خلال العقد الماضي، ومع تزايد الاعتماد البشري على الهواتف الذكية، صارت مواقع التواصل الاجتماعي جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية لمستخدمي الإنترنت؛ لتصبح منصات التواصل الاجتماعي نفسها أداة تغيّر بها شكل الدعاية والإعلان وتكوين الوعي حول العالم، فتلك الأداة هي الأقوى الآن فيما يتعلق بعملية ما يعرف بصناعة البروباجندا التي حدثنا عنها ناعوم تشومسكي وإدوارد هيرمن في كتاب “صناعة الإذعان: الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام الجماهيرية”.
نظرية البروباجندا أو الدعاية السياسية لناعوم تشومسكي وإدوارد هيرمن
من ناحية إعلامية ودعائية، كان الوصول لشرائح أكبر وبشكل آني عن طريق تلك المنصات عنصرًا مهمًا ميزها عن الراديو والتليفزيون، ومن ناحية المحتوى، كان لتطوير نسخة الويب 2.0 (Web 2.0) الفضل في جعل عملية التواصل ثنائية الاتجاه بين مصدر ومنتج المحتوى والمتلقي، حتى صار المتلقي – أو المستخدم بلغة تقنية – نفسه منتجًا للمحتوى على شبكة الإنترنت، مما خلق مناخًا ساعد في البداية على كسر حالة احتكار إنتاج المحتوى الرقمي من الدول والحكومات والشركات الكبرى.
فالمحتوى المنتج من المستخدم (User Generated Content) صار نفسه مصدرًا للمعلومات والمحتوى على الإنترنت وهو ما غير شكل الدعاية والإعلان بشكل هيكلي وأساسي؛ فتزايد اعتماد المستخدمين على بعضهم البعض في تحديد تفضيلاتهم من المنتجات وحتى الأفكار في مقابل اعتمادهم على قوة الحملات الدعائية وما تروج له الشركة أو الحكومة أو حتى الحزب السياسي في مرحلة ما قبل بزوغ نجم محتوى المستخدمين، وهو ما جعل أي رغبة في ترويج أي شيء معتمدة على عدة عناصر رئيسية منها محتوى المستخدم.
نسبة من يتأثر من المستخدمين بمراجعات المستخدمين الآخرين في مراحل اكتشاف المنتج أو تقييمه أو اختياره.. المصدر: تراست ريدياس
فالآن أصبح ما يشاركه المستخدمون على منصات التواصل الاجتماعي ذا أهمية بالغة جدًا تكاد تسبب إزعاجًا كبيرًا لأصحاب رؤوس الأموال والأيدولوجيات والأفكار، وبكل تأكيد، الحكومات والأنظمة؛ وهو ما كان له أثر كبير على الحياة السياسية والنسيج المجتمعي في أغلب دول العالم، لأن المحتوى المُنتج من المستخدم نفسه الآن يصل بقية المستخدمين ويؤثر على سلوكياتهم الشرائية وأفكارهم ومعتقداتهم.
ومن هنا نجد كيف أصبح ما تكتبه أنت ذا أهمية، يمكن أن يغير المعادلة، يمكن أن يقلب الموازين، يسبب خسائر فادحة لشركات كبيرة، يفضح حكومات ويجبر رؤساء دول على التنحي!
وفي هذا السياق، أوضحت دراسة صادرة عام 2014 من شركة “inpowered” الأمريكية المهتمة بالتسويق الرقمي وتحليل سلوك المستخدم، أن المحتوى أصبح أكثر أهمية خلال الـ5 سنوات التي سبقت الدراسة عن ذي قبل، وقسمت الدراسة التي كانت تقيس سلوك المستخدمين عند تعرضهم لمحتوى عن بعض المنتجات منها هواتف وكاميرات وألعاب فيديو ومنتجات أخرى، المحتوى إلى ثلاثة أقسام: المحتوى المنتج من الخبراء في المنتج، ومحتوى المستخدمين من تعليقات وتقييمات، ومحتوى الشركات المنتجة نفسها، وكانت نتيجة الدراسة أن المصداقية الأكثر كانت للمحتوى الذي أنتجه الخبراء وتعليقاتهم عن المنتج، يليه محتوى المستخدمين وتعليقاتهم على الاستخدام اليومي للمنتج وفي النهاية يأتي المحتوى الترويجي للشركات نفسها.
