ظل الفن في مصر على مر العصور أحد أبرز أدوات القوى الناعمة التي وظفتها الأنظمة الحاكمة لتثبيت أركان حكمها، ساعية من وراء ذلك إلى إحراز النفوذ بواسطة الإقناع والترغيب وتوفير مقومات التقدم والرقي، وتقديم النموذج الجذاب الذي يغري الآخرين بالحذو حذوه وتقليده.
وعلى عكس القوى الصلبة (المادية) التي تعتمد على فرض نفوذها بواسطة القوة المسلحة والعقوبات المادية التي قد ينتج عن التطرف في استخدامها آثارًا سلبية، فإن القوى الناعمة تعمد إلى مغازلة المكنون الشعوري والنفسي والمجتمعي وبعض جوانب العقل، دون حاجة إلى حكومات أو مؤسسات دولة، بل يمكنها فعل ذلك عبر مؤسسات خاصة أو كيانات المجتمع المدني العادية حتى إن كانت في الباطن تخضع لإشراف ورقابة أجهزة الدولة السيادية.
في 20 من يونيو/حزيران الحاليّ، وبموجب القرار الوزاري رقم 393 لسنة 2018، أصدرت وزيرة الثقافة المصرية الدكتورة إيناس عبد الدايم لائحة النظام الأساسي للشركة القابضة للاستثمار في المجالات الثقافية والسينمائية، وذلك في ضوء توجه الدولة العام لإحكام قبضتها على صناعة السينما في مصر خلال المرحلة المقبلة، بعد ما تلمسته من دور مؤثر وفعال فاق في كثير من مراحله تأثير القوى الصلبة الأخرى.
ورغم الترحاب الذي قوبل به هذا القرار من بعض المنتسبين للأوساط الثقافية والسينمائية في مصر فإن آخرين أعربوا عن قلقهم من عودة ما يسمى بـ”سينما السلطة” مرة أخرى، في محاولة لتسييس تلك الصناعة الأكثر رواجًا خلال السنوات الأخيرة بما يتواءم مع توجهات النظام الحاكم ويرسخ من أركانه بجانب مصادر القوة الصلبة الأخرى.
“الله معنا”.. البداية
في عام 1955 وبعد حركة يوليو/تموز 1952 بـ3 أعوام تقريبًا، كان المصريون مع أول الأعمال السينمائية التي تطرقت بشكل مباشر إلى تقييم سياسي لحقبة تاريخية محددة، كان الهدف منها في المقام الأول إدانة النظام الملكي وتمجيد حركة الضباط الأحرار.
الفيلم الذي كان من تأليف إحسان عبد القدوس وبطولة كل من فاتن حمامة وعماد حمدي وحسين رياض ومحمود المليجي وماجدة وشكري سرحان وبتوقيع المخرج أحمد بدرخان، تدور قصته عن ذهاب ضابط مصري للمشاركة في حرب فلسطين عام 1948 بعد أن ودع زوجته، وفي الحرب يتعرض للإصابة قبل أن يعود مع عدد من الجرحى، ما يخلق حالة من التذمر بين رجال الجيش وتنتهي الأحداث بالإطاحة بالملك.
الحبكة الدرامية للفيلم كانت تدور حول أحد أبرز القضايا الجدلية في التاريخ السياسي والعسكري المصري، وهي قضية الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين التي زُعم تورط رجال القصر فيها، وإن كان القضاء أثبت عام 1953 عدم وجودها من الأساس، وبرّأ جميع المتهمين في تلك القضية.
https://www.youtube.com/watch?v=8uoApYqibj4
من 23 من يوليو إلى 25 من يناير
“مات الملك عاش الملك”، سيطر هذا الشعار على الأعمال الفنية في مصر وعلى رأسها السينما على مدار أكثر من 60 عامًا، منذ يوليو/ تموز 1952 وحتى كتابة هذه السطور، وظل مبدأً لم يتخلف عنه أي نظام حاكم، إما بتشويه صورة النظام الذي يسبقه أو التمجيد والتفخيم في دوره وسياسات حكمه.
بعد أن استقر حكم الضباط الأحرار بالإطاحة بالملك وأعوانه، ثم التخلص من بعض العناصر التي أثارت الجدل حينها بسبب توجهاتها السياسية التي كانت ترى ضرورة عودة الجيش إلى ثكناته، على رأسها اللواء محمد نجيب، بدأ مخطط النظام الجديد لتحسين صورته شعبيًا وتمجيد كيانه مستخدمًا القوى الناعمة في ذلك الوقت السينما والتليفزيون، ومن ثم ظهرت عشرات الأفلام التي تناولت هذه الفترة.
ويعد فيلم “رد قلبي” للكاتب يوسف السباعي والمخرج عز الدين ذو الفقار الذي أُنتج عام 1957 واحدًا من أهم أيقونات السينما المصرية عن الحقبة الملكية ودور الضباط الأحرار في إنهائها، حيث عزف العمل على أوتار عدة أبرزها كيف أزالت حركة يوليو الفوارق الطبقية، ولعل مشاهد “علي” ابن الجنايني و”إنجي” بنت الباشا أحد أبرز اللقطات التي لا زالت عالقة في أذهان المصريين حتى اليوم.
