عرف الإنسان فيروس جدري القرود لأول مرة عام 1958، عندما لوحظ أن قرود الأبحاث في كوبنهاغن بالدنمارك مصابة بمرض “شبيه بالجدري” في القولون، وأظهرت هذه القرود آفات جلدية تذكِّر بجدري الماء لدى البشر، ومن هنا جاء الاسم الأصلي “جدري القرود”.
ومع ذلك، لا يُعتقد أن القرود هي الناقل الرئيسي أو الحامل للمرض، لكن يبدو أنه ينتشر على نطاق واسع بين بعض القوارض في الغابات المطيرة في حوض الكونغو وسط أفريقيا، واُكتشفت أول حالة إصابة لدى البشر بالفيروس لصبي يبلغ من العمر 9 أشهر في جمهورية الكونغو الديمقراطية عام 1970.
هناك نوعان من فيروس جدري القرود: “السلالة 1″ تُعرف باسم سلالة حوض الكونغو، وهي غالبًا الأكثر فتكًا والمتوطّنة في وسط أفريقيا لعقود من الزمان، وتسبّب مرضًا أكثر شدة ومعدل وفيات مرتفعًا؛ و”السلالة 2” تُدعى سلالة غرب أفريقيا، وهي أقل خطورة بكثير، لكنها أسرع انتشارًا، فقد تسبّبت في تفشّي المرض قبل عامين مع معدل وفيات يقلّ عن 1%.
في يوليو/ تموز 2022، تسبّب فيروس جدري القرود في إعلانه كحالة طوارئ صحية عالمية من قبل منظمة الصحة العالمية للمرة الأولى، بعد تفشيه على نطاق واسع خارج وسط وغرب أفريقيا في أكثر من 100 دولة لم تبلِّغ سابقًا عن المرض المرتبط بالجدري، بما في ذلك الولايات المتحدة وأستراليا والعديد من الدول الأوروبية، وأصاب أكثر من 100 ألف شخص، وأودى بحياة المئات، وكان سبب تفشي هذا المرض هو السلالة الثانية الأخف وطأة، والتي نادرًا ما تكون قاتلة.
بعد 10 أشهر، أنهت منظمة الصحة العالمية حالة الطوارئ بعد تحسُّن الوضع الوبائي بشكل كبير، لكنها قررت تغيير الاسم الأصلي للمرض الحيواني الذي يعود تاريخه إلى عقود من الزمان إلى “إمبوكس (Mpox)”، بسبب المخاوف التي أُثيرت بأن مصطلح جدري القرود يساهم في اللغة العنصرية والوصمة، خاصة في سياق تفشي المرض العالمي آنذاك.
وأبرزت المنظمة أن استخدام المصطلح الأصلي يمكن أن يعزز الصور النمطية الضارّة، خاصة أن مستودع المرض (الحيوان الذي يستضيف العدوى) يوجد بشكل أكثر شيوعًا في القوارض الصغيرة (مثل السناجب) وليس القرود.
ورغم أن منظمة الصحة العالمية أطلقت أسماء على العديد من الأمراض الجديدة بعد فترة وجيزة من ظهورها، بما في ذلك المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس)، وهو مرض تنفسي فيروسي من أصل حيواني المنشأ، يبدو أن هذه هي المرة الأولى التي تحاول فيها المنظمة التخلص التدريجي من اسم مرض بعد عقود من تسميته لأول مرة، بدعوى أن الاسم الجديد أكثر قابلية للاستخدام عبر لغات مختلفة، ويتجنّب الإشارات الجغرافية والحيوانية وأقل عرضة لسوء التفسير.
تمّت تسمية العديد من الأمراض الأخرى، بما في ذلك التهاب الدماغ الياباني الذي تنقله بعوضة الكيولكس من الخيول والخنازير المصابة بالمرض إلى الإنسان، والحصبة الألمانية، وفيروس ماربورغ شديد الضراوة، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، على اسم مناطق جغرافية، والتي يمكن اعتبارها الآن متحيزة، لكن منظمة الصحة العالمية لم تقترح تغيير أي من هذه الأسماء إلى أسماء جديدة واضحة ومحايدة قدر الإمكان.