الأمر لا يتطلب أكثر من 200 دولار تعطيهم لشركة في المملكة العربية السعودية من أجل أن تضع تريندًا وهميًا لبضع ساعات وذلك باستخدام الحسابات الوهمية المبرمجة
صحيح أن تلك الدراسة كانت في سياق أجهزة إلكترونية، لكن المعلوم بالضرورة أنها تقيس سلوك نفس المستخدم الذي يتعرض لحملات ترويجية لأفكار وأيدولوجيات على نفس المنصات، وما يسري على المنتج المادي يمكن إسقاطه وقياسه على المنتج الفكري كذلك، فأصبحت شركات الدعاية الآن مهتمة بالتسويق للمنتج، فكريًا كان أو ماديًا، والتسويق لآراء الخبراء عن هذا المنتج والتسويق ومحاولة السيطرة على المحتوى الذي ينتجه المستخدمون.
ذلك المناخ العام كان في البداية سببًا في إحداث قفزات كثيرة في عملية تبادل المعلومات والأخبار عن طريق الإنترنت الذي أصبح خارج السيطرة في الكثير من الأحيان، ففي سوق الأعمال أصبحت المنصات تتنافس فيما بينها لجذب المستخدمين عن طريق دمج طرق وأساليب مختلفة تمكنهم من مشاركة ما يريدونه وإنتاج المحتوى بصور إبداعية، فتجاوز الأمر النص المكتوب إلى الصورة ثم الفيديو ثم تطور الأمر إلى دعم تقنيات التصوير والبث المباشر.
كيف تصنع فوضى إلكترونية؟
جعلت هذه المعادلة الجديدة المحتوى المنتج من المستخدمين ذا أهمية، بل وأهمية تتجاوز أهمية ما تنتجه الشركات والحكومات نفسها، وفي سياق السياسة – وهو ما يشغلنا في هذا المقال – يمكننا أن نتخيل كيف أصبح الأمر ملحًا لدى الحكومات، وكيف أصبحت السيطرة على محتوى المستخدمين – المواطنين المؤيدين والمعارضين في هذه الحالة – هدفًا أساسيًا لضمان استقرار الحكم وتنفيذ سياسات الحكومة.
فحملة إعلامية حكومية ضخمة من أجل الترويج لمعايير حقوق الإنسان في البلاد يمكن أن تحقق فشلًا كبيرًا بواسطة “تويت” واحد لشخصية مشهورة من نفس المكان عن الوضع الحقيقي، تلك الشخصية يمكن أن تكون “خبيرة” اعتمادًا على تصنيف دراسة شركة إمباورد المذكورة سلفًا، أو تكون مجرد شخصية عادية لديها الكثير من المتابعين، وفي الحالتين ما يصدر عنها يكون أهم مما يصدر عن الحكومة نفسها.
الآن نحن كنظام أو حكومة نريد السيطرة على المحتوى من الجهة المقابلة، ونقصد هنا المحتوى المنتج من المستخدمين كلهم مؤيدوهم قبل معارضيهم، المؤيدون بتحديد خطابهم وتوجيهه بما يخدم مصالح النظام لتكون الرسائل المنشورة كلها على مختلف منصات التواصل الاجتماعي متماسكة ومتكاملة ومرتبة تروج لخطتي وفكرتي والهاشتاغ/الوسم الذي أريد ترويجه – كحكومة -، أما المعارضون فبالتشكيك في مصداقيتهم وجعل الحرب الإلكترونية في مساحة أخلقها أنا كحكومة، بقواعدي وبوسوم/هاشتاغات أطلقتها أنا.
