ربما لم يخطر ببال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن يفعلها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يومًا، ويدرجه ضمنًا على “اللائحة السوداء”، لكن غوتيريش فعلها للمرة الثانية على التوالي، فأبقى التحالف الذي تقوده السعودية مجددًا على ما تُسمى بـ”قائمة العار” لمنتهكي حقوق الأطفال في مناطق النزاع، بحسب توصيف منظمة هيومان رايتس واتش.
لم تشفع مصافحة الأمير للأمين، مع ابتسامته العريضة، لتكرار ما حدث منذ 8 أشهر، بل ما حدث كان الأسوأ، فالتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن جاء هذه المرة في اللائحة نفسها، وبنفس الدرجة مع جماعة الحوثي وقوات الحزام الأمني المدعومة إماراتيًا، بل وقوات الشرعية أيضًا، وثمة ما هو أكثر سوءًا من ذلك، وهو مساواة التحالف مع تنظيم القاعدة وإدراجهما معًا على اللائحة نفسها.
المساواة بين التحالف والقاعدة.. يحدث في عهد غوتيريش ما تعذر في عهد سلفه
ليس من السهل أن تُدرج أسماء دول تقول إنها تدخلت في اليمن لهدف نبيل شعاره إعادة الشرعية المسلوبة ضمن قائمة أممية سوداء، وهي لائحة ليست كغيرها من اللوائح، فهي تتعلق بانتهاك حقوق الأطفال، لذلك سعت السعودية في السابق بكل الوسائل الممكنة لمنع إدراج اسم التحالف الذي تقوده ضمن هذه اللائحة السوداء.
ففي السنة قبل الماضية، أيام الأمين العام السابق بان كي مون، ظهر اسم التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات في مسودة اللائحة، لكن بعد بضعة أيام أزال الأمين العام التحالف من القائمة، وقيل إن ذلك من أجل المراجعة، وظلت أطراف النزاع الأخرى في “قائمة العار” عن حق.
ذهب بان كي مون وجاء غوتيريش الذي لم يسمح للتحالف الذي تقوده السعودية بالإفلات
أحدث الأمر حينها ضجة عندما اُتهمت السعودية بممارسة ضغوط على الأمين العام، وذلك بالتهديد بقطع التمويل عن برامج المساعدة الأممية إذا أُدرج اسمها في اللائحة السوداء، غير أن إزالة التحالف بعث برسالة فظيعة، مفادها أنه إذا كان بلد ما غنيًا وقويًا بما فيه الكفاية، فإنه يمكنه أن يفلت من المساءلة عن الانتهاكات.
ذهب بان كي مون وجاء غوتيريش الذي لم يسمح للتحالف الذي تقوده السعودية بالإفلات، فأعاد التحالف العربي إلى “قائمة العار” بشكل رسمي في أكتوبر 2017، وصنفه كواحد من منتهكي حقوق الأطفال في زمن الحروب، بل إن التحالف جاء على رأس القائمة، ولكونها قائدة التحالف بذلت السعودية جهودًا كبيرة دون صدور مثل هذا التقرير الذي اعتبرت معلوماته “غير دقيقة ومضللة”.
وذكر تقرير للأمم المتحدة ما يستحق كل هذه المساعي لمنع ظهوره، حيث كان عام 2016 أكثر قتلاه ممن لا يقاتلون، وبنيران التحالف سقط نصف عدد الأطفال الذين قضوا في اليمن، وبحسب التقرير فإن الغارات الجوية التي قام بها التحالف قتلت أو جرحت قرابة 700 طفل، ودمرت أو أضرت بـ40 مدرسة ومستشفى تقريبًا، وذلك رغم الوعود السعودية بتحسين الامتثال لقوانين الحرب، فيما تتواصل الخسائر في صفوف الأطفال دون انقطاع، مع هجمات جديدة قضت تمامًا على أسر بأكملها.
الأمم المتحدة تضع #التحالف_العربي بقيادة #السعودية و #الحوثيين وقوات الحزام الأمني التابعة ل #الامارات على القائمة السوداء .. سواء بسواء ..#اليمن
— جابر الحرمي (@jaberalharmi) June 26, 2018
غيَّرت السعودية أسلوبها بعد فشل الأسلوب الخشن باتخاذ ما يكفي من احتياطات لتجنيب الأطفال ويلات الحرب التي تقودها مع الإمارات في اليمن، كما قالت، لكن اسم التحالف ظهر للعام الثاني على التوالي على رأس واحدة من أسوأ اللوائح السوداء، وبنفس أرقام السنة الماضية تقريبًا، ما يعني أن السعودية لم تف بوعدها في حماية أطفال اليمن.