باختصار، يُعرف جدري القرود باسم “إمبوكس”، وهو مرض فيروسي مُعدٍ يمكن أن يتسبّب في حدوث طفح جلدي مؤلم يتطور عبر عدة مراحل، بما في ذلك الجرب قبل الشفاء، ويبدأ من الوجه ثم ينتشر إلى أجزاء أخرى من الجسم مثل راحة اليدين وباطن القدمين، ويتعافى معظم الناس منه لكن البعض يصابون بمرض شديد.
وأظهرت الدراسات التي اُجريت على فيروس جدري القرود أن أعراضه عادةً ما تكون أشبه بأعراض الإنفلونزا، والتي تميل إلى الظهور عادةً في غضون أسبوع إلى 3 أسابيع بعد الإصابة، لكن أوضح وأشد أعراضه هو ظهور بثور مليئة بالقيح وآفات مؤلمة في جميع أنحاء الجسم، وبينما يتعافى معظم الناس إلا أن أولئك الذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة يواجهون خطرًا أعلى، مع معدل وفيات يبلغ حوالي 4%.
وعادةً ما يكون للجدري أعراض أولية خفيفة، مثل ارتفاع درجة حرارة الجسم والتهاب الحلق والتوعُّك والإرهاق وتضخم في الغدد الليمفاوية، بالإضافة إلى قشعريرة وصداع وألم شديد في الظهر والعضلات، وهذا هو السبب في أنه يمكن أن يمرَّ دون حدوث مضاعفات، وفي حالة حدوثها يتلقى المرضى علاجًا متخصصًا، وغالبًا ما تختفي الأعراض بين أسبوعين و4 أسابيع إذا التزم المريض بالعزل وتلقي العلاج.
وبالمقارنة بين فيروسي كورونا وجدري القرود، يتبيّن أن كوفيد-19 فيروس تاجي قادر على الانتشار والتحور، على عكس فيروس جدري القرود المغلق، وفقًا للجمعية الأمريكية لعلم الأحياء الدقيقة.
وتلعب طريقة العدوى دورًا هامًا، فكوفيد-19 هو فيروس تنفسي ينتقل في الهواء بسرعة ما يجعل السيطرة عليه أصعب، أما آليات الانتقال بالنسبة إلى فيروس الجدري فتحدث بطرق مباشرة عبر المخالطة عن قرب، ومنها التلامس الجلدي أو التنفس عن قرب، أو ينتقل بشكل غير مباشر عن طريق الاقتراب من شخص مريض أو ملامسة أغراض ملوثة بإفرازاته مثل الفراش والملابس، وفقًا لمعهد باستور المختص بدراسة علم الأحياء والميكروبات والأمراض واللقاحات في باريس.
ومثل إنفلونزا الطيور وفيروس كورونا، فإن جدري القرود مرض يمكن أن ينتقل من خلال الاتصال الوثيق بالحيوانات المصابة مثل القرود والجرذان، لكنه ينتشر أيضًا بين البشر، لا سيما عبر الاتصال الجسدي المباشر، ويمكن أن ينتشر أيضًا من النساء الحوامل إلى أجنتهن عن طريق المشمية أو بعد الولادة في المخالطة اللصيقة، وللوقاية من العدوى يجب البقاء في المنزل وغسل وتعقيم اليدين وتجنُّب ملامسة الحيوانات، وعزل المرضى المصابين وارتداء الكمامة.
وخلال تفشي الفيروس على مستوى العالم خارج أفريقيا عام 2022، شكّل الرجال المثليون ومزدوجَي الميل الجنسي الغالبية العظمى من الحالات، وانتشر في الغالب من خلال الاتصال الوثيق، بما في ذلك الجنس، ويعتقد العلماء أن جدري القرود تسبّب في تفشي المرض في الدول الغربية، بعد انتشاره عن طريق الجنس في حفلتَين راقصتَين في بلجيكا وإسبانيا.
