يسابق “الحراك الطلابي ضد التمييز” في بنغلاديش الزمن، لحماية ثورته التي أطاحت برئيسة الوزراء الشيخة حسينة من محاولات الانقلاب، ووأد أي ثورة مضادة محتملة، في ظل التخوفات من رغبة حزب رابطة عوامي الحاكم -سابقًا- في الرجوع إلى السلطة ولو بالدماء والاعتقالات التعسفية.
قبل أيام قليلة أطلق هذا الحراك ما أسماه “أسبوع المقاومة”، للتأكيد على مطالب الثورة ومواجهة أي محاولات للعودة إلى الخلف مرة أخرى، وذلك من خلال حزمة من الإجراءات التصعيدية التي تهدف إلى تحصين الثورة ومكتسباتها ضد أي مساعٍ من الداخل أو الخارج للانقلاب عليها.
وحتى الآن يبدو أن الشباب البنغالي يحاول قدر الإمكان الاستفادة من الثورات التي شهدتها بعض البلدان في العالم، خاصةً الربيع العربي، والتي تعرّضت لانتكاسات حادّة بسبب الرعونة في الحفاظ على مكتسباتها، وفتح الباب أمام معاول الهدم وقوى الدولة العميقة.
إجراءات عاجلة لحماية الثورة
منذ اليوم الأول لنجاح المرحلة الأولى من ثورة الشباب في بنغلاديش، وإجبار الشيخة حسينة على الفرار خارج البلاد على متن طائرة عسكرية خاصة في 5 أغسطس/ آب الجاري بعد حُكم دام عقدَين كاملَين، حاول الثوار اتخاذ حزمة من الإجراءات العاجلة لحماية ثورتهم وتعزيز مكتسباتها وضمان استمراريتها.
أولًا: محاكمة المتورطين في القتل الجماعي
كانت الخطوة الأولى للحراك الطلابي بعد إسقاط حكم الشيخة حسينة محاكمة المتورطين في القتل الجماعي بحقّ المتظاهرين على مدار أيام الثورة، إذ قُتل ما يزيد عن 450 شخصًا بنيران الشرطة والجيش، وأطلقت محكمة جرائم الحرب في بنغلاديش، والتي أسّستها رئيسة الوزراء السابقة الشيخة حسينة، 3 تحقيقات في هذا الشأن.
تعكف المحكمة حاليًا على جمع الأدلة الأولية بشأن تلك الجرائم، حسبما ذكر نائب مدير خلية التحقيق التابعة للمحكمة أتور رحمن، مع تدشين قائمة بأسماء المتورطين في تلك الجرائم تمهيدًا لتقديمهم للمحاكمة بشكل رسمي، لافتًا أن القضايا مرتبطة بأعمال عنف في الضواحي أو في مناطق قريبة من العاصمة داكا في ميربور ومونشيجاني وسافار.
رئيس المحكمة العليا في بنغلاديش، عبيد الحسن، يتنحى بعد ضغوط شديدة و"إنذار نهائي لمدة ساعة" من المتظاهرين المحيطين بالمحكمة العليا.
— أحمد القاري (@ahmed_badda) August 10, 2024
في السياق ذاته، هناك ما يقرب من 15 دعوى على الأقل ضد رئيسة الوزراء التي غادرت البلاد، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم ضد الإنسانية واستهداف المعارضين، ففي عهدها أُعدم أكثر من 100 معارض سياسي، هذا بخلاف الاتهامات بقتل الآلاف من المعارضين خارج نطاق القضاء.
وكان وزير العدل في الحكومة المؤقتة، عاصف نذرول، قد أشار إلى أن الحكومة ستقوم بتشكيل محكمة وصفها بالدولية، تكون تحت إشراف الأمم المتحدة، لملاحقة المتورّطين في تلك الجرائم ومحاسبتهم قضائيًا، بجانب سحب كل القضايا المرفوعة خلال الأسابيع الماضية ضد المتظاهرين مع نهاية الشهر الجاري.
ثانيًا: التخلُّص من رموز النظام البائد
تتطلب كل ثورة إذا ما أرادت النجاح أن تنتهج مبدأ “التخلية قبل التحلية”، فقبل البناء لا بدَّ من الإطاحة بأضلاع النظام السابق الأربعة (الجيش – الشرطة – القضاء – الإعلام)، وإلا فالبقاء عليهم في وظائفهم وأماكنهم السابقة يعني باختصار إعادة المشهد إلى سيرته الأولى، والقضاء رويدًا رويدًا على مكتسبات الثورة التي ستصبح مع مرور الوقت خبرًا في الماضي.
