يقول المثل الشعبي “الفلوس تغير النفوس” وهذا ما أثبتته بالفعل عدة أبحاث ودراسات علمية اتفقت على أن الفرد يتغير بتغير مدخوله الشهري أو بقدر ما يملكه أو يفتقره من مال، وذلك يشمل طريقة تفكيره وتصرفاته تجاه الآخرين، إضافة إلى نظرته الشخصية لنفسه، مع العلم أن هذه التغيرات قد لا تكون إيجابية دائمًا.
ولا شك أن الأفكار والأفعال والسلوكيات تتشكل جميعها من التركيب الجيني للشخص بجانب الطريقة التي نشأ بها، أي أن المال لا يشكل معتقدات أحد ولكنه يؤثر عليها بطريقة ما، وسواء امتلكناه أم لا، فمن الصعب الابتعاد عن تأثيره، فبطبيعة الحال التعليم والمهنة وشريك الحياة والصحة كلها تتأثر بشكل مباشر بوجوده أو عدمه، وبناءً على ذلك فسر لنا العلماء كيف يغير المال من نظرتنا إلى ذواتنا والعالم الخارجي.
السلوك
أثبتت دراسة أجريت عام 2004 أن المال يغير الطريقة التي تقدر بها وقتك وجهدك، ولقياس ذلك بشكل أدق، ابتكر الباحثان جيمس هيمان ودان أريلي تجربة يمكن بواسطتها قياس مدى تحفيز الشخص لإكمال مهمة تعتمد على المال، وطلب من المشاركين مهمة بسيطة للغاية، وقسم المشاركين إلى 3 مجموعات: الأولى ستقوم بهذه الوظيفة لأهداف خيرية والثانية مقابل نصف دولار والثالثة مقابل 5 دولارات.
كانت النتيجة أن المجموعة التي طلب منها أداء هذه المهمة لأغراض خيرية في المرتبة الأولى وتتبعها المجموعة الرابحة 5 دولارات، وآخرهما مجموعة النصف دولار.
يعتبر المال محفزًا جيدًا عندما يتناسب مع قيمة الوقت والجهد، حيث يوقف الجزء المسؤول من الدماغ في هذه الحالة عن فعل الخير والخدمات عندما يطرح على الطاولة
ومن هنا جاء اعتقاد هايمان ورايلي بأن هناك دوافع لإنجاز أي مهمة، وأولها الدافع الاجتماعي وإدراك قيمة هذه الخدمة اجتماعيًا على اعتبار أنها جزء من واجبنا الاجتماعي وسعادتنا تكمن في مساعدة الآخرين، وعند عرض المال كحافز فإننا نتغاضى عن الجانب الأخلاقي ونركز على القيمة المادية لذلك نقيس الوقت مقابل المكافأة المالية، وهذا ما يفسر احتلال مجموعة النصف دولار المرتبة الأخيرة لأنهم ببساطة اعتقدوا أن وقتهم وجهدهم يستحق المزيد من المال.
لذلك يعتبر المال محفزًا جيدًا عندما يتناسب مع قيمة الوقت والجهد، حيث يوقف الجزء المسؤول من الدماغ في هذه الحالة عن فعل الخير والخدمات عندما يطرح على الطاولة.
الاكتفاء الذاتي
وجدت دراسة في كلية بيل للإدارة عام 2009 أن أولئك الذين يدركون قيمة المال وأهميته يسعون إلى أن يكونوا أكثر اكتفاءً به من أولئك الذين لا يمثل المال أولوية لهم، حيث أدخلت الدراسة أول مجموعة من الأشخاص إلى غرفة تحتوي على العديد من النقود وأشياء تذكرهم بالمال مثل لعبة “المونوبولي”، والمجموعة الأخرى إلى غرفة خالية تمامًا من أي تذكير بالمال، وخضعوا كلاهما لامتحان.
الأفراد المهتمين بالمال أكثر اكتفاءً بالذات من أقرانهم الآخرين
أعطيت مهمة صعبة للغاية وأقرب للمستحيل مع تعليمات واضحة، لكن المجموعة الأولى كانت أكثر رغبة في إنجاز المهمة بمفردها حتى عندما لم يكن بإمكانها تحقيق ذلك، وهذا على النقيض من المجموعة الأخرى التي طلبت المساعدة مرارًا، وإلى ذلك فلقد خلصت الدراسة إلى أن الأفراد المهتمين بالمال أكثر اكتفاءً بالذات من أقرانهم الآخرين.