التهم ذاتها وُجهت بالأمس القريب إلى التحالف العربي وإلى القوات الحكومية اليمنية والفرع اليمني لتنظيم القاعدة، وكذلك إلى ميليشيا الحوثي التي قال تقرير حقوقي عنها إنها تجند الأطفال وتستغلهم في العمليات القتالية وحراسة نقاط التفتيش والمباني الحكومية ومد النقاط العسكرية بالغذاء والمعدات، ويُفهم من ذلك أن الأطراف المتحاربة كافة تنتهك قوانين الحرب، لكن ليس بالقدر نفسه، فليس القصف البري كالغارات الجوية.
تقرير الأمم المتحدة الذي يستعد الأمين العام للأمم المتحدة لنشره، أشار إلى أن أكثر من 600 من ضحايا الأطفال، بينهم 370 طفلاً قتيلاً هم ضحايا التحالف
الأمم المتحدة حاضرة وتراقب، ولديها موفد خاص إلى تلك البلاد يسعى لمخرج سياسي يجنب المدنيين ويلات الحرب، ولديها ما هو أكثر؛ فرق تراقب وترصد وتحصي الضحايا، وفي تقريرها الأخير ثمة معلومات مؤكدة وموثقة عن مقتل وتشويه أكثر من 1300 طفل في اليمن، أكثر من نصفهم قضوا جرَّاء الغارات الجوية.
تقرير الأمم المتحدة الذي يستعد الأمين العام للأمم المتحدة لنشره، أشار إلى أن أكثر من 600 من ضحايا الأطفال، بينهم 370 طفلًا قتيلًا هم ضحايا التحالف، كما أظهر التقرير أن أكثر من 300 من الضحايا بينهم نحو 80 طفلًا قتيلًا هم ضحايا الحوثيين، بينما حمَّل التقرير المقاومة الشعبية المسؤولية عن سقوط 41 من الضحايا، مشيرًا إلى ضلوع قوات دولية أخرى تساند الحكومة اليمنية في سقوط 19 ضحية، أما القاعدة فقد كان لها النصيب الأقل بمسؤوليتها عن 10 من الضحايا الأطفال.
وعد التحالف باتخاذ إجراءات تحمي الأطفال لكن الغارات لا تزال تستهدفهم
أطفال اليمن.. حطب الحرب التي فُرضت تحت شعار إعادة الشرعية
يأتي التقرير الأممي في ظل الهجوم على ميناء الحديدة والانعكاسات الخطيرة لذلك على إمدادات الغذاء والدواء، لكن لِمَ والحال تبدو هكذا يُصنف التحالف في فئة مستحدثة من التقرير؟ وما دلالات الإشارة إلى أنه اتخذ تدابيره للحد من عواقب تدخله العسكري على الأطفال بينما تواصل غاراته حصد أرواحهم؟
ففي السنة الماضية وعد التحالف باتخاذ إجراءات تحمي الأطفال، لكن هذه المرة لن تنجو الرياض ولا أبو ظبي، فكلتاهما تقودان التحالف فعليًا، وهذان الرجلان (محمد بن سلمان ومحمد بن زايد) ربطا مصيرهما السياسي وصعودهما في بلديهما بتلك الحرب وذلك التحالف.
دفع الرجلان بقوات بلديهما، وأقنعا دولًا أخرى بالمال أو بالابتزاز السياسي – وفقًا للبعض – بالمشاركة في حرب أُريد منها إعادة الشرعية إلى اليمن، فانتهت إلى نزعات إمبراطورية حولت اليمن إلى ما يشبه الدولة المحتلة، وحولت شعبه إلى مختبر لآلة الموت والقتل حين تتوحش.
الدلائل في هذا الشان كثيرة، فالغارات التي تخطئ هي الأكثر منذ الحرب العالمية الثانية، بحسب تقارير دولية، ولا تقوم بها سوى جهة واحدة وهي التحالف، ومن بين دوله فإن دولتين فقط تغيران وتقصفان جوًا، وهما السعودية والإمارات، ولذلك معنى وحيد أن ثمة جرائم وقعت، فوجب الملاحقة والتحقيق.
وثقت هيومن رايتس ووتش 61 غارة جوية للتحالف بدت غير قانونية وتسببت في مقتل 200 طفل، إضافة إلى العديد من الغارات التي دمّرت مدارس أو ألحقت بها أضرارًا
وهناك ما تتحمل مسؤوليته مباشرة الدول المنخرطة في التحالف الذي تقوده السعودية، وهو القصف العشوائي وإغلاق المنافذ البرية والبحرية في وجه المساعدات وأمام تنقل اليمنيين في بلادهم وإليها، ومن بين هؤلاء الآلاف الذين يحتاجون إلى العلاج في الخارج، ما يعني موتهم داخل بلادهم الذي تحول في رأي البعض إلى قفص كبير ومغلق لا يليق بإنسان القرون الحديثة.
