ترجمة وتحرير: نون بوست
نادرًا ما شهدت زيارة رئيس دولة استقبالًا عدائيًا كما حدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عندما وصل إلى واشنطن الشهر الماضي لإلقاء كلمة أمام جلسة مشتركة للكونغرس. فقد غاب كبار المسؤولين الأمريكيين عن استقباله في المطار بينما خرج الآلاف إلى الشوارع احتجاجا على خطابه، بما في ذلك 200 متظاهر من منظمة “صوت اليهود من أجل السلام” الذين تم اعتقالهم أثناء تطويقهم لمبنى الكابيتول. كما قام آخرون بحرق دمية له واستبدال العلم الأمريكي الذي كان يرفرف أمام محطة الاتحاد بعلم فلسطين.
ومن الدلالات البارزة أن حوالي نصف الديمقراطيين في الكونغرس قرروا مقاطعة خطاب نتنياهو تمامًا. وأشار بيتر فراي، رئيس مجلس إدارة “جي ستريت”، وهي جماعة ضغط يهودية تدعم الأمن الإسرائيلي والدولة الفلسطينية، إلى أن “ذلك كان غير وارد قبل اثني عشر عامًا”. ومن بين الحضور، ارتدت النائب رشيدة طليب الكوفية ورفعت لافتة تصف نتنياهو بـ “مجرم الحرب” و”مذنب بارتكاب إبادة جماعية”.
في الوقت نفسه، أرسلت عدة نقابات عمالية، بما في ذلك الرابطة الوطنية للتعليم، والاتحاد الدولي لموظفي الخدمات، وعمال السيارات المتحدين، رسالة إلى جو بايدن تطالبه بإنهاء الدعم الأمريكي للحرب الإسرائيلية على غزة.
وتُظهر استطلاعات الرأي أن حوالي 70 بالمئة من الديمقراطيين و35 بالمئة من الجمهوريين يؤيّدون فرض شروط على المساعدات العسكرية لـ”إسرائيل”. ومع مرور الوقت، يبدو أن الفجوة بين تطلعات الناخبين وما تفعله إدارة بايدن تتسع. ومن بين النتائج المترتبة عن ذلك تآكل ثقة المواطنين المتزعزعة بالفعل في حكومتهم بشكل مستمر.
وقال فراي: “إنها معركة من أجل روح النظام السياسي في هذه القضية. وهي تجري في الوقت الفعلي أمامنا، وهذا ليس صحيًا. إنه ليس جيدًا لإسرائيل”. وأوضح فراي أنه رغم اهتمام الأمريكيين بالسياسة الخارجية، “على المدى الطويل، قد يقوض ذلك الثقة في النظام السياسي”.
تآكل الإجماع
سيظهر هذا التنافر الأسبوع المقبل في المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي حيث يخطط مؤيّدو حقوق الإنسان الفلسطيني للضغط على الحزب لإدراج الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار وحظر الأسلحة على “إسرائيل” كأولويات في برنامجه الانتخابي. وقالت ليلى العابد، الناشطة في الحركة الوطنية غير الملتزمة وشقيقة النائب رشيدة طليب، في دعوة تنظيمية أجريت مؤخرًا: “هذا ليس مجرد موقف سياسي، بل هو واجب أخلاقي”.
رغم صعوبة الأمر، يبدو أنه في متناول اليد بالنسبة للكثيرين في الحركة. قبل أشهر من أداء بايدن الكارثي في المناظرة وقبل حدوث الانقسامات الكبيرة وقبل ظهور نانسي بيلوسي في برنامج “مورنينغ جو“، تلقى الترشيح أول ضربة كبيرة من هؤلاء النشطاء أنفسهم.
من خلال إقناع أكثر من 100 ألف ديمقراطي في ميشيغان بالتصويت في الانتخابات التمهيدية لصالح المرشحين “غير الملتزمين”، بدلاً من دعم المرشح الذي اعتقدوا أنه يمكّن من حدوث إبادة جماعية، بعثوا برسالة قوية إلى المؤسسة الديمقراطية: وهي أن إحدى الولايات المتأرجحة الأكثر أهمية في انتخابات 2024 في خطر.
وفي نهاية المطاف، سيصوّت أكثر من 700 ألف ناخب في الانتخابات التمهيدية في 23 ولاية بنفس الطريقة – وهي إشارة إلى أن دعم أفعال “إسرائيل” في غزة قد يصبح عبئًا سياسيًا على الديمقراطيين الوسطيين، كما حدث مؤخرًا لنظرائهم في فرنسا والمملكة المتحدة. ونظرًا لأدائها القوي، فازت المجموعة بـ 30 مندوبًا في المؤتمر الوطني الديمقراطي.
