وزعت إحدى محاكم الاستئناف المغربية في وقت متأخر من مساء أمس الثلاثاء أكثر من 300 سنة سجن على 50 معتقلًا من نشطاء “حراك الريف”، كان النصيب الأعلى منها لزعيم الحراك وأيقونته ناصر الزفزافي، وتفاوتت التهم التي وجهتها النيابة العامة للمعتقلين بين المشاركة في تظاهرات غير مرخصة والمس بأمن الدولة، التي تصل عقوبتها إلى الإعدام.
أحكام قضائية قاسية من شأنها إعادة الزخم للحراك الذي هدأ مؤخرًا وفقًا لعدد من المتابعين، مما ينذر بإمكانية تفاقم الاضطرابات والاحتجاجات في البلاد، في الوقت الذي يسعى فيه رئيس الحكومة سعد الدين العثماني إلى تهدئة الجو العام في البلاد وامتصاص غضبة المغاربة التي ارتفعت مؤخرًا وتجسّدت بعض مظاهرها في حملة المقاطعة.
20 سنة للزفزافي
نصيب قائد الحراك ناصر الزفزافي من هذه الأحكام 20 سنة، وأدانت المحكمة الزفزافي بعدة اتهامات بينها تدبير “مؤامرة للمس بسلامة الدولة الداخلية، عن طريق التحريض بارتكاب اعتداء الغرض منه إحداث التخريب والقتل في أكثر من منطقة، وكذا التحريض علنًا ضد وحدة المملكة المغربية وسيادتها، وزعزعة ولاء المواطنين للدولة المغربية”.
واعتقلت السلطات المغربية الزفزافي البالغ من العمر 39 عامًا، في مايو/أيار 2017، بعد أيّام من مقاطعته الإمام في أثناء إلقائه خطبة الجمعة في مسجد محلي في الحسيمة على الساحل المتوسطي في شمال البلاد، حيث قال بأن الخطيب يفتي من أجل محاصرة شبابنا واعتقالهم في خطة مع المخزن، وطالب الزفزافي خطيب الجمعة بأن يقول كلمة الحق عوض التملق للمخزن، وتساءل موجهًا سؤاله للناس: “هل المساجد بيوت لله أم بيوت للمخزن؟“ بعدها اندلعت مواجهات بين قوات الأمن المغربية ومحتجين.
شملت هذه الأحكام القيادي الثاني في الحراك نبيل أحمجيق، فضلاً عن وسيم البستاني وسمير إغيد
برز الزفزافي، مع انطلاق الاحتجاجات في مدينة الحسيمة، حيث استطاع بفصاحته أن يجمع الناس حوله ويقود الحراك، ومنذ ذلك الحين أصبح يعرف إعلاميًا بزعيم حراك الريف، حيث أصبح حاضرًا في كل اللحظات، يقود المسيرات ويخطب في الجماهير وتتداول تصريحاته وسائل الإعلام المحلية والدولية، وكثيرًا ما كان هذا الشّاب يردّد أنه يسير على نهج الزعيم المغربي الكبير محمد عبد الكريم الخطابي في التحرر والوقوف ضد الظلم والدفاع عن المهمشين.
ركّز قائد الحراك في خطاباته في بداية الحراك الذي بدأ في أكتوبر/تشرين الأول سنة 2016، على التهميش الذي يعانيه الريف المغربي وسكانه وانعدام التنمية هناك وانتشار البطالة والظلم والفقر وفساد الحكومة، حسب وصفه، ثم بدأت نبرة خطاباته تزداد حدة، فبدأ يوجه نقده للمخزن والملك المغربي محمد السادس مباشرة.
أحكام قاسية
هذه الأحكام التي وصفها محامو الزفزافي ورفاقه بـ”القاسية”، شملت أيضًا القيادي الثاني في الحراك نبيل أحمجيق، فضلاً عن وسيم البستاني وسمير إغيد، وحُكم الثلاثة بـ20 عامًا لكل منهم، بعد إدانتهم بتهم تتعلق بالمشاركة بمؤامرة تمس بأمن الدولة.