انتقلت الدراسة إلى مرحلة أخرى تقيس فيها كيفية تأثير المال على سلوك الشخص باستخدام نفس المجموعات ولتوضيح مدى تعاطفهم واستعدادهم لتقديم أي خدمة، لذلك أدخلوا شخصًا أمامهم يحمل العديد من الأدوات مثل الدفاتر والأقلام التي أوقعها، وكان من الواضح أن المجموعة الأولى التي أحيطت بكل ما يذكرها بالمال ساعدته بسرعة، أما المجموعة الثانية التي غاب المال عن بيئتها تكاسلت عن تقديم أي مساعدة.
تقديم الذات
نشرت دراسة عام 2013 في مجلة “الشخصية وعلم النفس الاجتماعي” تقول إن المبلغ الذي نجنيه له تأثير على طريقة عرضنا للآخرين عند التعارف، حيث طُلب من بضعة أشخاص تقييم بعض الأشياء مثل الطبقة الاجتماعية ومعدل الذكاء والجينات، واتفقت النتائج على أنهم يعتقدون أن الاختلافات بين الطبقات الاجتماعية تقوم على الهوية والوراثة وليس الظروف.
تبين أن الأغنياء لديهم شعور عميق بالطبقية واعتقدوا أن الثروة جزء من الجينات والهوية وأنهم يعتقدون بأن الحياة عادلة والغالبية تحصل على ما تستحق
بشكل أوضح، تبين أن أغنى الأشخاص المشاركين لديهم شعور عميق بالطبقية واعتقدوا أن الثروة جزء من الجينات والهوية وأنهم يستحقون الثروة استنادًا إلى ظروفهم المعيشية، كما يعتقدون بأن الحياة عادلة والغالبية تحصل على ما تستحق، أما الفقراء فمالت اعتقاداتهم إلى أن الطبقية الاجتماعية لا ترتبط بالجينات، أي أن أي شخص يمكنه أن يكون غنيًا أو فقيرًا بغض النظر عن جيناته.
الجانب الأخلاقي
تعد الضرائب الكابوس الأكثر شيوعًا لدى أغنياء العالم، وغالبًا ما تظهر فضائح واتهامات عدة بتهربهم منها أو تجاهلهم لبعض الفواتير، ولإثبات مدى تأثير المال على سلوكيات الشخص غير الأخلاقية، أجريت دراسة عام 2012 لاحظت أن الذين يعتبرون أنفسهم من الطبقات الرفيعة أكثر عرضة للانحراف والانخراط في الإجراءات غير الأخلاقية، على سبيل المثال، غالبًا ما تقطع السيارات الفاخرة خط المشاة وإشارة المرور الحمراء!
هذه التصرفات وصفتها الدراسة بـ”تعظيم المصلحة الذاتية”، حيث يعمل الأشخاص المقصدون بذلك على إفادة أنفسهم بشكل كبير سواء داخل حيز العمل أم خارجه.
الإدمان
أوضح العلماء أن الإدمان يبدأ من شعور الإنسان بالإيجابية تجاه سلوك معين سواء من خلال التسوق أم السفر، ما يجعل البعض يكررون هذه النشاطات للحصول على نفس الشعور أو الإثارة ما قد يؤدي إلى إدمان في نهاية المطاف، وتطبق هذه النظرية على كسب المال وتحوله إلى نوع من الإدمان لبعض الأغنياء الذين يلهثون خلف شيكات ذات قيمة أكبر أو عقود عمل خيالية، وبالتالي يتحول هذا إلى الهدف الوحيد في الحياة.
قد تكون هذه الدراسات والفرضيات تفسيرًا مقنعًا لعدة ظواهر وسلوكيات مثل الافتقار إلى التعاطف وتدهور الأخلاق والالتزام بالأعمال التطوعية والخيرية
تحدز طبيبة علم النفس تيان دايتون من الشعور المريح والمثير الذي يتسبب فيه الدماغ للإنسان بعد الحصول على المال، لأنه بطبيعة الحال قد يضع الأشخاص تحت ضغوط شديدة ويبعدهم عن العلاقات التي لا تشبع إدمانهم بالحصول على المزيد من الأموال.