وفي أحيان كثيرة بصناعة هؤلاء المعارضين بشكل حقيقي، أو حتى بشكل وهمي – وهو الأسهل والأيسر – المهم أن أجعل هناك فوضى إلكترونية، الكثير من الآراء هنا وهناك ومساحة لا محدودة من العشوائية، تجعل الآراء الاعتبارية للمستخدمين أو الخبراء إما مسيطر عليها من قبلي – كحكومة أو نظام – بحملات معادية أو ضائعة وسط هذا السيل الهائل من الآراء، وهو ما يعرف بـ”تسميم الهاشتاغات”.
عملية “تسميم الهاشتاغ” عن طريق الحسابات الآلية حسب مارك أوين جونز
البيانات والبرمجيات أهم من المدافع والطائرات
للسيطرة على خيوط السياسة وصناعة “التريند السياسي” الذي تريده الحكومات والأنظمة في ظل هذا الكم الهائل من المدخلات والبيانات، نجد أن كلمات السر غالبًا ما تكون عند علماء ومتخصصي البيانات والبرمجة حول العالم، وبعدهم يأتي دور الإعلام الذي أصبح بدوره ينشط في مساحة البيانات والبرمجة بأنواع جديدة من الصحافة، كصحافة البيانات.
الأمر ليس فقط عملية مراكمة وتجميع لمعلومات وبيانات المستخدمين وما ينشرونه بشتى أنواعه، بل إن تحليل تلك البيانات العملية الأصعب والأكثر تعقيدًا؛ فمئات الملايين من الجيجا بايت تتكون من صور وأماكن ونصوص وفيديوهات وبصمات للأصابع والوجه تحتاج إلى عمليات كبيرة من الترشيح والتصنيف والتحليل حتى يمكن أن تشكل لنا عنصرًا ذا فائدة في صناعة التريند الذي نريد، تلك الخطوة تنتج لنا المادة الأساسية الأولى، وهي البيانات المعالجة رقميًا.
هنا يأتي دور المبرمجين الذين يستفيدون بكل تلك البيانات والنتائج التي استُخلصت في تطوير برامجهم وصناعة برامج جديدة تمكنهم دائمًا من السيطرة على هذا التريند، وذلك عن طريق عمليات برمجة معقدة تعتمد بشكل أساسي على الذكاء الاصطناعي الذي يتطور كلما زادت البيانات، وتنمو قدرته التخزينية والتحليلية كلما زاد محتوى المستخدمين.
هذا تمامًا ما أشار له مارك زوكربيرغ في حواره عام 2010 مع موقع “ويرد” عندما أشار إلى أنه كلما زاد التفاعل، متمثلاً في النشر والتعليق والمشاركة والإعجاب على فيسبوك، كانت الحياة أفضل، وهو ما لم يكذب فيه مؤسس موقع فيسبوك، فالحياة ستكون أفضل بالفعل بفضل تفاعل المستخدمين وإنتاجهم للمحتوى على الموقع الأزرق، لكن البروفيسور كريستان فيوكس رئيس معهد أبحاث الاتصال والإعلام في جامعة “ويست مينستر” البريطانية، تساءل: حياة من ستكون أفضل؟ المستخدمون أم هو وأصحاب رؤوس الأموال والقادة السياسيون؟ فالبيانات تتخطى بأهميتها مجرد مشاركة لأنشطتنا مع أصدقائنا ومتابعينا لتكون أموالًا له وسلطة له علينا من حيث لا ندرك.