قدّم التصويت الاحتجاجي دليلًا إضافيًا على أن الدعم طويل الأمد لـ”إسرائيل” يتراجع بسرعة، لا سيما بين الليبراليين. وهذا دليل آخر على أن الصراع الوحشي المستمر منذ 10 أشهر، والذي لا يظهر أي بوادر على الانتهاء بل قد يتصاعد إلى حرب إقليمية شاملة، يترك أثرًا عميقًا.
بالإضافة إلى مقتل أكثر من 40 ألف فلسطيني (وربما أكثر من ذلك بشكل غير مباشر)، وتشريد الملايين وتدمير أكثر من نصف مباني المنطقة، يبدو أن حرب غزة قد أضرت – وربما بشكل لا يمكن إصلاحه – بـ “العلاقة الخاصة” التي تربط “إسرائيل” بأهم داعميها.
إصرار بايدن على دعم العدوان رغم فشله الواضح في تحقيق أهدافه المعلنة مثل تدمير حماس وتحرير الرهائن، لم يهدد فقط وحدة التحالف الديمقراطي بل أذكى أيضًا انقسامًا حادًا بين الأجيال، حيث يُظهر الأمريكيون الأصغر سنًا دعمًا للقضية الفلسطينية بمعدل يقارب ضعف آبائهم، مما أدى إلى تصاعد الخلافات بين الأجيال، لا سيما داخل العائلات اليهودية.
وقد انعكس ذلك في توترات شديدة داخل الجامعات، حيث دفعت الاحتجاجات السلمية في الغالب إلى ردود فعل قمعية من قبل المؤسسات الأكاديمية التي يُفترض أنها تكرس نفسها للتفكير النقدي والتساؤل الحر. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن هذا الوضع جعل العديد من الأمريكيين يتساءلون عن مدى التزام بلادهم بحرية التعبير وحقوق الإنسان وسيادة القانون، باختصار، عما تمثله أمريكا حقًا.
لقد نضج النفاق
ومن بين الأكثر قلقًا بشأن الديناميكية الجديدة هم الطلاب اليهود من ذوي الميول اليسارية الذين لا يزال الكثير منهم يحتفظ بولاء عميق لـ”إسرائيل” رغم انتقادهم لسياساتها الحالية. يجد هؤلاء الطلاب أنفسهم في عزلة متزايدة عن حلفائهم السياسيين السابقين.
ومع أنهم يشعرون بالانزعاج من الخطاب الحاد الذي يُطرح أحيانًا في بعض الاحتجاجات التي يدعمونها، إلا أنهم يشعرون بالاستياء من جهود الجماعات المؤيدة لـ”إسرائيل” والسياسيين في المؤسسة السياسية وإدارات الجامعات، الذين يسعون لوصم جميع المظاهرات المناهضة للحرب بأنها معادية للسامية.
قالت لورين هينز، طالبة في سنتها الأخيرة بجامعة ميشيغان والرئيسة السابقة لجناح جي ستريت يو في الحرم الجامعي: “أعتبر نفسي تقدمية. إن رؤية الصور وسماع ما يحدث في غزة يوميًا يؤرقني، خصوصًا عندما أعلم أن أموال ضرائبي تساهم في ذلك، ولكنني أشعر بخيبة أمل كبيرة تجاه بعض تكتيكات اليسار.
هناك هذه الثنائية الزائفة: إما أن تكون معنا أو ضدنا”. وأضافت: “أنا أؤيد الشعب الفلسطيني وأؤمن بأنه يمكن بالتأكيد النضال من أجل تحقيق العدالة لهم دون اللجوء إلى الخطاب الاستقطابي الضار، مثل الادعاء بأن جميع الصهاينة أشرار أو مهاجمة المؤسسات اليهودية لمجرد ارتباطها بإسرائيل”.
مع ذلك، تدين هينز القمع العنيف للمظاهرات المؤيدة لفلسطين: “إن العنف المفرط الذي تمارسه الشرطة في الجامعات مثير للاشمئزاز تمامًا، حتى لو كنت أختلف مع المتظاهرين في بعض النقاط”.
شعر الروائي عمر العقاد بالانزعاج ذاته من القمع العنيف للمظاهرات، وعلق قائلاً: “عندما نظرت إلى هذه الاحتجاجات في الحرم الجامعي، رأيت واحدة من أكثر التحالفات البشرية تنوعًا التي شاهدتها في أي سياق داخل الولايات المتحدة. وكان رد فعل مديري الجامعات وعدد كبير من السياسيين متناقضًا مع كل مبدأ أساسي يجعل الولايات المتحدة أحيانًا تبدو كمجتمع استثنائي”.
