أكد القضاء المغربي ما ترقبه زعيم “حراك الريف” ناصر الزفزافي الذي استرشد بالوعي الذي كونه وهو يقود حركة تاريخية جذرية، حين قال: “سيراهنون على الوقت ليضعف الحراك فينقضوا على قادته ويحكمون عليهم بـ30 و40 سنة ليكونوا عبرة للآخرين، احكم بما شئت، سلاحنا التضامن، ونحن مستمرون فيما بدأه الأجداد”.
منذ أن اندفع الحراك كمارد من عدم عقب سحق محسن فكري حتى الموت، اعتقلت السلطات أكثر من 500 من النشطاء، ووجهت لهم تهمًا تبدأ من المشاركة في مظاهرة غير مرخصة وتنتهي بالمس بأمن الدولة وعقوبته الإعدام.
وكما استشرف ناصر الذي سيحكم بـ20 سنة سجنًا، قضت محكمة الاستئناف في الدار البيضاء ليلة الثلاثاء 26 من يونيو/حزيران ضد أكثر من 50 من قادة الحراك بأحكام تراوحت بين عام و20 عامًا (20 عامًا لـ4 معتقلين و15 عامًا لـ3 معتقلين و10 أعوام لـ5 معتقلين و5 أعوام ضد 12 معتقلًا وعامان ضد 21 معتقلًا وعام واحد لمعتقليْن).
عين الحاكم رأت فيهم شبح المقاومين “الأجداد”، كما يسميهم الزفزافي، لأن الريفيين المحتجين (2016) وصلوا حركتهم بتاريخ المقاومة وبـ”المرحلة الانتقالية” (1955 – 1960) كما أسماها الفرنسيون
أكدت النيابة العامة صك الاتهام بعد سنة من الجلسات: “التآمر من أجل المس بأمن الدولة وتلقي أموال من أشخاص في الخارج ينشطون ضمن حركة تسعى لفصل الريف عن المغرب”، استنكر كثيرون قساوة الأحكام، حتى إن مسؤولين في أحزاب سلطوية تمنوا أحكامًا أخف، وهل يعقل أن نتوقع أحكامًا مخففة في معركة قاسية؟ إن قادة الحراك المعتقلين لم يكونوا موهومين، وقد ترافعوا ضد الدولة وقدموا دفوعات سياسية وتاريخية ومنطقية تبث الهوية الوطنية والتاريخية والثقافية لحركتهم، فأي عدم هذا الذي خرج منه هؤلاء الرجال؟
هناك مجهودات نظرية بذلها راناجيت جوها (Ranajit Guha) وآخرون في إطار مجموعة دراسات التابعين (Subaltern Studies) قد تفيد في تطوير الفهم الخفيف الرائج لهوية المعتقلين ومرجعية الحراك، فقد بينوا دور التابعين (تطويرًا لمفهوم غرامشي) في صناعة تاريخ الهند منتقدين القيادات القومية والوطنية (غاندي، نهرو…)، وفصلوا بين رأس المال والحداثة فصاغوا مفهومًا آخر للتاريخ والأمة يرتكز على الصناع الفعليين للهوية الوطنية ممن قاوموا الاستعمار بالسلاح، وسلطوا الضوء على القمع الذي مارسته الحركة الوطنية ضد الفلاحين الهنود.
ونجد في قراءة أولى أن الريفيين، وبصورة عمياء، قاموا في حركتهم بدور التابعين في استعادة التاريخ الآخر الذي صنعه أجدادهم، وقطعوا مع الإستراتيجية الوطنية التي بنيت على وحدة الاستبداد، وطالبوا بتاريخ المقاومة الذي صنعه الفدائيون الذين قمعهم المستعمر والتيار الوطني الغالب على السواء، وطرحوا السؤال بشأن مفهومنا للأمة وحقيقة هذه الدولة والاستقلال نلناه.
لكل ذلك لم تخطئهم عين الحاكم فرأت فيهم شبح المقاومين “الأجداد”، كما يسميهم الزفزافي، لأن الريفيين المحتجين (2016) وصلوا حركتهم بتاريخ المقاومة وبـ”المرحلة الانتقالية” (1955 – 1960) كما سماها الفرنسيون، بمرجعية تمتح من التاريخ المحلي لشمال إفريقيا، وأعادوا صياغة مطالب حركة الريف السابقة (1958) التي جابهتها السلطة المركزية بالحديد والنار والقصف، رافعين علم جمهورية الريف (1921 – 1926) وصور عبد الكريم الخطابي قائد أنجح وأقوى حركات التحرر في القرن الـ20، كما أوقف ناصر خطيب جمعة هاجم الحراك من على المنبر.
لم يختنق حراك الريف بالمسألة الدستورية كما وقع مع الأحزاب الوطنية والديمقراطية، لأنه لا ينتمي لتقاليد الحركة الوطنية المتمركزة جغرافيًّا وسط البلاد وسياسيًا حول السلطة
وتبين هذه المؤشرات عمق هذه الحركة وتساءل مضامين ثوابت النظام السياسي بشأن الدين والمجال والحكم، وشعار المملكة “الله الوطن الملك” الذي رفعه حزب الاستقلال في مؤتمره الأول (1944)؛ وهو الحزب الذي أطر الحركة الوطنية المغربية نظريًا وسياسيًا، ووضع مرجعيات الإصلاح السياسي والدستوري وأسس مقومات النظام الذي يختلط فيه الوطن والدولة والسلطة.
لم يختنق حراك الريف بالمسألة الدستورية كما وقع مع الأحزاب الوطنية والديمقراطية، لأنه لا ينتمي لتقاليد الحركة الوطنية المتمركزة جغرافيًا وسط البلاد وسياسيًا حول السلطة، فقد بقي مسار الريف والأطلس والجنوب المغربي حيث انبثقت أقوى حركات المقاومة المسلحة خارج مسار التسوية مع الاستعمار والملكية ومتطلبات بناء النظام السياسي المركزي.
إن “حراك الجهات” الذي انبثق بعد تراجع “الربيع” استعاض عن قاموس الإعلام المهيج بحقل دلالي ثقافي محلي شمال إفريقي، فصهر محصلات الحركات الاجتماعية والسياسية التاريخية في خطابه ورموزه، فلم تؤثر فيه أي إجراءات أو وعود أو خطابات أو تحالفات أو انسحابات، كما وقع مع حركة 20 من فبراير/شباط التي يبقى لها فضل إغناء ذخيرته، وقد وجه زخْم “حراك الريف” بكل هذا العنف لأنه يطرح مهام وطنية تاريخية لم تنجز بعد.