سلالة جديدة أكثر فتكًا
بعد سنتَين من موجة إصابات أولى، عاد فيروس جدري القرود للتفشي من الكونغو التي تمّ إعلانها هذه المرة كمركز للوباء، إلى دول مجاورة أخرى لم تتأثر بالوباء من قبل، بما في ذلك رواندا وبوروندي وكينيا وأوغندا وجمهورية أفريقيا الوسطى، واضعًا أفريقيا على حافة الهاوية، ما استدعى المركز الأفريقي لمكافحة الأمراض والوقاية منها إلى إعلان أن الفيروس يشكّل حالة طوارئ صحية عامة في القارة، بسبب ارتفاع عدد الحالات في الكونغو وعدد متزايد من بلدان القارة.
في اليوم التالي، ووسط مخاوف من أن يتحول إلى وباء عالمي، أعلنت منظمة الصحة العالمية الوباء حالة طوارئ صحية عامة تثير قلقًا دوليًا للمرة الثانية خلال عامَين، وهي أعلى مستوى من الإنذار والتأهُّب بموجب القانون الصحي الدولي، يمكنها تسريع نشاط البحث والتمويل والتدابير الصحية والدولية العامة، والتعاون لاحتواء تفشي المرض بدول أفريقية بعد ظهور سلالة جديدة منه في شرق الكونغو، تنتشر بسرعة في جميع أنحاء أفريقيا التي تحارب مرض شديد العدوى.
ورغم أن السلالة الأخف وطأة تسبّبت في تفشي المرض العالمي عام 2022، وإعلانه تهديدًا عالميًا كأول مرض بعد كوفيد-19، عاد الفيروس هذه المرة بنوع أقوى، حيث نشهد اليوم انتشار السلالة المتحورة الجديدة الأكثر خطورة، والتي تسبّبت في تفشي المرض بشكل كبير في أفريقيا، والآن تمّ اكتشافها لأول مرة خارج القارة في بلدان لم تتأثر بالفيروس من قبل على الرغم من شدته.
“إنها سلالة جديدة أكثر فتكًا وأكثر قابلية للانتقال من غيرها”، هكذا عبّرت منظمة الصحة العالمية عن مخاوفها المتزايدة، فعدّاد الموتى الذي أحصى أرواح المئات في الكونغو الديمقراطية يأبى التوقف، مهاجمًا البشر بوجهَين مختلفَين في التسمية متقابلَين في الفتك.
تمّ اكتشاف النسخة الأكثر فتكًا من الفيروس، والتي تقتل ما يصل إلى 10% من المصابين، في الكونغو في أبريل/ نيسان الماضي، وتزيد الكثافة السكانية هناك مع السفر المتكرر عبر الحدود من هذا الخطر، ومع ذلك لم توصِ منظمة الصحة العالمية بفرض قيود على السفر، وتسعى للحصول على 15 مليون دولار من الولايات المتحدة لدعم جهود المراقبة والاستجابة.
ما يجعل الوضع أسوأ وفقًا للخبراء والباحثين هو السرعة التي ينتشر بها المتحور الأكثر خطورة، فقد أبلغت 16 دولة أفريقية عن زيادة سريعة في حالات الإصابة، بما في ذلك الكونغو التي لديها أكثر من 90% من الإصابات المسجّلة، لكن عدد حالات الإصابة المبلغ عنها حتى الساعة تجاوز 19 ألف حالة، بالإضافة إلى 517 حالة وفاة حتى الآن في القارة هذا العام وحده، وهي زيادة بنسبة 160% في الإصابات، وزيادة بنسبة 20% تقريبًا في عدد الوفيات، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
ينتشر المرض الفيروسي بسرعة، ويؤثر الآن على الأطفال دون سن 15 عامًا أكثر من أي وقت أيضًا، حيث يشكّلون الآن أكثر من 70% من حالات الإصابة و85% من الوفيات في الكونغو، ومع ذلك يقول الخبراء إن الوضع أسوأ من ذلك بكثير، وإن ما يحدث في أفريقيا ليس سوى قمة جبل الجليد، وإن الأدلة المتوفرة حول عدد الحالات وعدد الوفيات ليست سوى غيض من فيض، والسبب في ذلك أن جدري القرود في معظم الحالات حالة خفيفة تختفي من تلقاء نفسها، ولدى دول القارة مراقبة وقدرة محدودة على إجراء الاختبارات المطلوبة وتتبّع المخالطين والإبلاغ.