قد تكون هذه الدراسات والفرضيات تفسيرًا مقنعًا لعدة ظواهر وسلوكيات مثل الافتقار إلى التعاطف وتدهور الأخلاق والالتزام بالأعمال التطوعية والخيرية، وتخبرنا لما يملك البعض دوائر اجتماعية مختلفة تشمل أصدقاء من مستويات مختلفة وأخرى تنحصر على مجموعات معينة، وبالطبع من الصعب إسقاط هذه المعلومات على جميع الحالات بسبب اختلاف الفئات العمرية والعرقية والمستويات التعليمية لدى الأشخاص الذين أجريت عليهم هذه الأبحاث.
هل المال يجعلنا أشخاصًا سيئين؟
بول بيف أستاذ مساعد في علم النفس الاجتماعي في جامعة كاليفورنيا يعتقد أن المال يبرز الجوانب السلبية لدى الناس، ويقول “كلما كان لديك المزيد من المال، كلما ركزت على نفسك أكثر وأصبحت أقل حساسية تجاه الآخرين”، أي أقل قدرة على قراءة مشاعر الآخرين، وهذا تفسير ميل الأغنياء إلى كسر المعايير الأخلاقية والقوانين لخدمة مصلحتهم الذاتية وأهدافهم الشخصية، وفي نفس الوقت لا يعني أن الأثرياء فاسدو المجتمع، ولكن الثروة هي محفز لهذه الميول والسلوكيات.
وفي تجربة أخرى أجراها بيف، وجد الناس الأكثر فقرًا أكثر سخاءً من الأغنياء ولكن عندما عرض للأغنياء مقطع قصير عن الفقراء وأوضاعهم أصبحوا أكثر كرمًا من قبل، فالمشكلة أن الثروة قد تجعل الأغنياء ينغلقون على أنفسهم ويعيشون خلف جدار يمنعهم من التواصل مع غيرهم من الناس.
يكون الأثرياء أكثر نرجسية معتقدين أنهم أكثر قدرة ومهارةً من الأشخاص الاعتيادين، كما أنهم من المتوقع أن يختلقوا قصصًا ودروسًا من رحلة سعيهم خلف الثروة
كما أن المال يمنح المزيد من الاستقلالية والسيطرة على الحياة الخاصة، لذلك يكون الأثرياء أكثر نرجسية معتقدين أنهم أكثر قدرة ومهارةً من الأشخاص الاعتيادين، كما أنهم من المتوقع أن يختلقوا قصصًا ودروسًا من رحلة سعيهم خلف الثروة رغم أنهم ولدوا داخل عالم مليء بالامتيازات، وهذه النظرة والسلوكيات قد تجعلهم يبدون أكثر أنانية من غيرهم.
أما الافتقار إلى المال فيعني فقدان السيطرة على الظروف، ما يجعل الفقراء أكثر تعاطفًا ورحمة وسخاء مع الآخرين، فالفقر يجعلهم يعتمدون على بعضهم البعض لتلبية احتياجاتهم وتقديم المساندة.
محاولة متواضعة لجعل الأثرياء يدركون مدى تحيزهم لأنفسهم وكيف يمكنهم مساعدة الأخرين من خلال سلطة المال التي يمتلكونها
هذه الحقائق مهمة في تفسير الأنماط الاجتماعية والميول النفسية التي يمر بها العالم بسبب مستوى الدخل، وعلى الرغم من نجاح العلم في الإجابة على بعض الأسئلة فإن هناك المزيد من الأسئلة التي تطرح بشأن عدم المساواة في الأجور والفجوة المتضخمة بين الطبقات الاجتماعية في العالم وسبب ازدياد المشاكل الاجتماعية عند طبقة على حساب أخرى، ولكنها محاولة متواضعة لجعل الأثرياء يدركون مدى تحيزهم لأنفسهم وكيف يمكنهم مساعدة الأخرين من خلال سلطة المال التي يمتلكونها.