بدأ الحرك الطلابي في ترجمة هذا المبدأ عمليًا من خلال المطالبة بشكل عاجل بمحاكمة قادة حزب رابطة عوامي الحاكم سابقًا، وكل المتعاونين والمتواطئين معهم من مختلف التيارات السياسية الأخرى، على ما ارتكبوه بحق البلاد من جرائم وانتهاكات أودت بالمشهد إلى صورته الحالية.
وبالتزامن مع ذلك بدأت سلسلة اعتقالات بحقّ مسؤولين سابقين في النظام البائد، أبرزهم وزير العدل السابق أنيس الحق، والمستشار الاقتصادي للشيخة حسينة ورجل الأعمال سلمان فرحان، ووزير الخارجية حسن محمود، ووزير الاتصالات جنيد أحمد بالاك الذي يتهمه الحراك الطلابي بالوقوف وراء الأمر بقطع بثّ شبكة الإنترنت عن المواطنين خلال فترة الاحتجاجات.
كما حاصر الثوار مبنى المحكمة العليا في العاصمة دكا، أكبر محكمة في البلاد، في 10 أغسطس/ آب الجاري، وأنذروا رئيسها عبيد الحسن بتقديم استقالته خلال ساعتين فقط وإلا سيتم اقتحامها، وعلى الفور أُجبر الرجل على تقديم الاستقالة، وعدد من قضاة قسم الاستئناف الذين كانوا يمثّلون أحد أبرز وأقوى الأضلاع الداعمة للنظام البائد والمتورطين في التنكيل بالمعارضين، والزج بهم في السجون والمعتقلات، وإصدار أحكام الإعدام بحقّهم.
التطهير ذاته شمل المؤسسة العسكرية المتهمة هي الأخرى بالتورُّط في الجرائم المرتكبة خلال حكم حسينة، حيث إبعاد العديد من جنرالات الجيش المتورطين في دعم الفساد طيلة السنوات الماضية، فيما طالب الثوار بإعدام وزير الدفاع وقر الزمان وعدد من قادة الجيش.
وعلى مستوى المنظومة الشرطية، أُجريت حركة غربلة شاملة داخل المؤسسة، حيث تم تغيير 30 من كبار الضباط، أبرزهم رئيس الفرع الخاص بالشرطة، المفتش العام للشرطة، مفوض شرطة داكا، مدير قوات التدخل السريع، مدير معهد الجيش للعلوم والتكنولوجيا، مديري الكلية والأكاديمية العسكريتَين، والإدارة العامة للمخابرات العسكرية، وإدارة مخابرات الأمن الوطني، ومدير قوات الأنصار والدفاع الريفي، حيث أُحيلوا جميعًا للتقاعد.
وبعد تطهير منظومة الجيش والشرطة والقضاء، جاء الدور على الضلع الرابع لمنظومة الفساد في النظام السابق: الإعلام، حيث جُمّدت الحسابات البنكية لوزير الإعلام السابق محمد علي عرفات وأفراد أسرته من قبل وحدة الاستخبارات المالية البنغلاديشية، بجانب الإطاحة ببعض رموز الإعلام في البلاد.
هل استفادوا من دروس الربيع العربي؟
في عصر السماوات المفتوحة من الطبيعي إطلاع أصحاب الفكر الثوري على تجارب أقرانهم في البلدان الأخرى، لا سيما المتشابهة معهم في الأجواء والسياسات والأنظمة الحاكمة، في محاولة للوقوف على دروسها والاستفادة منها قدر الإمكان، وعليه ليس من المستبعد دراسة الحراك الطلابي البنغالي لتجارب بلدان الربيع العربي، تلك التجارب التي استحوذت على إعجاب الجميع بداية اندلاعها، لكن سرعان ما واجهت انتكاسات حادّة أجهضت كافة مكتسباتها.
وتشير الخطوات المدروسة التي خطاها الثوار إلى محاولتهم الاستفادة من الدروس المستفادة، حيث التخلص بأقصى سرعة ممكنة من أركان النظام القديم، وتطهير أضلاعه الأربعة الرئيسية، الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، إيمانًا أن الإبقاء على هذا الرباعي يعني باختصار موت الثورة قبل ولادتها.
