين إزاء اقتصاد إيران المتداعي، وقوات الشرطة أمام البرلمان، حيث أطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع على المحتجين الذين رددوا شعارات تدعو لإسقاط النظام.
وتداولت وسائل التواصل الاجتماعية صورًا لإضرام محتجين النار في مقر الشرطة أمام البرلمان، بينما حاولت قوات الأمن تفريق المحتجين بالغاز المسيل للدموع، واستفاق سكان طهران هذه المرة على آثار مواجهات بين قوات الأمن والمتظاهرين، بعدما كانوا يستيقظون خلال الأيام الماضية على تقلبات في الأسواق.
الرئيس الإيراني حسن روحاني
تزامنًا مع هذه الاحتجاجات، أثارت صور منتشرة للرئيس الإيراني حسن روحاني يظهر فيها وهو في نزهة بزي رياضي هجوم واستياء مواقع التواصل الاجتماعي في إيران، حيث انتقد نشطاء إهمال روحاني للأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد، الأمر الذي دفع بوزير الخارجي الإيراني جواد ظريف إلى التحذير من سقوط النظام وتفكك إيران.
ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه، فإضراب بازار طهران عام 1979 كان من بين العومل الرئيسية التي أدت لسقوط شاه إيران، حيث أسهم كثيرًا في خروجه من البلاد دون عودة.
“سوریه رو رها کن فکری به حال ما کن”
شعار بازاریان تهران در اعتصاب امروز بازار به دلیل گرانی بیرویه و رکود بازار#اعتصاب_سراسری #اعتصاب_تهران #دومینوی_اعتصابات #اعتصاب_بازار pic.twitter.com/uJ3lZviktX
— Tavaana توانا (@Tavaana) June 25, 2018
شرارة الدولار.. “عدونا ليس أمريكا، عدونا في الداخل”
الموجات الحاليّة من المظاهرات هي امتداد لهزات لم تتوقف تقريبًا منذ أشهر، ففي مطلع العام الحاليّ عاشت إيران على وقع تظاهرات متصاعدة امتدت لأكثر من 75 مدينة وبلدة، احتجاجًا على تدهور الوضع المعيشي، وتنحو إلى مسارات أكثر تحديًا للسلطات بعدما جرب الإيرانيون عددًا كبيرًا من الاحتجاجات خلال العام الماضي، وصلت إلى أكثر من 6000 تجمع احتجاجي، بحسب قائد قوى الأمن الداخلي.
ويستمر تراجع العملة الإيرانية منذ شهور بسبب الأداء الاقتصادي الضعيف والصعوبات المالية التي تعانيها البنوك المحلية، إلى جانب الطلب الكثيف على الدولار من الإيرانيين، بسبب القلق الذي أثاره انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الذي أُبرم مع طهران في عام 2015.
الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي زاد من أوجاع إيران الاقتصادية وفاقم من أزمتها، وجعل من احتمال تحسن الوضع الاقتصادي وإسكات غضب الشارع أمرًا بعيد المنال
ومنذ مطلع العام الحاليّ، مُنيت العملة الإيرانية بخسائر كبيرة، وازداد الأمر سوءًا مع تجدد العقوبات الأمريكية على طهران، ففي مطلع هذا العام، بلغ سعر الدولار الرسمي 36 ألف ريال، وفي منتصف أبريل/نيسان فكت إيران الارتباط بالدولار مما ساهم في زيادة انخفاض العملة لتصل إلى نحو 38 ألف ريال.
وجاء الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي ليزيد من أوجاع إيران الاقتصادية وفاقم من أزمتها، وجعل احتمال تحسن الوضع الاقتصادي وإسكات غضب الشارع أمرًا بعيد المنال، فمع إعلان الانسحاب نهاية أبريل/نيسان الماضي هوت العملة ليتسقر الريال عند 42 ألف ريال للدولار الواحد.
