لا تزال حمى هدم وتجريف مقابر تاريخية في مصر مستمرة منذ عام 2020، مع بدء ما يقال إنها خطة لتطوير المدن الكبرى، عبر تشييد المزيد من الجسور والطرق السريعة التي تصل المدن والمناطق النائية ببعضها البعض. فيما تنتشر علامة (X) باللون الأحمر مع كلمة “إزالة” بين مقابر وشواهد ومآذن، تحمل نسق عمراني وبعد جمالي أثري، رغم كل الإهمال الذي تعرضت له لعشرات أو مئات السنين.
على سبيل المثال، وصل عدد المقابر التي طالها الهدم العام الماضي إلى 2700 مقبرة أثرية، جُرّفت لأجل بناء محاور مرورية جديدة، تصل بين القاهرة القديمة والعاصمة الإدارية الجديدة، بقرار صدر من محافظة القاهرة بعد وعود بأن يتم نقلها إلى مدن أخرى. كما تمت إزالة عدد غير معروف من المقابر التاريخية في شارع المعز، الذي يعد أكثر الأماكن التي بها آثار إسلامية بمختلف العصور.
وليس بالضرورة أن تكون مصريًا حتى يزعجك هذا التخريب المتعمد لتاريخ مصر العريق، إذ يؤلم كل خبر ضم أثرًا إلى قائمة الهدم كل من يراه، وهو ما تشهد به شبكات التواصل الاجتماعي، ومنشورات الباحثين والمهتمين، ومواقف عموم المهتمين المنددة بهذه الجريمة، وانعكاسها على مستقبل مصر ونظرة الأجيال الجديدة لتاريخهم وحاضرهم.
أضرحة دينية تم هدمها
تعد منطقة جبانات القاهرة التاريخية واحدة من أهم الأماكن التي تواجه آلة الهدم الجائرة، رغم رفع دعوى من قبل المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمطالبة بوقف أعمال الهدم في المنطقة. إذ تضم المنطقة مئات المقابر لشخصيات تاريخية دينية إسلامية معروفة، التي يعود تاريخها إلى القرن السابع الميلادي. لكن القضية المرفوعة قوبلت برفض القضاء الإداري بمجلس الدولة النظر فيها مما أحالها للنسيان، وأدى لهدم بعض أقدم القبور الإسلامية منها:
– هدم قبر الإمام عثمان بن سعيد، عام 2023، المعروف باسم “ورش”، ولا تزال قراءته سائدة في مصر والجزائر والمغرب وموريتانيا وغرب أفريقيا منذ 800 عام، والذي تنتهي أغلب البحوث إلى أنه ولد سنة 110 هجرية في بلدة قفط في الصعيد. إذ قال سيد علي حينها، وهو باحث مصري في التراث، إن المنطقة بأكملها كانت محاصرة أمنيًا مما جعل الوصول إليها مستحيل. كما أن الجرافات كانت تتحرك بسرعة رهيبة وكأنها في مهمة عاجلة لتنفيذ هدف ما يتعلق بكل القاهرة التاريخية القديمة.
– إزالة قبر قاضي القضاة العز بن عبد السلام الملقب بـ”سلطان العلماء وبائع الملوك وشيخ الإسلام”، وعدة قبور أخرى من جبانة الإمام الشافعي، فقد أعلنت أسرة الشافعي العريقة عن تلقيها بلاغ من السلطات ببدء هدم جزء من الجبانة في 9 مايو عام 2023. رغم أن هذه المقبرة الضخمة شيّدت عام 1260 وتعد الأغنى من حيث التراث الأثري. لكن السلطات استطاعت التنصل من مسؤوليتها التاريخية بالقول إن قبرين فقط من هذه الجبانة مسجلتين في التنسيق الحضاري كطراز معماري مميز، مما يجعلها تتمتع بالحماية من الإزالة، أما الباقي فغير مسجل.
جرف مقبرة عُتقاء الأمير إبراهيم حلمي نجل الخديوي إسماعيل، التي يرجع تاريخ تأسيسها إلى عام 1901، ضمن حملة هدم وإزالة مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة عام 2023، إذ قام الباحث المستقل في التراث، مصطفى الصادق، مع مجموعة من المهتمين بتراث المقابر بفك اللوحة التأسيسية للمقبرة التي تتميز بمبناها التراثي وتركيبتها النادرة، وتسلمها مندوب من وزارة الأوقاف، قبل أن تجهز البلدوزرات على المقبرة.
- مقبرة عتقاء الأمير إبراهيم حلمي أثناء هدمها
شواهد قامات ثقافية لم تعد موجودة
طالت قرارات الإزالة مقابر شخصيات ثقافية بارزة، من بينها:
قبر الشاعر الكبير محمود سامي البارودي، رائد مدرسة الإحياء والبعث في الشعر العربي ووزير الحربية، الموجود بمدافن السيدة نفيسة في القاهرة عام 2023، إذ جرى هدمه دون إخطار عائلته. ورغم منع السلطات من الوصول إلى منطقة المقابر بأكملها، إلا أنه جرى تسريب صور تفيد بأن المقبرة الوحيدة التي بقيت موجودة تعود للشاعر محمد رفعت وما تبقى هدم بالكامل.