كرر مارك أن مصلحة الناس تأتي في المقدمة لكن أنشطة موقعه تثبت عكس ذلك
ذلك النوع من البيانات يكون مفيدًا في أغلب الأحيان لأغراض بحثية وتحليلية وفوق كل شيء أغراض ربحية، أما فيما يتعلق بالبروباجندا السياسية وصناعة التريند السياسي فإن البيانات نفسها يجب أن تتغير، يجب أن يكون لنا يد كنظام في صياغة تلك البيانات من أجل خداع مراكز الأبحاث وخداع شعبنا وصناعة رأي عام إلكتروني مزيف ووهمي.
يحدث كل ذلك بمساعدة شركات بيانات ودعاية وعلاقات عامة احترافية تتلاعب بكل البيانات نفسها عن طريق إنتاج كم هائل من المحتوى، باستخدام حسابات وهمية/آلية كثيرة لدفع رؤية معينة للتصدر على منصات التواصل الاجتماعي ومن ثم خلق حالة أمر واقع أمام كل المستخدمين تفرض عليهم القبول بهذه الرؤية لكثرة المروجين لها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، نجد أن تلك العملية تتطلب بعض الحسابات الحقيقية، أو كما سنسميها هنا حسابات حقيقية مُصَنّعة.
تفكيك لطبيعة حسابات الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي
لفهم أفضل نحتاج أن نقوم بعملية تشريح وتفكيك لطبيعة الحسابات (Accounts) على مواقع التواصل الاجتماعي، ونقول حسابات الجمهور وليس الجمهور نفسه، لأن كل الجمهور لديه حسابات، لكن ليس بالضرورة أن تعكس الحسابات جمهورًا حقيقيًا، فبعضها وهمي ومبرمج، فنحن لدينا 4 تصنيفات للحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تعتمد على العلاقة بين الهوية الحقيقية والهوية الرقمية لكل شخص، فهويتي الحقيقية هي ما أنا عليه على أرض الواقع، أما الإلكترونية فهو ما أريد إظهاره منها على الإنترنت.
- شخص حقيقي وهوية رقمية حقيقية
الموضوع هنا بسيط وواضح، فهناك شخصية حقيقية على أرض الواقع لديها اسم ومحل إقامة واهتمامات وحياة متكاملة، واختار هذا الإنسان أن ينشئ حسابًا على موقع تويتر كمثال، فوضع اسمه وصورته ورقم هاتفه أو بريده الإلكتروني وبدأ بالتفاعل بما يتناسب واهتماماته الحقيقية، فمثلًا هو مهتم بالسيارات ودائم التدوين عنها على تويتر، كما أنه يشجع نادي ريال مدريد وينشر باستمرار أخبار مبارياته ويعلق عليها وينشر صورًا للاعبيه، هذه شخصية حقيقية عكست هويتها الإلكترونية هويتها الحقيقية.
- شخص حقيقي وهوية رقمية مزيفة
هنا نجد شخصًا اختار عدم الإفصاح عن هويته الحقيقية وتكوين هوية رقمية كاملة مختلفة عن الحقيقة، ربما بغرض التخفي من أمر ما أو بغرض الاحتيال أو بغرض التحرك في مساحات أوسع إلكترونيًا بالبحث والكتابة والمشاهدة لأشياء لا يمكنه فعلها بشخصيته الحقيقية مثل الأفلام الإباحية، أو حتى بسبب شعور نفسي بالنقص يترتب عليه محاولة أن يعيش المرء إلكترونيًا ما لا يمكنه عيشه واقعيًا.
- حساب إلكتروني دون هوية لشخص غير موجود (وهمي/آلي)
هنا نجد حسابًا لشخص غير موجود أصلًا، وهي الحسابات التي عادة ما يتم إنشاؤها بغرض استخدامها للدعاية الإلكترونية، فهو حساب مبرمج غالبًا، فيما يعرف باسم (Bot) أو الذباب/اللجان الإلكترونية، هذه الحسابات تكون دون هوية حقيقية، أي أنها لا تنتسب لشخص بعينه في الواقع، كما أنها لا تمتلك هوية رقمية، فهي تستخدم صور شخصيات عامة كصورة شخصية أو حتى لا تضع أي صورة شخصية، ويكون الاسم المُعرف لها (الهاندل/Handle) رقمًا مسلسلًا أو كودًا تم إنتاجه من مولدات إلكترونية (Code Generators).