كما حذّر علماء الأوبئة من أنه كلما زاد انتقال الفيروس بين البشر، زاد خطر تحوره، ويبدو أن القلق بشأن إمكانية انتشار الفيروس بشكل أكبر داخل أفريقيا وخارجها أصبح واقعًا، فقد أصبحت كينيا الآن على وشك تجربة تفشي جديد، بعد الإبلاغ عن حالة سريعة من جدري القرود عند نقطة توقف تافيتا الحدودية مسافرًا من أوغندا إلى رواندا عبر كينيا، وفي نيجيريا تمّ تسجيل ما مجموعه 39 حالة مؤكدة من دون وفيات في 33 ولاية ومنطقة العاصمة الاتحادية منذ يناير/ كانون الثاني من هذا العام.
وتحذّر منظمة الصحة العالمية من أنه إذا لم يتم بذل المزيد من الجهود لوقف انتشار هذا المتحور الجديد، فإن العواقب ستنتشر إلى ما هو أبعد من أفريقيا، وهو ما بدأ في الحدوث بالفعل بعد أيام فقط من إعلان المنظمة حالة طوارئ صحية عالمية، استجابة لعودة ظهور الحالات في أفريقيا.
وانتقل جدري القرود من عمق الأدغال الأفريقية إلى الشوارع الباردة في أوروبا، وتحديدًا السويد، التي أكدت قبل أيام قليلة رصد أول إصابة خارج أفريقيا بالسلالة الأكثر عدوى من الجدري، وأفادت وكالة الصحة السويدية أن شخصًا يتلقى الرعاية في ستوكهولم تمّ تشخيص إصابته بالعدوى أثناء إقامته في منطقة في أفريقيا، حيث تتفشى بشكل كبير السلالة الجديدة من جدري القرود.
وتتوقع منظمة الصحة العالمية العثور على المزيد من حالات المتحور الخطير في أوروبا في الأيام المقبلة، ورفع المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض والسيطرة عليها مستوى التأهُّب للمخاطر، وقام بتحديث توصياته استجابة للسلالة الجديدة، وطلب من الدول الحفاظ على مستويات عالية من الوعي بين المسافرين الزائرين من المناطق المتضررة، ويمكن للقارات الأخرى، بما في ذلك أوروبا، أن تتوقع بعض الحالات أيضًا، حسب المركز الأوروبي.
لا حواجز للفيروس إذًا، فعدوى إحدى سلالاته تتفشى بمعدل مقلق كما تقول منظمة الصحة العالمية، وتظهر انتشارًا أوسع في آسيا، وتحديدًا باكستان التي سجّلت أول حالة إصابة -لم تُعرف على الفور- لأحد مواطنيها بالفيروس القاتل في إقليم خيبر بختونخوا بعد عودته من السعودية في وقت سابق من هذا الشهر، ما اضطرها إلى رفع حالة التأهُّب في مطاراتها.
كما أفاد المسؤولون الصحّيون الباكستانيون في وقت سابق أن 3 مصابين بالفيروس تم اكتشافهم في البلاد هذا الأسبوع عند وصولهم من الإمارات، التي سّجلت 16 حالة مؤكدة منذ عام 2022، ومع ذلك تراجعوا عن هذا البيان لاحقًا، في حين أعلنت الفلبين إصابة واحدة، واللافت أن الرجل المصاب ليس لديه تاريخ سفر خارج البلاد.
هكذا يُظهر جدري القرود كيف يمكن للأوبئة أن تجوب العالم بسرعة البرق من أفريقيا إلى أوروبا ثم إلى آسيا، ليفتح جدري القرود بذلك صفحة جديدة في معركة البشر ضد الأمراض المعدية، ويكشف عن تهديدات بيولوجية جديدة تعيد إلى الأذهان سيناريو جائحة كورونا.
ووسط قلق عالمي من انتشار سلالة جديدة مميتة اجتاحت أجزاء من أفريقيا، ووصلت حتى الآن إلى 26 دولة حول العالم، شرعت دول أخرى مثل الصين بتشديد عمليات فحص السلع والأشخاص القادمين من المناطق التي تم فيها اكتشاف السلالة الجديدة شديدة العدوى من المرض على مدى الأشهر الستة المقبلة.