وأصدر القاضي بغرفة الجنايات في محكمة الاستئناف في الدار البيضاء هذه الأحكام في غياب المتهمين الذي يحاكمون منذ منتصف أيلول/سبتمبر 2017 الذين قرروا منذ منتصف حزيران/يونيو الحاليّ مقاطعة ما تبقى من جلسات محاكمتهم.
https://www.youtube.com/watch?v=7d9uQMR7lT0
وأدانت المحكمة بتهم تتعلق أيضًا بالتآمر على أمن الدولة كلاً من محمد حاكي ومحمد بوهنوش، وزكريا أدهشور الذين حكمت عليهم بالحبس لمدة 15 عامًا، في حين حكمت على مجموعة ثالثة من سبعة أفراد بالسجن لمدة 10 أعوام بعدما دانتهم بتهم مماثلة.
وأدين بقية المتهمين بجنح أقل خطورة مثل المشاركة في تظاهرة غير مرخصة أو إهانة القوات العمومية أو انتحال صفة، وتراوحت الأحكام الصادرة في حقهم بين خمسة أعوام سجنًا، وغرامة خمسة آلاف درهم (نحو 450 يورو) بالنسبة لعشرة أشخاص، وثلاثة أعوام سجنًا مع غرامة 2000 درهم (نحو 180 يورو) بالنسبة لثمانية أشخاص، وسنتين سجنًا مع غرامة 1000 درهم (نحو 90 يورو) بالنسبة لـ21 شخصًا، بينما اقتصرت عقوبة متهم وحيد على غرامة خمسة آلاف درهم.
مسرحية سيئة الإخراج
الناشط الحقوقي المغربي منير كجي اعتبر في تصريحات لنون بوست أن محاكمة الزفزافي ورفاقه في حراك الريف “مسرحية سيئة الإخراج”، فلا يعقل وفق قوله “النطق بهذه الأحكام في حق شباب عزل بسطاء خرجوا من أجل مطالب تتعلق بالشغل والصحة والتعليم”.
وبدأت احتجاجات الريف في مدينة الحسيمة، في الـ28 من شهر أكتوبر 2016، بعد أن صادرت السلطات المحلية كميات كبيرة من السمك الذي اشتراه الشاب محسن فكري، وألقت بها في شاحنة لجمع القمامة، فقفز الشاب داخل الشاحنة لمحاولة جمع السمك المصادر، إلّا أن أحدهم شغل محرك الشاحنة، فاشتغلت آلة الشفط التي ابتلعت الشاب وسحقت عظامه حتى الموت.
وأضاف كجي في حديثه لنون بوست: “ما حصل أمس في محكمة استئناف الدار البيضاء نقطة سوداء في تاريخ القضاء المغربي والسجل الحقوقي المغربي، حدث يمثّل تراجعًا خطيرًا أمام المصالحة ودولة الحق والقانون والديمقراطية المغربية التي تدّعيها السلطات الحاكمة”.
من شأن هذه الأحكام وفق منير كجي أن تعيد المملكة المغربية إلى سنوات الرصاص التي اعتقد الجميع انتهاءها وعدم وجوعها
الناشط الحقوقي المغربي أوضح أن هذه الأحكام الصادرة في حق نشطاء الريف مساء أمس الثلاثاء، أكّدت عدم نزاهة واستقلالية القضاء المغربي في التعاطي مع هذا الحراك الذي شهد العالم على سلميته ومشروعية مطالبه.
من أبرز المطالب الملحة لسكان الجهة، الإسراع بكشف مآل التحقيق في ملف وفاة محسن فكري والإفراج عن المعتقلين على خلفية الأحداث الأليمة التي أعقبت احتجاجات “إمزورن” و”بني بوعياش” وإعطاء الأولوية للمطالب ذات الطبيعة الاجتماعية المتعلقة بالصحة والتعليم والتشغيل عبر خلق مؤسسة جامعية ومستشفى للسرطان، وخلق فرص للشغل عبر تقديم تحفيزات وامتيازات ضريبية للمستثمرين، حسب المحتجين.