- قبر الشاعر محمود سامي البارودي قبل هدمه
قبر الأديب يحيى حقي، وهو كاتب وروائي مصري من رواد القصة القصيرة، ولد في القاهرة وعمل فيها بالحقوق والسلك الدبلوماسي والصحافة حتى توفي. تلقت أسرته عام 2022 إنذارًا بإخلاء المقبرة التي تمتلكها الأسرة منذ نحو 100 عام لوجودها ضمن مشروع جديد ينفذ في المنطقة، على أن ينقل الرفات إلى مكان بديل في مدينة 15 مايو وهي واحدة من المدن الجديدة التي تبعد 35 كم عن القاهرة.
- المقبرة الوحيد المتبقية للشاعر محمد رفعت
قبر الشاعر حافظ إبراهيم، وقبة السياسي إسماعيل صدقي باشا، وأحواش الأعيان من بينها قبر أمير الشعراء أحمد شوقي، والمؤرخ عبد الرحمن الجبرتي.
شواهد وآثار نجت بفضل الرفض المجتمعي
حاولت السلطات المصرية هدم ونقل عدة شواهد قبور وآثار إسلامية من مكانها الأصلي إلى أماكن متفرقة مثل مدينة العاشر من رمضان وغيرها، لكنها فشلت في ذلك بعد حملات توقيع عرائض واستهجان شعبي وأكاديمي في مواقع التواصل الاجتماعي من بينها:
مئذنة الأمير قوصون الساقي التي تعود إلى العهد المملوكي، وتعد واحدة من أبرز المعالم الأثرية في القاهرة، نجحت من الهدم بعد أن أثار خبر ردمها استنكارًا واسعًا لأهميتها التاريخية بالنسبة لمنطقة القاهرة القديمة، مما أجبر السلطات على الإبقاء عليها وفكّ بعض الأجزاء من بنائها بحجة اكتشاف انحراف مائل في أساساتها.
قبر عميد الأدب العربي طه حسين، الذي تقرر وقف هدمه عام 2022، والاكتفاء بإنشاء جسر جوي يعبر من فوق المقبرة، بعد أن أثارت صورة لكلمة “إزالة” كتبت على جدران قبره، حفيظة مصريين وعرب في مواقع التواصل الإجتماعي، ودفعت عائلته للتهديد بنقل رفاته إلى بلد آخر، بالقول إن العائلة تفكر في نقل رفاته إلى بلد “تحترم سلام موتاها”.
- مئذنة قوصون الناصري الساقي
تجريف قصور وحدائق مميزة
هدم قصر أندراوس التاريخي، في مدينة الأقصر (جنوب مصر) عام 2021، والذي يعود تاريخ بنائه إلى سنة 1897، وبني خلف معبد الأقصر، مواجهًا لنهر النيل، واستضاف على مدار تاريخيه شخصيات مهمة عدة، من بينها الزعيم سعد زغلول أثناء ثورة 1919. فيما أكد مختصون في الآثار والتراث أنه كان من “الممكن ترميم القصر والحفاظ عليه بدلًا من هدمه”.
الحكومة المصرية بدأت النهاردة هدم قصر اندراوس باشا التاريخى بالأقصر اللى عمره 120 سنه من غير اى اسباب او مقدمات
بالمعدل ده قدامنا كام سنه كده وهيهد البلد كلها على دماغ اهلنا ويسيب بس المبانى العظيمة اللى من انشاء الهيئة الهندسية pic.twitter.com/TTwUuj2fcE
— Omar (@omarabd74) August 23, 2021
جرّفت السلطات المصرية أيضًا حدائق المنتزه التاريخية في مدينة الإسكندرية، والتي عرفت قديمًا بـ”درة معالم البحر المتوسط”، لما تحتويه على شواطئ رائعة، وأشجار نادرة ومعمرة، ومبان تاريخية فخمة؛ وقامت بتحويلها إلى مارينا لليخوت والقوارب البحرية الشخصية، بعائد ربحي يتبع لرئاسة الجمهورية مباشرة. حسب قرار جمهوري أصدره الرئيس السيسي برقم 481 لسنة 2020، يفيد بانتهاء تولي وزارة السياحة مسؤولية الإدارة. مع الإبقاء على المبنى التاريخي القديم للحديقة.
يصعب تحديد كم القبور والآثار التي هدمت أو نقلت من مكانها، نظرًا للسرية التامة التي تحظى فيها عمليات الحفر برعاية السلطات. ونتيجة لإغلاق مناطق واسعة يمنع الوصول إليها حتى من قبل المختصين والعاملين في وزارة السياحة. إذ حسب المعطيات المتوفرة، فإن عمليات الهدم تتم بإشراف من قبل إدارة محافظة القاهرة حصريًا. ودون إبلاغ ذووي القبور بشكل رسمي.