لكي لا نأسى على ما فاتنا في ثورات #الربيع_العربي طلاب بنغلاديش والثوار أثبتوا أنهم فهموا دروس الثورات العربية جيدا
و خوفا من تدخل المتآمرين قاموا بإقالة الهيئات القضائية و نصب محاكم ثورية لرموز النظام
لله درهم
ما أجمل الثورة والثوار pic.twitter.com/AAP5ka2vXQ
— §âmřâ (@Nevergiveup2o24) August 14, 2024
كما حاول الحراك الطلابي في بنغلاديش فرض حالة الاستقرار الداخلي بشكل سريع، من خلال تشكيل حكومة من الرموز والشخصيات العامة المشهود لها بالكفاءة والنزاهة، يقودهم الحائز على جائزة نوبل محمد يونس، ليقطعوا بذلك الطريق على الجنرالات وأرباب النظام السابق أو المتعاطفين معه من هذا التشكيل المؤقت.
وفي محاولة لوأد مؤامرة ثنائية الاستقطاب والإقصاء، التي من المتوقع أن يستدعيها النظام السابق، أكد رئيس الحكومة المؤقت في خطابه الأول عقب تكليفه، على أهمية الوحدة الوطنية والعمل المشترك لتحقيق الاستقرار في البلاد، مؤكدًا أن جميع أبناء بنغلاديش هم بمثابة عائلة واحدة، وأن الحكومة المؤقتة تسعى للعمل على إزالة التوترات والاختلافات من أجل مستقبل مشترك، كما جاءت الاختيارات الـ 17 لأعضاء الحكومة متوافقة مع هذا الطرح: التشاركية في الحكم لتحقيق الهدف الموحد.
مقاربات وتحديات
تجدر الإشارة ابتداءً إلى أن ما حدث في بنغلاديش من إطاحة بنظام مكثَ في الحكم قرابة 20 عامًا، ولديه شبكة تحالفات وعلاقات إقليمية ودولية، وقاعدة جماهيرية وسلطوية داخليًا، حدثًا لن يمرَّ مرور الكرام، فالثقل الشعبي الذي تمثله الدولة وحضورها الاقتصادي الإقليمي، يجعلها أحد أبرز اللاعبين المؤثرين في خارطة جنوب آسيا.
ومن ثم تخيّم حالة من الترقب على الأجواء حاليًا، في انتظار ما ستسفر عنه هذه الثورة من تداعيات، التي على أساسها ستكون ردود الفعل، من الخارج والداخل على حد سواء، وهو ما يضع العديد من التحديات أمام هذا الحراك إذا ما أراد العبور بثورته إلى برّ الأمان.
ويتمحور التحدي الأكبر أمام الثورة البنغالية في القدرة على تدشين حاضنة داخلية، سياسيًا وعسكريًا، وذلك من خلال استقطاب جميع فئات المجتمع وتجنُّب فخاخ الإقصاء، مع جذب المؤسسة العسكرية والحصول على دعمها بعد التخلُّص من رموزها الفاسدة، إذ إن الثورة بحاجة إلى قوة تحميها، تؤمن بمبادئها، وتتفق مع أهدافها.
هذا بخلاف تدشين سياسة خارجية مسالمة، لا سيما مع دول الجيران، كخطوة أولى نحو خلق علاقات إيجابية مع القوى الدولية، توفيرًا لغطاء الشرعية والدعم، وبما يحول دون تجاوز أي خطوة فوضوية حدودها المسموح بها، وفق ما ذهب الصحفي البنغالي محمد زاكر حسين.
ويرى حسين أن المعضلة الأكبر ربما تكون مع تولي الإسلاميين السلطة، فهناك قد تكون الأجواء مهيَّأة لثورة مضادة بقيادة اليسار والجيش معًا، لافتًا أن المخرَج من هذا الفخ يكون بحكم ائتلافي بمشاركة الأحزاب من التيارات السياسية المختلفة، بما يُفشل مخطط الانقلاب والعودة بعقارب الزمن إلى ما قبل 5 أغسطس/ آب الماضي.
في الأخير، يمكن القول إن الشباب البنغالي نجح في الاختبار الأول والأسهل في مسيرته الثورية، حين أطاح بالنظام الديكتاتوري السلطوي للمرأة الحديدية التي جثمت على صدور البنغاليين لعقدَين كاملَين، لكن ما يتبقى هو الأصعب، الحفاظ على الثورة، ومواجهة أي تحركات مضادة، فهل ينجح الشعب البنغالي فيما فشلت فيه الشعوب العربية ويقدّم تجربة جديدة ومكتملة للحراك الثوري، أم يسقط في الفخاخ ذاتها؟