معضلة اللقاحات
يثير الاستعداد لمواجهة الأوبئة المستقبلية وعلى رأسها جدري القرود، مخاوف المتخصصين في مجال الصحة، إذ اعتبروا أن الفشل في الاستجابة لجدري القرود يعرّض العالم للخطر وليس فقط القارة الأفريقية.
وأكد مختصون في برنامج الصحة العالمية، أن عدم التصدي لانتشار الفيروس الحالي قد يؤدي إلى زيادة انتشار متحورات جديدة وأكثر خطورة، فيما جاء إعلان حالات الطوارئ بمثابة فرصة حقيقية لمراقبة واختيار الاستجابة العالمية للأوبئة في حقبة ما بعد كورونا.
لكن المراقبة والاختبار ليسا المشكلتَين الوحيدتَين، إنما المعضلة الكبرى هي العلاج الممثل في الرعاية الطبية الصحية، وعدم تجاهل الأعراض واستخدام اللقاحات والعلاجات المطورة والمعتمدة لمواجهة المرض كما حدث في الأوبئة السابقة، لكن إذا تُرِك دون علاج يمكن أن يكون مميتًا حتى الآن.
ورغم وجود 3 لقاحات معتمَدة للأفراد المعرضين لخطر الإصابة بالفيروس حتى الآن، إلا أن الوصول إليها لا يزال محدودًا، خاصة في المناطق المتضررة بشدّة في أفريقيا، والتي لديها أنظمة رعاية صحية محدودة للغاية، والتي يؤثر المرض بشكل رئيسي فيها على الأشخاص الذين يتعاملون مع الحيوانات المصابة مثل القوارض والسناجب.
كما يواجه توفُّر اللقاحات على نطاق واسع في أفريقيا عددًا من التحديات، ففي حين تحتاج القارة إلى أكثر من 10 ملايين جرعة من اللقاح، فإن ما يوجد حاليًا 200 ألف جرعة فقط، لذلك الأشخاص المعرضون للخطر فقط أو أولئك الذين كانوا على اتصال وثيق بشخص مصاب هم عادة قادرون على تلقيها.
ونظرًا إلى ما حدث عند تفشي الوباء عام 2022، نجد أن أغلب الوفيات المرتبطة بجدري القرود كانت متركزة في أفريقيا، حيث لم تتوفر أي لقاحات تقريبًا، وفي الوقت نفسه نجحت جهود التطعيم في الدول الغنية في السيطرة على تفشي المرض بعد أن بلغ ذروته في الصيف، وانخفضت حالات الإصابة بعد حملة لتوصيل اللقاح.
وبعد 10 أشهر أنهت منظمة الصحة العالمية حالة الطوارئ، بعد تحسن الوضع الوبائي بشكل كبير، بينما استمر الفيروس في التحور مع تأخُّر توزيع اللقاحات بشدة في أجزاء من القارة الأفريقية.
لهذا، عبّرت منظمات أممية عن استيائها من الاستجابة للمرض، فمثلًا منظمة العدالة العالمية الآن قالت إن المرض موجود منذ سنوات في القارة الأفريقية، وأن الأدوية متوفرة لعلاجه لكن لم يتم اتخاذ أي إجراء جادّ، حتى شكّل التفشي الأخير تهديدًا للغرب، ووفقًا لمدير المنظمة نيك ديرين، فإن شركات الأدوية المتنافسة تواصل إعاقة الوصول العادل إلى اللقاحات سعيًا وراء أرباح أعلى.
ولا تزال العدوى المزعزعة للاستقرار من فيروس نقص المناعة البشرية إلى السل المقاوم للأدوية، تفرض عبئًا ثقيلًا على الأنظمة الطبية في جميع أنحاء العالم، ومع ذلك تصبّ الموارد في طريق الأمراض غير المعدية، وحتى في البلدان ذات الدخل المنخفض كان هناك زيادة في عبء الحالات الطويلة الأمد مثل مرض السكري وارتفاع ضغط الدم.