إلى جانب المطالبة برفع الطابع العسكري المفروض على منطقة الريف، وتجدر الإشارة إلى أن عسكرة الريف فُرضت على المنطقة إثر ثورة الريف خلال سنة 1959، وقد استغل الملك الحسن الثاني تلك الانتفاضة كذريعة لفرض قواعد عسكرية في هذه المنطقة المتمردة وتحييد الريف.
الرجوع إلى سنوات الرصاص
من شأن هذه الأحكام وفق منير كجي أن تعيد المملكة المغربية إلى سنوات الرصاص التي اعتقد الجميع انتهاءها وعدم وجوعها، وتمتد “سنوات الرصاص” في المغرب من ستينيات القرن الماضي إلى ثمانينياته، وشهدت اعتقالات لأسباب سياسية واختطافات وتعذيب المعارضين وقصف مدن الريف.
ويؤكّد عديد من المغاربة ميل حكومة بلادهم إلى التركيز على الخيارات الأمنية واعتقال النشطاء في مواجهة الاحتجاجات التي تعرفها مدن الريف، نتيجة ضعف اندماج المنطقة وعلاقتها الصعبة بالمركز، مما يساهم في تعميق الهوة مع المحتجين ودفعهم إلى مطالب تشكك حتى في السلطات الرمزية في المملكة.
شهد المغرب عقب الاستقلال أحداث عنف كبيرة عرفت بسنوات الرصاص
هذه الهوّة بين أهالي الريف والسلطة تكرّست بفعل ردود الفعل العنيفة من الحكم المركزي “المخزن” في المغرب على انتفاضات واحتجاجات شهدتها منطقة الريف مباشرة إثر استقلال المملكة نهاية الخمسينيات وفي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
وتعيش منطقة الريف أزمة كبيرة مسّت الجانب الاقتصادي والاجتماعي، فكل القطاعات الاقتصادية بالإقليم مفلسة بالكامل أو على حافة الإفلاس بدءًا بقطاع الصيد البحري (الشريان الحيوي الذي يغذي سكان الجهة) الذي انهار بشكل شبه كلي خاصة بعد هجرة البحارة ومراكبهم إلى الموانئ الأخرى، وكذلك قطاع التجارة الذي يشهد ركودًا إلى جانب القطاع السياحي الذي لم يتحسن بعد.
السوشيال ميديا تتشح بالسواد
مباشرة إثر صدور هذه الأحكام عمّ اللون الأسود حسابات المغاربة في مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتوتير) للتعبير عن حزنهم البليغ وتنديدهم الكبير بهذه الأحكام “القاسية” التي جاءت بعد أيام قليلة من إطلاق نشطاء حقوقيون حملة وصفوها بالواسعة لمطالبة الدولة بالإفراج عن معتقلي الحراك وتبني مقاربة تتوخى المصالحة الشاملة.
وغيّر الآلاف من المغاربة، صور حساباتهم، تنديدًا بما حصل في محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، وتشير الأرقام التي تضمنها تقرير أعدته الهيئات الحقوقية في المنطقة عن عدد المتابعين قضائيًا على خلفية هذه الاحتجاجات إلى متابعة 543 أمام المحكمة الابتدائية بالحسيمة، و49 أمام محكمة الاستئناف بالدار البيضاء.
احتقان اجتماعي
من شأن هذه الأحكام التي جاءت في وقت تراجعت فيه حدة الاحتجاجات المطالبة بالتنمية في المغرب، أن تزيد من منسوب الإحباط والسخط لدى الكثير من أبناء المنطقة، وأن تشعل “حراك الريف” من جديد، مما ينذر بإمكانية تفاقم الاضطرابات في البلاد، في ظلّ عجز حكومة سعد الدين العثماني عن احتوائها والسيطرة عليها.