صور لمجموعة من الحسابات الوهمية/الآلية غردت علي هاشتاغ (#هنستحمل_مع_السيسي) ونلاحظ الرقم المسلسل في الاسم المعرف لكل حساب مما يعني أنها كلها مُنشئة من مصدر واحد بغرض الدعايا (المصدر)
تعمل تلك الحسابات في أوقات معينة فقط بغرض دعم هاشتاغ معين أو الترويج لفكرة معينة أو حتى لمنتج معين، لكنها بقية الوقت إما تُكتشف من تويتر فتُحذف، أو تبقى ساكنة دون أي نشاط، ما لم تكن هناك أي حملة تستدعي مشاركتها.
قُدر عدد هذا النوع من الحسابات عام 2014 بنحو 23 مليون حساب لكن من المهم هنا أن نذكر أن تلك الحسابات الآلية لا تستخدم في الدعايا السياسية فقط، بل بشكل عام تُبرمج لغرض أساسي وهو توفير مجهود الإنسان في عملية النشر، سواء كان النشر أوتوماتيكيًا من روابط معينة أم حتى شركات معينة أم خدمات معينة كالمتعلقة بالطقس أو البورصة وهكذا، فتنشر تلك الحسابات الآلية ما تم برمجتها عليه دون تدخل بشري، وقد خلصت دراسة لمركز “بيو” الأمريكي أن ثلثي المحتوى المنشور على تويتر والمرتبط بمواقع إلكترونية يُنشر بواسطة حسابات آلية.
كيف تقوم مراكز الأبحاث بمعرفة الحسابات الآلية؟
- هوية رقمية متكاملة لشخص غير موجود
هذا النوع الأخير من الحسابات هو الأكثر احترافية وتستخدمه الشركات الكبرى، فهي تنشئ حسابات إلكترونية ويكون لكل حساب هويته الرقمية الكاملة، يتم بناؤها مثل بناء الشخصيات السينمائية في الأفلام. أي أن هناك صورة لشخص ما واسم ربما يدل على الانتساب لعائلة أو قبيلة معينة، كما أن هناك اهتمامات لكل حساب كما يوضح الإنفوجرافيك التالي والذي سنتخذ فيه هوية رقمية لشخص من المملكة العربية السعودية كمثال للتوضيح.
نموذج لكيفية إنشاء أبعاد للهوية الرقمية لشخصيات غير موجودة
الأصل أن هذا النوع من الحسابات وهمي مثله مثل النوع الذي سبقه، لكن الفارق أن هذه الحسابات يتم تغذيتها لتنشر دائمًا، كل يوم، مثلها مثل الإنسان الحقيقي. وفي هذا الصدد، تواصل “نون بوست” مع مصادر خاصة مهتمة بعمل تلك الخلايا وهذا النوع تحديدًا من الحسابات على منصة “تويتر” في أحد دول الخليج العربي والذي قال أنه: “كلما كانت كفاءة التحديث اليومي للحساب عالية، من حيث توقيتات ونوعية النشر الملائمة مع صفات الشخصية بما في ذلك بعض التغريدات عن الحياة الشخصية، كلما كانت الشخصيات أقرب للواقعية وأصبح تمييزها صعبًا.”