يسلط ذلك الضوء على ما يسمّى “فشل السوق”، حيث لا يتم تحفيز أنظمة الرعاية الصحية وشركات الأدوية على حدّ سواء للاستثمار في الوقاية من التهديدات المستقبلية للأمراض المعدية والاستعداد لها، ونتيجة لهذا تركز الشركات إلى حدّ كبير على الأدوية المتخصصة مثل علاجات السرطان التي تفرض أسعارًا مرتفعة، والتي يوجد عليها طلب واضح حاليًا.
دروس من زمن الأوبئة
بعد مرور قرن تقريبًا على جائحة الإنفلونزا الإسبانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، قدّم فيروس كورونا تذكيرًا صارخًا بمدى قلّة التغيير في الاستجابة للمرض، مع التركيز على تدابير مكافحة العدوى من خلال فرض قيود السفر والحجر الصحي والتباعُد الاجتماعي.
ورغم أن جائحة كورونا ربما لم تعد تشكّل حالة طوارئ صحية عامة عالمية، إلا أنها أظهرت أن أكثر من 8 مليارات شخص يحتاجون إلى حماية أفضل في حالات الطوارئ، ولا يزال يتعيّن على البلدان تعزيز الاستجابة للمرض والاستعداد للأوبئة المستقبلية والتهديدات الأخرى.
وعندما ظهر مرض فيروس الإيبولا في ليبيريا قبل ما يقرب من عقد من الزمان، كان هناك عدد قليل جدًا من الأدوات والدعم المتوفر لمكافحته، لذلك استغرق الأمر 9 أشهر كاملة قبل أن يستجيب نظام الأمم المتحدة بالكامل لإنهاء الإيبولا، لكن ليس قبل أن يقتل أكثر من 11 ألف شخص في غرب أفريقيا، بعد ذلك ما زالت القارة السمراء لا تملك لقاحات أو علاجات مرخّصة ولا التكنولوجيا لتطويرها.
وكان وباء الإيبولا في أفريقيا واحدًا فقط من بين نحو 10 أوبئة معدية جديدة حتى الآن في هذا القرن، كان من الممكن أن تؤدي إلى دمار عالمي واسع النطاق للصحة والاقتصاد، وقد تسبّبت سارس وميرس وزيكا والعديد من سلالات الإنفلونزا في إثارة القلق بين المتخصصين في مجال الصحة قبل أن تتلاشى.
وزادت بعض العوامل منذ ذلك الحين من احتمال ظهور وانتشار العدوى وتزايد خطر تفشي الأوبئة المعدية الجديدة، وخاصة تلك ذات الأصول الحيوانية، بشكل أكثر تواترًا، مع تفاقم آثار تغيُّر المناخ وإزالة الغابات ونقص المياه والتصنيع والتحضّر، ما جعل الناس والحياة البرية في اتصال ومنافسة أوثق.
وبعد بضع سنوات فقط من الإيبولا، اجتاح وباء كورونا الكوكب، ليكشف عن فجوات هائلة في أنظمة الرعاية الصحية، حيث لم تنسّق الحكومات بشكل كافٍ في الاستجابة، وتم إطلاق الأموال الدولية ببطء شديد، وإنتاج اللقاحات في وقت قياسي، لكن مواطني الدول النامية اضطروا إلى الانتظار في مؤخرة الصف، وحتى نهاية عام 2023 لم يتلقَّ ما يقرب من ثلث الأشخاص الذين يعيشون على هذا الكوكب جرعة واحدة من لقاح كورونا.
وفي مارس/ آذار 2022، قدّر تحليل لمجموعة العشرين أجرته منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي، الحاجة إلى تمويل خارجي إضافي بنحو 10 ملايين دولار سنويًا على مدى 5 سنوات، لتعزيز قدرة الوقاية من الأوبئة والاستعداد لها والاستجابة لها في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل.
ومع ذلك، ووفقًا لتقرير أصدره الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، وهو أكبر شبكة إنسانية في العالم، فإن العالم يظل “غير مستعد” للوباء التالي لكورونا، والذي قد يكون “قريبًا جدًا” بحسب التقرير، لكنه لم يعد قريبًا الآن بعد تفشي سلالة جديدة من فيروس جدري القرود، وتصنيفه في خانة الطارئة الصحية.