ومباشرة عقب صدور الأحكام التي شكّلت صدمة للشارع المغربي، شهدت العديد من المناطق المغربية خروج تظاهرات عفوية مساندة للمعتقلين ومنددة بقرار المحكمة رغم التطويق الأمني، ويتوقّع أن تنظم عشية اليوم مسيرة كبيرة ووقفة احتجاجية أمام البرلمان بالرباط للتنديد بالأحكام.
يرى عديد من المتابعين للشأن المغربي، أن هذه الأحكام لها أن تعطي ديناميكية جديدة لحراك الريف الذي ما زالت شعلته متوهّجة رغم مرور قرابة السنتين على انطلاقه، ويقول بعض المحللين إن “الحراك” سيبعث من جديد بطرق جديدة ومبتكرة.
يرى مغاربة أن المصالحة الحقيقة مع الريف لا يمكن أن تتم إلا بإطلاق سراح معتقلي الحراك
من جانبه اعتبر مرصد الشمال لحقوق الإنسان أن “القمع والاعتقال والتنكيل وتكميم الأفواه، النهج الوحيد للدول الديكتاتورية في التعامل مع مطالب مواطنيها نهجًا سيكون له انعكاس سلبي على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وسيؤدي إلى مزيد من الاحتقان المفضي إلى تفجر الأوضاع عاجلاً أم آجلاً”، وفق بلاغ صادر عن المرصد.
واعتبر المرصد أن هذه الأحكام “رسالة واضحة من طرف السلطات المغربية بتسلط سيف القضاء والاعتقال نحو جميع الأصوات الحرة المطالبة بالكرامة والعيش الكريم وبالحقوق الاساسية التي تضمنها المواثيق والمعاهدات الدولية”.
بدورها اعتبرت جماعة العدل والإحسان المغربية (معارضة) أن “المقاربة الأمنية الزجرية المتبوعة بالمحاكمات الماراطونية أمام قضاء يشهد قضاته بعدم استقلاليته، قد تخمد نار الاحتجاج مؤقتًا، وقد تخنق أصواتًا وتكمم أفواهًا، وتجمد أقلامًا…. إلى حين… وقد تفرز نفاقًا وانتهازية، لكنها لن تغير موقفًا ولن تصنع رأيًا، ولن تبني وطنًا، بل في المقابل تعمق الجراح ولا تداويها، وتؤجج الغضب ولا تطفأه”.
ومنذ انطلاق الحراك، راهنت السلطات المغربية، في كثير من الأحيان على عامل الوقت لتقهقر حراك الريف وتراجع تمدّده إلا أنها فشلت في رهانها، فالحراك باقٍ ويتمدّد داخل مدن المملكة وخارجه فالمسيرات والوقفات الاحتجاجية وصلت سفارات المملكة وبعثاتها الدبلوماسية في مدن أوروبية عدة.
هل يتدخل الملك؟
دستوريًا يمكن للعاهل المغربي محمد السادس أن يتدخّل ويأمر بإطلاق سراح معتقلي حراك الريف، إلا أنه واقعيًا لا يمكن لهذه الخطوة أن تتم، وفقًا لعدة اعتبارات من بينها عدم رغبة الملك في إعطاء فرصة لأهالي الريف للخروج في ثوب المنتصر على الدولة، الفارض لشروطه على السلطات.
يأمل المغاربة أن يتدخل الملك وينهي أزمة الريف
يرى عديد من المغاربة أن المصالحة الحقيقية مع الريف لا يمكن أن تتم إلا بإطلاق سراح معتقلي الحراك، فالدولة المغربية وفقًا لهذه الرؤية مطالبة بإغلاق ملف المعتقلين، وذلك بإعطائهم الحرية الكاملة وتضميد جراح الريف التي فتحت بعد الاعتقالات.
ويعتبر سكان ريف المغرب أنفسهم من أكثر المنبوذين بين المغاربة، ويعود الاحتقار الذي يعاني منه هؤلاء إلى عهد الحسن الثاني ليتواصل اليوم مع الملك محمد السادس الذي كانت محاولته في تحسين وضعية سكان المنطقة والوعود بالاستثمار مجرد حديث لا أكثر، وفقًا لعدد من الأهالي.