ماذا ربحت الديمقراطية العربية بإقصاء الإسلاميين؟.. هذا سؤال سابق لأوانه، بل هو سؤال حرام عند من حارب الإسلاميين وأقصاهم من كامل تجارب بناء الديمقراطية في البلدان العربية، وقد يجد فيه الإسلاميون تعزية عن آلامهم وخيبتهم، لكنه لم يكتب لأي من هؤلاء إنما نحاول النظر في التجربة لعلّنا نعثر على سبب الخيبة الكبرى، التي جعلت المواطن يختار بين نموذج السيسي وقيس سعيّد ويتظاهر بالتفاؤل أن في بلده صندوق اقتراع، وأن مسرحية الانتخابات تجري في الأقطار بشكل دوري.
ونحن نقف على عتبة صندوق اقتراع في تونس ونختار بين الكوليرا والطاعون للمرة الثانية، ننظر فنرى الإسلاميين مغيَّبين بل ممنوعين من المشاركة ومن الكلام. ونخصّص السؤال على الحالة التونسية لنعمّم لاحقًا ماذا ربح التونسيون، وتجربة البناء الديمقراطي خاصة من منع الإسلاميين من المشاركة.
التجربة التونسية مثال عن الإقصاء المنهجي
منذ اعتصام القصبة 2 في ربيع 2011 وظهور الإسلاميين من خلفها بحجم وازن، في ما سُمّي بصلاة الجمعة الحاسمة، بدأت آلة الإقصاء تشتغل بشكل منهجي لمنعهم من الاستيلاء على الثورة وعلى مخرجاتها، رغم أنه لم تصدر منهم أية نوايا بالاستيلاء، فكانت حكومة الباجي المؤقتة، وكانت لجنة بن عاشور التي وضعت قانونًا انتخابيًا على مقاس إقصائي بحيث لا يفوز الإسلاميون فيها بأغلبية، وكانت اتضحت الصورة في الداخل وخاصة في الخارج: ليس لغير الإسلاميين جمهور ينافس به في الصندوق.
لكن توافقات كثيرة حصلت بفضل تنازلات جبارة من الإسلاميين أنفسهم، فانطلق مسار التغيير بمشاركة مضبوطة، وأفرزت في الأخير نوعًا من الاستقرار الهشّ وانتهت بدستور مقبول، ثم كانت انتخابات 2014 التي رسّخت القانون الانتخابي الإقصائي وأعادت ثقل المنظومة البائدة إلى الحكم، لكن الحياة الديمقراطية ظلت ممكنة وإن شابتها حرب إعلامية وشيطنة تضع كل الأوزار على الإسلاميين، وتعفي شركاءهم الفائزين بالرئاسات الثلاث.
كانت فترة متّسمة باستيلاء غير ديمقراطي على مفاصل الإدارة، تقابله تنازلات لا تنتهي من الإسلاميين حفاظًا على المسار من الانكسار. وكان لليسار في هذه المرحلة دور حاسم في تنفيذ الأجندة الإقصائية، بواسطة نقابته التي تحولت إلى حزب سياسي يعطّل كل فعل وكل حركة، دون طرح السؤال لماذا أو السؤال ماذا سيربح البلد ومسار بناء الديمقراطية من إقصاء الحزب الأكبر في البلاد من المشاركة؟
رغم ذلك لم يندثر الإسلاميون، وحافظوا على كتلة متماسكة فازت كحزب أول في انتخابات 2019. نتيجة ضاعفت الإقصاء المبرمَج، فانتهى المسار بانقلاب وعادت منظومة الحكم إلى تصفية الإسلاميين بنسق أقل من نسق مجزرة بن علي، لكن نتيجته الظاهرة الآن أن الإسلاميين أُخرجوا تمامًا من دائرة الفعل، وحُشروا في زاوية الدفاع عن وجودهم الجسدي.
وفي هذه اللحظة يستعد البلد لانتخابات رئاسية لا يمكن بأية حال أن يشارك فيها الإسلاميون لا بالترشيح ولا بالتصويت، وقد تبيّن منذ مرحلة التزكيات أن كل من لم يتحدث بإقصائهم في المستقبل تم إسقاطه من غربال الهيئة الانتخابية، بما يكشف النية المكشوفة أصلًا أن في مرحلة 2024-2029 لن يكون للإسلاميين من مكان إلا السجون والمنافي. أما عن فائدة البلد والديمقراطية من ذلك فسؤال حرام.