بعدها استقر الريال الإيراني حتى جاء يوم 6 من مايو، وهو يوم الإعلان الرسمي لواشنطن الانسحاب من الاتفاق النووي، حيث انخفضت العملة مرة أخرى، واقترب الدولار من حاجز 44 ألف ريال؛ ما دفع رئيس البنك المركزي الإيراني للاستقالة بعد انهيار تاريخي للعملة بلغ فيها سعر صرف الريال الإيراني في السوق السوداء نحو 63 ألف مقابل الدولار الأمريكي.
يستمر تراجع العملة الإيرانية منذ شهور بسبب الأداء الاقتصادي الضعيف
في الأثناء، فرضت الحكومة الإيرانية حظرًا على استيراد 1339 سلعة يمكن إنتاجها داخل البلاد في إجراء يستهدف التصدي للعقوبات الأمريكية ولانخفاض سعر صرف الريال، وقد تعهد إسحاق جهانغیري النائب الأول للرئیس الإيراني بتخصیص قسم من العائدات الناجمة عن مبیعات النفط والغاز والمنتجات البتروكیميائیة وغیرها من الصادرات غیر النفطیة لشراء السلع الأساسیة للبلاد، وفق ما نقلته وكالة الأنباء الإيرانية.
وكانت الصحف الإيرانية قد حذرت من قرب انفجار الأوضاع بسبب تفشي الفساد والأزمات داخل البلاد، واعترفت صحيفة “جهان صنعت” الحكومية بأن أوضاع الاقتصاد على فوهة الانفجار بسبب زيادة معدلات التضخم، وانخفاض القوة الشرائية للمواطنين مقارنة بالسنوات الماضية، رغم الوعود الحكومية “الجوفاء” بحسب وصفها.
ويتوقع خبراء مزيدًا من الضغوط مع بدء العقوبات الأمريكية في أغسطس/آب المقبل، فالريال سوف يتعرض لضغوط شديدة من تهديد العقوبات الأمريكية، خاصة إذا لم تقدم أوروبا وعودًا بالحفاظ على الاتفاق النووي، وهوت العملة الإيرانية إلى 90 ألف ريال مقابل الدولار في السوق غير الرسمية أمس من 87 ألفًا أول من أمس الأحد، ونحو 75500 يوم الخميس الماضي، بحسب موقع الصرف الأجنبي “بونباست دوت كوم”، وبحسب وكالة رويترز.
لكن آخرين يقولون إن أقوياء في حزب المحافظين على علم بتفاصيل السوق ودهاليز القرارات، يستغلون الأوضاع الاقتصادية ويقودونها نحو الأسوأ، في محاولة لإسقاط روحاني وحكومتهن وهو ما دفع وزير الخارجية بالقول: “الجميع في مركب واحدة”.
هل ينقذ الانسحاب من سوريا الاقتصاد الإيراني؟
لعل هذ الوضع الاقتصادي ما دفع للمطالبة بسحب القوات الإيرانية من سوريا وتوجيه مقدرات البلاد الاقتصادية للشأن الداخلي، فعلى مدار السنوات السبعة الماضية، تصاعد الاستثمار الإيراني في سوريا إلى مليارات الدولارات التي أُنفقت في مساعٍ عسكرية واقتصادية متشابكة في بعض الأحيان، كما جنَّدت إيران ودرَّبت مجموعات قتالية تضم أفرادًا منتشرين في سوريا من مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
وفي تقرير لمجلة فورين بوليسي، قدَّر منصور فارهانغ، وهو باحثٌ مقيم في الولايات المتحدة ودبلوماسي إيراني سابق، حجم ما أنفقته إيران على سوريا بما لا يقل عن 30 مليار دولار في شكل مساعداتٍ عسكرية واقتصادية، بينما قدَّر نديم شحادة الباحث في شؤون الشرق الأوسط بكلية فليتشر للحقوق والدبلوماسية بجامعة تافتس حجم الإنفاق بأعلى من ذلك، قائلاً إنَّه يبلغ 15 مليار دولار سنويًا ونحو 105 مليارات دولار إجمالاً.
ويبدو أن كلا الرقمين كان مثيرًا للجدل سياسيًا في لحظةٍ متقلبة طالب فيها الإيرانيون في وطنهم بالمُساءلة والحكمة المالية، وجديرٌ بالذكر أنَّ وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أدرَج انسحاب إيران من سوريا ضمن 12 شرطًا مُسبقًا لإلغاء العقوبات، بعد انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب من الاتفاق النووي في الشهر الماضي مايو/أيار.