إلا أنه بعد هزيمة يونيو 1967 تغير الوضع قليلًا، وتمكنت روح الهزيمة من السيطرة على المصريين بصورة دفعت النظام حينها إلى البحث عن أدوات أخرى لقتل هذا الشعور وإحياء روح الثورة على القصر وحركة الضباط الأحرار، فكان فيلم “غروب وشروق” للمخرج كمال الشيخ في مارس 1970.
السيسي وفق هذا التصور يرى أن السينما والفن بشكل عام مجرد قطاع تابع عليه الترويج لسياسات النظام الحاكم أو الدولة، في واقع الأمر لا يوجد اختلاف بينهما حسبما أكد بنفسه ذلك أكثر من مرة
وكما عزفت سينما عبد الناصر على أوتار فساد الملكية، جاءت سينما أنور السادات لتعزف بدورها على أشجان الفساد السياسي والأمني لحقبة ناصر، حتى أطلق عليها “سينما زوار الفجر” لكثرة الأعمال التي انتقدت سلوك الأمن وقتها الذي كان على رأس منظومة الفساد في تلك الفترة.
ولم يختلف الوضع كثيرًا في عهد مبارك، حيث تمثلت انتقادات أفلام السينما لعهد السادات بعد اغتياله في محورين رئيسيين؛ سياسات الانفتاح وانتفاضة الخبز، على رأس تلك الأفلام يأتي فيلم “سواق الأتوبيس” الذي أخرجه عاطف الطيب عام 1983 عن سيناريو بشير الديك، واختير ضمن أفضل 100 فيلم أنتجتهم السينما المصرية.
وبعد ثورة 25 من يناير/كانون الثاني 2011 طرأت تغيرات عديدة على المجتمع المصري، ولم تعرف الحرية سقفًا وقتها، وكانت فرصة جيدة لصناع السينما للهجوم الكاسح على مبارك وجهاز أمن الدولة سيء السمعة، كان من بينها فيلم “أمن دولت” للمخرج أكرم فريد وبطولة حمادة هلال عام 2011، الذي حمل أول مشاهده سخرية من الأمن بترقية ضابط ساذج يُدعى “حسام الفرشوطي” – يجسد شخصيته حمادة هلال – إلى رتبة رائد بأمن الدولة، بعد أن أفسد مخططًا تفجيريًّا بالصدفة.
كان تشويه السينما للحقب السياسية السابقة سمة رئيسية في مسيرتها الطويلة، ويعود ذلك – بحسب النقاد – إلى القمع الذي تمارسه الحكومات على الشعوب وصناع الفن، فيخشى الجميع انتقاد الحاكم خلال فترة ولايته، ومن ثم يلجأ لذلك بعد رحيله، في ظل عدم ممانعة الحاكم الجديد الذي بلا شك يرى في تشويه صورة من سبقه مصلحة تخدم تثبيت أركانه.
شوهت سينما عبد الناصر الملكية لتمجيد حركة الضباط الأحرار
السيسي و30 من يونيو
بعد أحداث 30 من يونيو/حزيران 2013 هاجمت السينما في مصر فترة الثورة “25 من يناير” وعهد الرئيس الأسبق محمد مرسي بصورة حملت تطاولًا تجاوز المتعارف عليه في أخلاقيات الأعمال الفنية المتفق عليها ضمنًا، وهو ما بدا بصورة جلية في فيلم “المشخصاتي 2” الذي اعتمد فيه الممثل تامر عبد المنعم على السخرية بفجاجة من شخصية مرسي وأعضاء جماعة الإخوان.
ثم يأتي فيلم “الجزيرة 2” للمخرج شريف عرفة الذي أنتج عام 2014، فأظهر ثوار 25 من يناير على أنهم بلطجية والسبب الرئيسي وراء تفشي الفوضى وعدم الاستقرار في المجتمع المصري، وفي الوقت ذاته حرص على تحسين صورة الشرطة المصرية وتمجيد دورها في الدفاع عن البلد.
“مات الملك عاش الملك”، سيطر هذا الشعار على الأعمال الفنية في مصر وعلى رأسها السينما على مدار أكثر من 60 عامًا، منذ يوليو/ تموز 1952 وحتى كتابة هذه السطور
ومؤخرًا أثارت بعض الصور المسربة لفيلم “سري للغاية” للمؤلف وحيد حامد والمخرج محمد سامي حالة من الجدل بين رواد السوشيال ميديا، بسبب الاتهامات التي تعرض لها العمل بتشويه ثورة يناير والمتظاهرين والتقليل من شأن مرسي وجماعة الإخوان، في مقابل تمجيد أشخاص آخرين من بينهم الرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي الذي يجسد دوره في العمل الفنان أحمد السقا.