مسار عربي يتجاوز الحالة التونسية
إنما نذكر من تنفعه التذكرة أن مسار إعدام الإسلاميين وإقصائهم من المشاركة السياسية هو مسار عربي شامل يمكن الرجوع به إلى الخمسينيات، وقد تراكمت فيه الممارسات في كل قطر، وبلغ الأمر أن القانون السوري يحكم بالإعدام على من يُشتبه في انتمائه إلى جماعة الإخوان. ولقد ترسخ تاريخ الجماعات الإسلامية ومن سار سيرتها كتاريخ مطاردات، شملت حربًا أهلية في الجزائر بعد أن أخطأت منظومة الحكم بتنظيم انتخابات، وشملت حتى الانقلاب على انتخابات في الأرض المحتلة فازت بها حركة حماس.
استمر الوضع بعد الربيع العربي يشارك الإسلاميون في فورة الحماس الثوري، فيفوزون بجزء مؤثر من السلطة (حالة تونس ومصر وليبيا) فيتم الانقلاب عليهم بشكل مباشر (مصر) أو بشكل متدرّج (تونس) أو بتقسيم البلد (ليبيا). وتكون النتيجة ركنهم على جنب لتستمر السياسة دونهم، ويظلون في حالة دفاع عن وجودهم الأدنى كبشر محرومين من حقوقهم في المشاركة.
من المستفيد من ذلك؟ هنا نجد أنفسنا مضطرين لقول لا نشك في صحته: منظومات الحكم في الأقطار العربية تتوافق بشكل كلي في إقصاء الإسلاميين مع مطلب الدول الغربية التي تحارب الإسلاميين في بلدانهم، ويتضح الأمر أكثر في حالة المستعمرات الفرنسية السابقة، التي لا تخفي فيها فرنسا عداءها المطلق للحركات الإسلامية وللإسلام عامة (وهي تقود حربًا أوروبية غربية على هذه الجبهة). وقد زادت حرب الطوفان في توضيح الصورة، فالحرب تشن في غزة على حركة حماس بصفتها حربًا على إسلاميين أكثر من كونها على حركة تحرير.
حرب شاملة وعامة وطويلة ودموية تجري منذ الخمسينيات حتى الآن، والأغرب أنها تجري تحت مسمّيات بناء الديمقراطية في الأقطار العربية. والنتيجة؟ إسلاميون معذّبون في الأرض، وديمقراطية مثيرة للشفقة بل للقرف.
الصورة الأخيرة من المشهد التونسي
مشهد انتخابي يتحمّس له كثيرون، حتى أن الداعين للمقاطعة مرتبكون أمام حماس الطبقة السياسية. لكن في غياب كلّي للإسلاميين يبدو المشهد مثلومًا ثلمًا كبيرًا. حزب النهضة الإسلامي ممنوع من الحركة وبغير حكم قضائي، أُغلقت مقراته المركزية والمحلية، ووُضعت قيادات الصف الأول في السجون من دون اتهامات، بما عطّل ماكينة الحزب وشتّت كتلته الناخبة.
فكان قرار الصمت التام عن الترشيح وعن التزكيات، ونراه يقاطع انتخابات لا تعد بأي تغيير. ولكن السؤال الجوهري لم يطرحه أحد، ولا نراه يطرح علنًا ماذا بقي في الساحة السياسة من قوة فاعلة بعد تغييب الإسلاميين، أو بصيغة أقل تعقيدًا هل ربح الديمقراطيون الذين أقصوا الإسلاميين شيئًا من فعلهم الإقصائي؟
لقد انكشف الديمقراطيون بكل أطيافهم كجماعات سياسية صغيرة جدًّا قائمة على زعامات فردية بلا جمهور، فأكثرهم شعبية لا يجمع مظاهرة بـ 100 شخص، وهم يرون جمهور حزب النهضة المحايد ويحرضونه على معارضة في الشارع، لكنهم لا يجدون الشجاعة للحديث معه كشريك صاحب حق، بل يغازلونه كوسيلة نقل مجانية إلى بغيتهم. وهنا ينكشفون أكثر كقوى استئصالية لا تؤمن بحق الناس في الاختيار إلا إذا اختاروهم، بما يضرب العملية الديمقراطية في العمق.
انتخابات تونس في عام 2024 لن تكون انتخابات ديمقراطية، لا لأن المنقلب يصرّ على خوض السباق وحيدًا، بل لأن المشهد برمّته مطعون بعقل استئصالي، وما يفعله المنقلب هو الاستفادة دون دفع أي ثمن من إقصاء الإسلاميين، المنافس الحقيقي الذي يملك الشارع أو يمكنه أن يزن في الصندوق.
نختصر، لقد تمّ منع الإسلاميين من الوجود ومن المشاركة، فانعدمت فرص تطوير الديمقراطية، ونعمّم النتيجة بلا عناء على مصر وتونس وليبيا والجزائر والمغرب، ونرى المستفيد الأول من كل ذلك أنه الغرب الاستعماري قبل النخب المحلية التي تمارس الاستئصال بالوكالة منذ 70 عامًا.