فن الاستسلام: لماذا قد نجد صعوبةً بالتخلي عن أهدافنا؟

complicated

قد تكون نصيحة “لا تستسلم أبدًا” واحدة من أكثر النصائح المشهورة في مجالات التنمية البشرية وعلم النفس الشعبي اللذين يمتلآن بجرعات التحفيز والحثّ على الالتزام والمثابرة لتحقيق الأهداف وبلوغ الآمال من خلال سرد قصص عديدة لبعض الناجحين على سبيل المثال، لكنّ المشكلة الحقيقية في هذه النصيحة تكمن في أنّنا، في مرحلةٍ ما من حياتنا، قد نمتلك هدفًا أو أكثر غير قابل للتحقيق، ونبدأ شيئًا فشيئًا بإنكار حقيقة عدم قدرتنا على تحقيقه أو بغض الطرف عن البحث عن طرقٍ ومساراتٍ أخرى.

فالعالم من حولنا مهووسٌ بقصص النجاح، والتطورات التكنولوجية الحديثة بما في ذلك عوالم السوشيال ميديا وما يتعلّق بها، جعلت من قصصنا وتفاصيل حياتنا اليومية مادةً يسهل تناولها على العلن، كما توفّر تلك العوالم منصات مثالية لعرض ذاتي دقيق ومتحكّم به من خلال السماح للمستخدمين بتحديد المحتوى الذي ينشرونه على حساباتهم الشخصية، وتمثيل أنفسهم بطرق مثالية مليئة بالنجاحات واللإنجازات والتفاصيل الحياتية واليومية السعيدة على المستوى الشخصي أو الزوجيّ أو العائليّ أو العمليّ، ولذلك فإنّ الأفراد حينما يقارنون أنفسهم بغيرهم فإنهم يلجأون لمقارنة غير واقعية ولا تمت للحقيقة بصلة.

“التخلّي” أو “الاستسلام” هو فنٌ يأتي من خلال الحكمة التي نكتسبها في حياتنا اليومية وتجاربنا المتنوعة، وليس علمًا يُبنى على نظرياتٍ وفرضيات وقواعد يمكن اتباعها وتطبيقها

وبالتالي، يجد الفرد نفسه محاطًا بضغوطات هائلة لإثبات ذاته ونجاحاته حتى يستطيع مجاراة الآخرين من حوله. فجميعنا بالنهاية نريد النجاح وتحقيق الإنجازات والوصول إلى أهدافنا المختلفة. لكنّ السؤال الذي تصعب الإجابة عنه، هو كيف ومتى يقرّر المرء التخلّي عن هدف معين؟ وممّا لا شكّ فيه أنه لا يوجد إجابة واحدة لهذا السؤال، فهي في نهاية المطاف تعتمد على الفرد نفسه ونوعية الهدف والموقف أو الحالة والعديد من العوامل والمتغيرات المحيطة.

لكنّنا باختصار نستطيع القول أنّ “التخلّي” أو “الاستسلام” هو فنٌ يأتي من خلال الحكمة التي نكتسبها في حياتنا اليومية وتجاربنا المتنوعة، وليس علمًا يُبنى على نظرياتٍ وفرضيات وقواعد يمكن اتباعها وتطبيقها. لكن في الوقت ذاته، يخبرنا علم النفس الكثير عن الأسباب التي قد تكون سببًا في إصرارنا على الاستمرار بالرغم من معرفتنا بعدم قدرتنا، أو في رغبتنا بالمحاولة على الرغم من أنّنا حاولنا من قبل وفشلنا. وبكلماتٍ أخرى، يستطيع علم النفس إخبارنا عن الأسباب التي تدفعنا لاتخاذ قرارات غير صائبة فيما يتعلّق بمحاولاتنا وأهدافنا.

الاعتقاد بأن الأمور ستكون أفضل في المستقبل يُعرف في علم النفس بمصطلح “الانحياز للتفاؤل” أو “التفاؤل غير الواقعي”.

التفاؤل غير الواقعي

قد نعتقد أنّنا نستطيع تقييم خياراتنا لاتخاذ القرار الأفضل تبعًا للموقف، لكنّ الحقيقة المعرفية هي أن الأشخاص بالعادة يقللون باستمرار من احتمال حدوث شيء سيئ لهم ويزيدون من فرص الأحداث الإيجابية. هذا الاعتقاد بأن الأمور ستكون أفضل في المستقبل يُعرف في علم النفس بمصطلح “الانحياز للتفاؤل” أو “التفاؤل غير الواقعي”.