وتقول منظمة اليونيسيف إنه منذ مارس/آذار 2015 قُتل أو جُرح 5 أطفال يمنيين كل يوم، وبحسب تقارير للأمم المتحدة ومنظمات حقوقية فإن أكثر من ثلثي سكان اليمن يعانون أوضاعًا إنسانية بالغة الصعوبة، وثمة ما بين 7 ملايين و9 ملايين يمني في حاجة ماسة للمساعدات الإنسانية.
تأتي هذه الاتهامات الأممية المتصاعدة، في ظل تزايد الغارات الخاطئة للتحالف التي أودت بآلاف الضحايا المدنيين، ومن بين الانتهاكات المتكررة التي ارتكبتها أطراف النزاع في حق الأطفال وثقت هيومن رايتس ووتش 61 غارة جوية للتحالف بدت غير قانونية وتسببت في مقتل 200 طفل، إضافة إلى العديد من الغارات التي دمّرت مدارس أو ألحقت بها أضرارًا.
انتكاسة جديدة للسعودية.. ماذا بعد؟
الوعود بتحسين الامتثال لقوانين الحرب لم تؤد إلى حماية أفضل للأطفال
فتح قرار الأمم المتحدة تساؤلات عدة عن تبعات هذا الإجراء على عمليات التحالف العسكرية ضد مسلحي جماعة الحوثي وحلفائها الذين أدرجوا أيضًا في القائمة ذاتها ومدى استفادتهم من ذلك، فيما يرى سياسيون وحقوقيون أن القرار الأممي هذا يمثل ضربة قوية للرياض، وقد يشكل عبئًا عليها مستقبلًا، فيما يمثل خطوة مهمة للمساءلة عن الانتهاكات في اليمن.
وتأسف منظمة العفو الدولية لما ترى أنه استسلام جديد من المجتمع الدولي لضغوط سياسية تتجاهل معاناة مئات الأطفال اليمينيين، غير أن الأمين العام للأمم المتحدة يوضح أن الهدف من التقرير السنوي لا يقتصر على التنديد بالانتهاكات التي تُرتكب ضد الأطفال من قتل وتشويه واعتداءات جنسية وتجنيد قسري وخطف، وإنما أيضًا لحض الأطراف المتنازعة على اتخاذ إجراءات تحد من عواقب النزاعات على الأطراف.
وعلى مدى أكثر من عامين من التدخل العسكري في اليمن، ظلت قيادة التحالف العربي تؤكد احترامها الكامل لالتزاماتها بموجب القانونين الدولي والإنساني، غير أن الوعود بتحسين الامتثال لقوانين الحرب لم تؤد – كما يبدو – إلى حماية أفضل للأطفال، لذلك تطالب كبريات المنظمات الحقوقية الدولية بأن يتخذ التحالف العربي إجراءات ملموسة لوقف ما تصفها بهجماته “الفتاكة غير القانونية” في اليمن، وأن يسمح بوصول المساعدات إلى من هم بحاجة إليها.
باتت صورة التحالف بل سمعته على المحك، ويكفي أنه أصبح جنبًا إلى جنب مع دول وجماعات تُوصف بـ”المارقة والإرهابية” تحت المجهر الدولي
وفي انتظار حدوث ذلك، تقول منظمة هيومان رايتس وواتش إنه ينبغي على الحكومات تعليق مبيعات الأسلحة إلى السعودية، وبحسب البعض ومنهم أعضاء في الكونغرس الأمريكي، فإن واشنطن تتحمل قدرًا كبيرًا من المسؤولية، فهي تقدم المساعدات اللوجيستية الحاسمة لقوات التحالف، وشعارها المعلن هو محاربة الإرهاب في تلك البلاد، أي تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية “داعش” اللذين احتكرا هذه التهمة زمنًا طويلًا.
والحقيقة أن التقرير لا يُملي على الحكومات ما تفعل، ولا يُخضع الدول المدرجة في القائمة السوداء لإجراءات عقابية من الأمم المتحدة، لكنه يُشهِّر بأطراف الصراع على أمل دفعها لتنفيذ إجراءات لحماية الأطفال.
وبالنسبة للتحالف العربي باتت صورته بل سمعته على المحك، ويكفي أنه أصبح جنبًا إلى جنب مع بقية المتحاربين في اليمن ومع دول وجماعات تُوصف بـ”المارقة والإرهابية” تحت المجهر الدولي، إنه مجهر تُرى عبره انتهاكات قوانين الحرب في شكلها الأشمل.
والمفارقة أن ينتهي من تتحالف معه واشنطن وتمده بالعون إلى شبيه لا يقل خطرًا عن تنظيمات شُنَّت حروب كبرى ضدها وجُيشت الدول والجيوش لدحرها، لا بد إذًا من عقاب لكل من شارك أو تواطأ أو قصف.