ترجمة حفصة جودة
لم أكن أتوقع أن أرى السماء بيضاء، فهناك عاصفة رملية في الصحراء التي أقف عند بوابتها، تطل العاصفة من خلف سلسلة جبال دهار جنوب تونس بينما أقف على نتوء صخري في مطماطة، تشتهر مطماطة بمنازلها التي تقع تحت الأرض حيث تم تصوير فيلم “حرب النجوم” الأول عام 1976.
ما زال فندق سيدي إدريس يجذب السياح هنا، فهناك بقايا أصلية من الفيلم معروضة في هذا الفندق الكهفي المحفور في الصخر الجيري، هناك الروبوتات المصنوعة من الخشب، وكهوف ذات أسقف مطلية منذ 40 عامًا، أما صور جورج لوكاس ومارك هاميل وهاريسون فورد فما زالت مثبتة على الجدران كتبجيل دائم لأبطال ملحمة الخيال العلمي تلك، ويمكن لمحبي الفيلم قضاء الليل بأكمله في غرف الفيلم والتظاهر بأنهم في مجرة بعيدة.
منذ ثورة تونس 2011 بدأ إحياء التراث البربري، بعد عقود من تجاهل لغتهم وثقافتهم
ورغم أن السياحة من أجل الفيلم في تلك المنطقة الجبلية كانت نقطة جذب الزوار دائمًا، فإن ثقافة وتراث سكانها الأصليين من البربر – سكان شمال إفريقيا الأصليين – ظهرت مؤخرًا فقط على السطح، كان الاهتمام بثقافة البربر قد ظهر بعد الثورة في تونس عام 2011 عندما أطاح المتظاهرون بحكم الديكتاتور بن علي بعد 23 عامًا، ومنذ ذلك الحين بدأ إحياء التراث البربري، بعد عقود من تجاهل لغتهم وثقافتهم وكبتهم تحت فكرة أمة واحدة متجانسة؛ شعر البربر بالحرية من جديد للتعبير عن هويتهم.
تفتخر مطماطة بتصوير مشاهد من فيلم “حرب النجوم” بها
مع انفتاح المجتمع المدني أصبح هناك نحو 20 جمعية تعمل على تعزيز ثقافة البربر، وتقول إيزيتين هوسين بلغويث من جمعية “تاماجويت”: “نستخدم كلمة أمازيغ بدلاً من البربر، قبل الثورة لم يكن لدينا حرية الحديث عن تراثنا وثقافتنا، وكنا نتحدث لغتنا في المنزل فقط ومع عائلاتنا وليس أمام العامة، أما الآن فهناك فصول مجانية لتعليم اللغة وأصبح لدينا الحق في تسمية أبنائنا بأسماء أمازيغية، قبل ذلك لم يكن مسموحًا سوى بالأسماء العربية”.
على الطريق بين مطماطة وتامزرت تقع بعض البيوت التقليدية للبربر وهي مفتوحة للزوار، تعد دار توفيق النموذج الأصلي لبيت إنسان الكهف حيث تقع الساحة في منتصف الدار ومفتوحة على السماء، ومن تلك الساحة تتفرع العديد من الغرف تربط بينها الممرات، وفي غرف العرض رأيت الأسرة المصنوعة من الصخر وأدوات المطبخ المصنوعة من الطيب وبعض الأدوات التقليدية.
وعلى العكس من بيوت مطماطة التي تقع تحت الأرض، تقع بيوت تامزرت على تلة ترتفع عن الأرض نحو 460 مترًا وهناك مسجد عند أعلى قمة على التلة، من بعيد لا تبدو بيوت البربر التي تشبه ألوانها لون الأرض ظاهرة للعيان، لكن عندما تقترب منها تجد أن هذه المباني الصخرية يتخللها أبواب وشبابيك زرقاء زاهية اللون.
تمتزج تامزرت بالطبيعة وألوانها بغض النظر عن أبوابها الزرقاء الزاهية
أحد هذه المباني المنحوتة تحت مدخل مقوس عبارة عن مدخل لمتحف “مدينة البربر”، كان مونجي بوراس – مؤسس هذا المتحف – قد حيّاني بحرارة واستقبلني في الداخل، عاد بوراس إلى مسقط رأسه تامزرت بعد أن عمل لمدة 20 عامًا كمهندس معماري في العاصمة تونس.