السقا استنكر الهجوم والاتهامات التي واجهها الفيلم قبل عرضه، مؤكدًا: “الفيلم مهذب، أنصف الجميع وأعطى الجميع حقه بما فيهم الدكتور محمد مرسي، وتعرض للشخصيات السلبية بمنتهى الأدب”، نافيًا أن يحمل العمل “تطبيلًا” للنظام الحاليّ، وأشار إلى أن الجمهور تسرع في الحكم على الفيلم.
جدل كبير بسبب فيلم “سري للغاية”
تأميم السينما
“يا أستاذ أحمد أنت والأستاذة يسرا، والله هتتحاسبوا على ده، أيوه هتتحاسبوا، عايزين ندي للناس أمل في بكرة، ونحسن قيمنا وأخلاقنا، وده مش هييجي غير بيكم، كل قطاع من قطاعات الدولة له دور في ذلك”.. كانت هذه هي الرسالة الأولى الواضحة والمباشرة التي قدمها السيسي للفنانين وصناع السينما خلال احتفالية عيد الشرطة يناير/كانون الثاني 2015، حين داهم الفنان أحمد السقا والفنانة يسرا بهذه الكلمات، مطالبًا بتقديم أعمال فنية هادفة “ترتقي بالمجتمع” على حد وصفه.
السيسي وفق هذا التصور يرى أن السينما والفن بشكل عام مجرد قطاع تابع عليه الترويج لسياسات النظام الحاكم أو الدولة، في واقع الأمر لا يوجد اختلاف بينهما في عهد السيسي الذي أكد بنفسه ذلك أكثر من مرة، فخلال لقائه بوفد الفنانين مايو/أيار 2014 ناشد الفنانين بضرورة تشكيل وعي المواطنين، قائلًا: “الأمم المتقدمة تسوّق صورتها للعالم من خلال الفن والرسالة الإعلامية الهادفة”.
بعد أحداث 30 من يونيو/حزيران 2013 هاجمت السينما في مصر فترة الثورة “25 من يناير” وعهد الرئيس الأسبق محمد مرسي، بصورة حملت تطاولًا تجاوز المتعارف عليه في أخلاقيات الأعمال الفنية
وأشار في كلمته “الوضع الراهن يحتاج إلى اصطفاف حقيقي من المصريين، وأهل الفن والثقافة قادرون على تشكيل وعي حقيقي لما يدور حول المواطن من تحديات”، ودعا الفنانين إلى ضرورة تشجيع المواطنين وتعبئتهم للمشاركة في الانتخابات الرئاسية.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي وخلال كلمة له على هامش فعاليات اليوم الثالث لمؤتمر “حكاية وطن” الذي يروج لترشيح السيسي لولاية ثانية، قال إن المواطنين يأخذون على الإعلام وصناعة السنيما الكثير من المآخذ، مؤكدًا “أنا بتألم لما بسمع منهم أي لفظ مالوش معنى حتى لو لحد مختلفين معاه”.
وأضاف “السينما الحقيقة لها أجر وثواب كبير جدًا لما بتدعو إلى الفضيلة والمبادئ، والعكس صحيح”، ليتابع ممازحًا الحضور “أنتوا مش مصدقين ده أنا هعملكم إيه”.
https://www.youtube.com/watch?v=096u9T1jsRs
حالة من الترقب والقلق تنتاب الكثيرين داخل الوسط الفني والسينمائي بعد إقرار لائحة النظام الأساسي للشركة القابضة للاستثمار في المجالات الثقافية والسينمائية، خوفًا من إحكام الدولة قبضتها على صناعة السينما، كما حدث في قطاعات حيوية أخرى سيطرت عليها الأجهزة السيادية وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، ما كان له مئات الآلاف من الضحايا من المصريين العاملين في هذه القطاعات.
ليس هذا فقط، بل إن “تأميم السينما” بات السيناريو الأكثر تهديدًا لهذه الصناعة التي تميزت فيها مصر طيلة عقود طويلة، رغم اتساع مساحة هامش التدخل السياسي فيها، غير أن المرحلة الحاليّة تشهد حالة من الاحتقان والإقصاء لم تشهده الدولة المصرية منذ عقود استثنائية بكل المقاييس، حيث لا خطوط حمراء ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وكل الأسقف مباحة لكل الخطوات.
ومن ثم.. يبدو أنه رغم خضوع مؤسسات القوى الناعمة في مصر لأجهزة الدولة السيادية فإن هذا لم يكن كافيًا ولا مطمئنًا من وجهة نظر المسؤولين، خشية التمرد أو الخروج عن النص إن احتدمت الأوضاع، لذا كان الدخول إلى هذا السوق بشكل مباشر وواضح والسيطرة عليه هو الحل لضمان البقاء في المنطقة الدافئة لمنظومة القوى الناعمة التي يبدو أنها ستكون الخيار الأكثر فاعلية خلال الفترة القادمة لترسيخ أركان النظام لسنوات قادمة.