وفي الأشهر الأخيرة، فازت شركاتٌ إيرانية بصفقات في سوريا تشمل توفير جرارات وتعدين الفوسفات وإصلاح شبكات الكهرباء وتكرير السكر، ووفقًا لتقديرات بعض المسؤولين الإيرانيين، يبدو أنَّ قيمة صادرات إيران إلى سوريا تبلغ ما لا يقل عن 150 مليون دولار سنويًا، فضلاً عن أنَّ إيران أقرضت سوريا ما لا يقل عن 4.5 مليار دولار منذ عام 2013.
قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليمان على الحدود السورية العراقية
وأمام التراجع عن كل هذا تواجه الحكومة الإيرانية مهام صعبة كي لا تمدد الاحتجاجات وتتوسع، لكنها اختارت طريقًا آخر، فعلى وقع الوضع الاقتصادي المتدني الذي بدأ يضغط على المواطن الإيراني بشكل مباشر بانعكاسه على أسعار السلع الأساسية التي أصبحت صعبة المنال، بدأت تلوح في أفق الحكومة الإيرانية بوادر أزمة جديدة، استدعت اجتماع اقتصادي للحكومة لم يخرج عنه الكثير، فهي فشلت حتى الآن في كبح ارتفاع الأسعار.
اجتماع آخر في البرلمان للجنة الاقتصادية ناقش خلف الأبواب المغلقة أوضاع الاقتصاد الإيراني وموجة غلاء الأسعار الجديدة بحضور نائب الرئيس الإيراني إسحاق جهانغيري ووزيري الصناعة والزراعة ورئيس البنك المركزي، وخرج بعده رئيس البنك المركزي لينسب الأوضاع إلى عوامل خارجية، ويؤكد توفر العملة الصعبة في البلاد.
وجود إيران المتعمق في سوريا يوطَّد العلاقة بين البلدين، ويجعل سوريا أقرب إليها من أي وقتٍ مضى
ربما لا تشفع هذه الإجراءات الروتينية للمطالب التي تعدت حدود الاقتصاد إلى إصلاحات سياسية داخلية وخارجية، لا سيما بعد أن هدد نواب في مجلس الشورى الإيراني البرلمان باستجواب الرئيس حسن روحاني في حال استمرت العملة بالهبوط، وطالبوا الحكومة باتخاذ إجراءات فورية، فيما حذّر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف من أن رحيل روحاني لا يعني نجاح الأصوليين وأن الخطر يُهدد إيران كأمة وليس نظام الجمهورية الإسلامية فحسب.
أما خارجيًا، وبعدما بذلت إيران الكثير من الدماء والأموال في سوريا، فإنَّها عازمةٌ على جني المكاسب الإستراتيجية المحتملة على المدى الطويل التي ستقدمها سوريا، فقد أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي، في 22 من مايو 2018، أنه “لا أحد بإمكانه إجبار إيران على الخروج من سوريا”، وذلك ردًا على تصريحات المبعوث الخاص الرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف، بشأن ضرورة انسحاب القوات الأجنبية من سوريا بما فيها القوات الإيرانية.
أما من الجانب السوري، فالأمر لا يختلف تمامًا، فقد قال فيصل المقداد نائب وزير الخارجية السوري إن انسحاب القوات الإيرانية أو حزب الله من سوريا “غير مطروح للنقاش، ولا يمكن أن نسمح لأحد بطرحه، وهو “شأن يخص الحكومة السورية وحدها”، وذلك بعدما طالبت الولايات المتحدة إيران بالانسحاب من سوريا.
جديرٌ بالذكر أنَّ وجود إيران المتعمق في سوريا يوطَّد العلاقة بين البلدين، ويجعل سوريا أقرب إليها من أي وقتٍ مضى، ما يُعطي إيران موطئ قدم عسكرية موسَّع في المنطقة، فضلاً عن نقل مباراتها العدائية الطويلة مع “إسرائيل” قريبًا من حدود منافستها.