يقول بوراس: “البربر ليسوا قبيلة إنهم سلالة، نحن نشكل أقلية نسبتها 2.5 من سكان تونس لكن 96% من سكان تونس لهم أصول بربرية والعديد من أسماء مدن وقرى تونس كلمات بربرية في الأصل، لقد أصبح هناك العديد من المهتمين بالتراث البربري ويرغبون في معرفة المزيد عنه”.
تمتد شبكة من الممرات تحت الأرض منذ قرون لحماية سكان المدينة من الهجمات ولها 7 نقاط وصول
في متحفه الخاص يعرض بوراس مجموعة مذهلة من الملابس التقليدية للبربر والمجوهرات وحجاب العرائس ذا التطريز المعقد، كما رأيت زوجًا من الأحذية طرزها بوراس بنفسه، يقول بوراس: “هذا الفن لم يعد موجودًا لكنني أرغب في الحفاظ عليه، قبل ذلك كانت هذه الأشياء تسمى “فلكلور” لكنها ليست فلوكلورًا إنها ثقافتنا”، يقيم بوراس أيضًا ورش عمل عن الثقافة واللغة البربرية ويقدم وجبات طعام بربرية تقليدية في منزله فوق المتحف.
يفضل شباب توجان الانتقال إلى المدينة الجديدة بدلا من منازل أجدادهم
خلال الجولة القصيرة في تلك المدينة أشار بوراس إلى رموز على المداخل، مثل السمكة والكتابة اليدوية والخط المتعرج ذو الثلاث قمم – يشبه تلك الزخارف التي رأيتها على حجاب العروس في المتحف – ويقول بوراس إن هذه الرموز لها أصول مسيحية فالسمكة ترمز إلى معجزة “الخبز والسمك” واليد هي يد الإله والقمم الثلاثة تمثل الثالوث.
في الفناء رأيت خندقًا محفورًا يبدو وكأنه مدخل لنفق ما، تمتد شبكة من الممرات تحت الأرض منذ قرون لحماية سكان المدينة من الهجمات، ومع بناء المدينة على قمة التل فهذه الأنفاق تسير أفقيًا ورأسيًا تحت الأرض ولها 7 نقاط وصول رئيسية، واليوم هذه الأنفاق أصبحت مهجورة وممتلئة بالحطام.
قضيت الليل في “Auberge de Tamazret” وهو منزل تقليدي تحول إلى بيت ضيافة مريح مكون من 3 غرف حول الساحة الرئيسية، وفي الخارج تواصل رياح الصحراء عويلها لكنني كنت أشعر بالحماية بين تلك الجدران الصخرية السميكة.
السجاد اليدوي التقليدي “الكليم” معروضًا للبيع في توجان
قضيت اليوم التالي في استكشاف توجان وهي قرية بربرية أخرى تبعد 45 دقيقة بالسيارة جنوب شرق تامزرت، وهي قرية أخرى مهجورة إلى حد كبير بشوارعها الضيقة ومنازلها الصخرية، وفي إحدى ساحات المنازل تلصصت على أم وابنتها مشغولتين بنسج الكليم الملون على النول، ولاحقًا رأيت هذا السجاد اليدوي التقليدي معروضًا للبيع في متجر فتحي ترهوني بجوار جرار العسل الأبيض وزيت الزيتون المصنوع محليًا.
يقول بوراس: “هناك 120 عائلة تعيش في توجان بالإضافة إلى مدينة توجان نوفيل الجديدة التي يعيش فيها 2500 نسمة وتبعد عدة أميال عن توجان، ويفضل الكثير من الشباب الانتقال إلى المدينة الجديدة وبناء منازل جديدة بدلاً من الحفاظ على منازل أجدادهم”.
تحول منزل عائلة ترهوني إلى بيت ضيافة يستقبل المسافرين الذين يرغبون في مراقبة حياة البربر عن كثب.
رأيت أيضًا الطريق المؤدي إلى “القصر” وهو قلعة محصنة تقع على قمة جبل يطل على المدينة، وهذه القلاع المحصنة تنتشر في المنطقة حيث كانت تعد مراكزًا لمراقبة اقتراب الغزاة، تتبعت المسار الصخري المزين بنباتات فواحة من إكليل الجبل والزعتر، وقبل أن أصل للقمة كان هناك القليل من الجدران المتبقية من القصر، لكن المشهد من أعلى يمتد من توجان وحتى جبال دهار، وكان الجو صافيًا والسماء زرقاء وليس هناك أي أعداء أو عواصف تلوح في الأفق.
المصدر: إندبندنت