وينطبق هذا الاعتقاد على العديد من الجوانب والمواقف الحياتية، في سوق العمل أو في الرياضة أو الدراسة أو حتى على مستوى الأحداث اليومية. فالعديد من الدراسات أظهرت أنّ فرق كرة القدم ومشجّعيها تكون بالعادة أكثر تفاؤلًا تجاه فوزها ونجاحها على الرغم من أنّ الحقائق لا تشي بذلك.

قد يعمل التفاؤل كحاجبٍ بينك وبين اتخاذك للقرارات الصائبة في كثيرٍ من الأحيان، فيمنعك من رؤية الحقائق ويقف بينك وبين أيّ خيارات أو مسارات أخرى قد تسلكها.

وعلى الرغم من أنّ التفاؤل يعدّ أمرًا هامًّا ومطلوبًا دائمًا، إلا أنه قد يعمل كحاجبٍ بينك وبين اتخاذك للقرارات الصائبة في كثيرٍ من الأحيان، فيمنعك من رؤية الحقائق ويقف بينك وبين أيّ خيارات أو مسارات أخرى قد تسلكها. أمّا الأسباب التي تدفعنا إلى هذا النوع من التفاؤل فيُرجع الباحثون الأمر إلى أنّنا نركّز على ذواتنا لا على الصورة الواقعية الكاملة حين يتعلّق الأمر بالخيارات التي تتعلق بنا. كما أنّنا نحبّذ الاعتقاد بأن أحداث حياتنا تخضع لسيطرتنا وتحكمنا وأنّنا نمتلك المهارات والمعرفة اللازمة لتجاوزها. أما علماء النفس التطوريون، فيعتقدون أنّ التفاؤل هو سمة مكتسبة طوّرها أسلافنا من أجل البقاء والنجاة، فالنظر لنصف الكأس المليان ساعدهم بالنهاية على الاستمرار والنجاة.

وعلى أنّ التفاؤل أيضًا قد يتدخّل في مسار الهدف الذي نسعى لتحقيقه، فالاعتقاد بأننا سننجح دومًا يمنحنا تقديرًا أعلى للذات واحترامًا أكبر للنفس، كما يؤدي إلى مستويات أقل من التوتر والقلق، الأمر الذي ينعكس إيجابًا حتى بعد الخسارة، فالمشاعرة الإيجابية تقلّل من الآثار السلبية للمواقف السلبية وغير المتوقعة التي يمكن أن نمرّ بها.

العجز المكتسب

لطالما شعرنا بأنّنا محكومون في مصيرٍ واحد لا نستطيع تغييره أو التأثير فيه، أليس كذلك؟ فكّر مثلًا في درس الرياضيات الذي لم تفهمه في المدرسة بالرغم من محاولاتك الجادة، ثمّ مع الوقت ودون أن تعرف كيف، بدأت باكتساب ذلك الشعور الواثق بأنك مهما حاولت في هذه المادة فلن تنجح، بل إنك عاجز عن تجاوزها وتخطيها.

قد يكون “العجز المكتسب” مناقضًا تمامًا للتفاؤل غير الواقعي. فهناك يبني الفرد صورةً إيجابية عن خياراته مبنية على التفاؤل بالنجاح، أما هنا فالصورة حتمًا سلبية، والتشاؤم سيد الموقف. إذ يرتبط الشعور بالعجز بالتشاؤم الناشئ حيال الفوز، كما يؤدي التشاؤم إلى ترسيخ شعور العجز وزيادة آثاره السلبية. كما يشكّل أيضًا عاملًا مهمًّا يؤثر في قرارتنا بالاستسلام والتخلّي، إذ يدفعنا في كثيرٍ من الأحيان إلى الاستسلام مبكّرًا لا لشيءٍ سوى لانعدام الثقة بالنفس والشعور بعجزها.

وبالنهاية، فهذان التفسيران، التفاؤل اللاوقعي والعجز المكتسب، قد يساعداننا في فهم الحيثية التي نتخذ فيها قراراتنا ونقيّم فيها الخيارات المتاحة أماننا. وعلى أنّ الشعورين يتفاوتان بدرجات مختلفة من شخصٍ لآخر ومن موقفٍ لغيره بصورة قد نعجز عن فهمها وإدراكها، إلا أنّ معرفتنا بكيفية خضوع العقل البشريّ لهذه التحيزات المعرفية قد يساعدنا بطريقةٍ أو بأخرى على الوصول لتقييم أكثر دقة وفهمٍ أكثر وضوحًا لصورة أفعالنا وقراراتنا وخياراتنا. فالتفاؤل المفرِط يؤثر بشكلٍ سلبيٍ تمامًا كما يؤثر التشاؤم والشعور بالعجز.