ويكون دور تلك الحسابات وقت الحملات الدعائية أن تكتب ما يراد منها كتابته، وهنا تأتي الاحترافية؛ فتخيل أنك تتصفح تويتر، ووجدت هاشتاغًا معينًا في الصدارة ببلدك، ستدخل عليه لترى شخصيات تكتب عنه، ومجموعة حسابات وهمية تنشر تغريدات مكررة، إلا أنك تجد كذلك مجموعة حسابات باهتمامات مختلفة ومن شرائح عمرية ومدن مختلفة تدعم الهاشتاغ، وهو ما يراد التسويق له، أن هذه الدعايا مدعومة من أماكن وأشخاص مختلفين في أشياء كثيرة لكن اهتمامهم بالقضية مشترك، فيفكر وقتها الإنسان أنها فعلًا منتشرة ومن ثم يبدأ العقل في تصديق صواب ما تروج له. ولكن المهمة الصعبة هنا، حسب ما أشار لها مصدرنا: “أن تصنع شخصيات تتناسب مع ما ستطرحه على الرأي العام من قضايا مستقبلية، لذلك وجب التخطيط والبناء المسبق لكل شخصية لأن عملية بناء هويته الرقمية تستغرق أشهرًا.”
الحرب الإلكترونية.. حسابات وهمية تحت إدارة الأنظمة
ولفهم أكثر لما يحدث في الفضاء الإلكتروني، وتحديدًا على تويتر، لأجل صناعة التريند السياسي، سنعرض بعض الأمثلة التي ظهرت بشكل واضح خلال الأزمة الخليجية الأخيرة، فالجيوش الإلكترونية في الخليج ما زالت من أقوى الجيوش على مستوى العالم، ليس فقط بسبب كثرة عددها، بل لأن أصحابها يستعينون بأمهر الخبراء والشركات العالمية المتخصصة في الأمر وتأخذ مقابلًا ماديًا مرتفعًا جدًا، لكن لتلك الدول المال كثير ولا يُحسب له حساب.
كما وضحنا، العملية أعقد من أن يتم تصدير وسم/هاشتاغ معين في التريند المحلي أو العالمي حتى، فهذه المهمة ليست بالصعبة ولا تحتاج مجهودًا أو مالًا كثيرًا، فبناء على تحقيق استقصائي لهيئة الإذاعة البريطانية BBC الأمر لا يتطلب أكثر من 200 دولار تعطيهم لشركة في المملكة العربية السعودية من أجل أن تضع تريندًا وهميًا لبضع ساعات وذلك باستخدام الحسابات الوهمية المبرمجة.
النجاح الحقيقي هو إدارة الأنواع الـ3 من الحسابات (الأول والثالث والرابع) من أجل عمل حملة دعائية منظمة، فلكل نوع من الحسابات دوره وطريقته في الإدارة، الأول المملوك لأشخاص حقيقين بتمرير الرسائل المراد ترويجها لهم وهم ينشرونها بالتبعية، وإن لم يوافقوا فإما يكون الحل إلكترونيًا عن طريق عمليات اغتيال معنوي لهم أو عمليات تحييد وتسقيط، أو يكون الحل أمنيًا بالاعتقال.
صناعة التريند السياسي مهنة لها من يحترفها، منهم من يستخدمها بشكل مباشر من أجل مصالحه ومن يقدمها كخدمة ضمن مجموعة خدمات العلاقات العامة وتلميع الصورة الذهنية
أما النوع الثالث والرابع، الحسابات الوهمية والحسابات ذات الهوية الرقمية الكاملة، فبإدارة ما ينشر عليها وتوقيته ليكون متزامنًا مع النشر على النوع الأول، ليكون التريند وقتها مزيجًا من الحسابات الحقيقية لشخصيات عامة ذات تأثير على شرائح مختلفة ولديها عدد متابعين كثر، بالإضافة لحسابات كلها معدة سلفًا من أجل تلك اللحظة، فيظهر ذلك التريند بشكل قوي ويشجع المستخدمين العاديين على المشاركة فيه.