في الوقت الذي يبدو فيه المحافظون غير متأثرين بالدمار في غزة، حتى أن ترامب نصح “إسرائيل” بـ”إنهاء الأمر”، يبقى العديد من الأمريكيين متمسكين بشدة بفكرة أن بلادهم تمثل منارة للحرية والكرامة الإنسانية. يرى مايكل بارنيت، أستاذ الشؤون الدولية والعلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن، أن ما يثير قلق الجيل الشاب ليس فقط الدعم الأمريكي للهجوم على غزة، بل ما يكشفه هذا الدعم عن دور البلاد في العالم.
وقال: “إنها فكرة السياسة الخارجية الأمريكية غير الأخلاقية – هناك شيء ما غير أخلاقي بشكل عميق”. وتابع بارنيت أن إدانة العدوان الروسي في أوكرانيا بينما تمنح إسرائيل ما يشبه التفويض المطلق لمحو فلسطين يبرز تناقضًا صارخًا. “النفاق بات واضحًا، والشباب يدركون ذلك”.
في شباط/ فبراير المقبل، سيصدر عمر العقاد، المعروف بروايته “الحرب الأمريكية” التي نُشرت سنة 2017، كتابًا غير روائي جديد بعنوان “يومًا ما سيكون الجميع دائمًا ضد هذا”. ويتناول الكتاب اللامبالاة الواسعة تجاه أهوال غزة. وقد عبّر العقاد عن إعجابه في فترة نشأته في مصر وقطر بالولايات المتحدة معتبرًا إياها “مكانًا تتجسد فيه مبادئ العدالة المتساوية والإنصاف بموجب القانون”، لكنه الآن يشهد تجاهل معظم قادة القوى العظمى في الغرب لما وصفه بـ”الإبادة الجماعية” ويشعر بعدم اليقين حيال تلك المبادئ التي كان يؤمن بها.
وكلما طال أمد الحرب، ازداد القلق بشأن التواطؤ الأمريكي. ويقول فراي: “أعتقد أن الجميع يشعرون بذلك بطريقة ما، سواء كانوا سياسيين أو أفرادًا عاديين، يهودًا أو غير يهود. إنه وضع غير مريح للغاية، ويستمر لأن الحرب مستمرة للأسف، والقصص التي تتوالى تواصل تعزيز هذا الشعور”.
ومن غير المؤكد ما إذا كانت إدارة كامالا هاريس المحتملة ستغير مسارها. وقد ابتهج بعض المراقبين بمحادثة هاريس الصارمة مع نتنياهو، كما ورد، وقرارها باختيار تيم والز بدلًا من جوش شابيرو، الذي أثار دعمه لإسرائيل وتنديده بالمتظاهرين المناهضين للحرب غضب التقدميين.
ومرة أخرى، هناك مجال للشك في أن نائب الرئيس ستغير سياسة الولايات المتحدة بشكل كبير. فبعد تداول تقارير عن موافقتها على الاجتماع مع مندوبين غير ملتزمين لمناقشة حظر الأسلحة، أوضح مستشارها للأمن القومي فيل غوردون موقفها. وكتب أن نائب الرئيس “ستضمن دائمًا قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها ضد إيران والجماعات الإرهابية المدعومة من إيران. وهي لا تدعم فرض حظر أسلحة على إسرائيل. وستواصل العمل على حماية المدنيين في غزة ودعم القانون الإنساني الدولي”.
ومع استمرار “إسرائيل” في عدوانها وإبادة غزة وقتلها للمدنيين والمقاتلين على حد سواء بالأسلحة التي توفرها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن مثل هذه المراوغات تصدم العديد من الأمريكيين باعتبارها جوفاء للغاية. ومع توافد الآلاف من المتظاهرين المناهضين للحرب على شيكاغو للاحتجاج على المؤتمر الوطني الديمقراطي، وعشرات المندوبين غير الملتزمين الذين سيقدمون قضيتهم داخل القاعة، فإن مسألة دور أمريكا فيما وصفه العديد من الخبراء بالإبادة الجماعية ستحتل مكانة بارزة في المؤتمر.
سيكون لإجابة هاريس تداعيات بعيدة المدى – ليس فقط على ترشيحها واحتمالات السلام في الشرق الأوسط والمدنيين المحاصرين الذين يفرون من “منطقة آمنة” إلى أخرى بينما تنفجر القنابل من حولهم، وإنما على مكانة الولايات المتحدة العالمية وإيمان مواطنيها بسمعتها كقوة للخير في العالم.
المصدر: الغارديان