لا تكون تلك الدعاية فقط بالنشر، فأحيانًا كثيرة يكون المطلوب فقط تأييد ما نُشر بعمل الريتويت فقط، ليظهر أن المنشور حصل على حالة تأييد واسعة إلكترونيًا وبالتالي حالة تأييد واسعة على أرض الواقع، وهو ما حدث بشكل حاليّ مع تغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي قال فيها إنه يثق في الملك سلمان ومحمد بن سلمان ولي العهد وإنهم يعرفون بالضبط ما يفعلون.
تغريدة دونالد ترامب التي حصلت على تفاعل عالٍ مقارنة بباقي تغريداته
وبشأن هذه التغريدة، درس الصحفي والباحث مارك أوين جونز المهتم بمنطقة الخليج العربي والدعاية السياسية التفاعل الذي تم معها، وكانت نتيجة دراسته أن هذه التغريدة حصلت على أعلى معدل في “الريتويت” بين كل تغريدات الرئيس الأمريكي في هذه الفترة وبفارق كبير.
الخط بالأحمر هو عدد الريتويت لهذه التغريدة مقارنة بالتغريدات الأخرى
وعند فحص الحسابات التي قامت بهذا الريتويت تبين أن أغلبها حسابات وهمية/آلية أُنشئت في الفترة بين أغسطس وسبتمبر من نفس العام (2017)، وأغلبها تفاعلت دفعة واحدة بين الساعة الـ3 والـ4 والربع عصرًا تقريبًا.
الخط العرضي يمثل الوقت الذي تلى نشر التغريدة والصبغات الملونة تمثل توقيت إنشاء الحسابات التي قامت بالريتويت ويمثل كل من اللون الزهري والبرتقالي الحسابات التي أُنشئت شهري أغسطس وسبتمبر
هذا الرسم يعد تركيزًا على الساعات بين الـ2 عصرًا الـ6 مساءً من نفس اليوم ويظهر فيها بشكل أوضح حجم التفاعل من حسابات باللون الزهري والبرتقالي في وقت واحد
هذا المثال كان فيما يتعلق بعملية تقديم الدعم والانتشار لما هو مكتوب بالأساس بغرض إضفاء حالة من الشرعية والترويج لأن ما كُتب يلقى قبولًا لدى الجمهور الإلكتروني، لكن النوع الآخر وهو النشر في حد ذاته نجده أيضًا واضحًا في الخليج، وفي الأزمة الخليجية تحديدًا في الهاشتاغ/الوسم الذي انتشر نهاية شهر يونيو عام 2017 الذي كان يطالب بإغلاق قناة الجزيرة (#نطالب_باغلاق_قناة_الخنزيرة). ففي مقال على موقع “بحرين وتش” الاستقصائي ظهر من خلال عينة تتكون من أكثر من 8000 تغريدة أن نحو 71% من التغريدات بواسطة حسابات آلية.
الجدول يُظهر نسبة الحسابات الآلية ونسبة التغريدات الصادرة عنها مقارنة بكل الحسابات والتغريدات في العينة
إذا فأكثر من ثلثي التغريدات من العينة المأخوذة من هذا الهاشتاغ كانت تغريدات من حسابات آلية هدفها الترويج لإغلاق قناة الجزيرة، لكن وبصورة عامة، وفقًا لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية فإن نحو 29% من كل التغريدات التي كانت ضد قطر كانت آلية.
كيف يصل الهاشتاغ إلى التريند بـ200 دولار فقط؟
ما نخلص إليه من كل هذا، أن صناعة التريند السياسي مهنة لها من يحترفها، منهم من يستخدمها بشكل مباشر من أجل مصالحه ومن يقدمها كخدمة ضمن مجموعة خدمات العلاقات العامة وتلميع الصورة الذهنية، أغلب مستخدمي هذه الخدمة هم الأنظمة والحكومات في الدول المختلفة، فهي أداة قوية من أدوات البروباجندا يمكنها خدمة صورة نظام السعودية أو التأثير بشكل قوي في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو دعم موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال السباق الرئاسي.