صباح يوم الاثنين 19 أغسطس/ آب 2024، فيما كنت أتصفح مجموعات الواتساب، تدفق أمامي خبر وفاة الشيخ الكبير الفاتح علي حسنين في إسطنبول، ونعوات له ودعوات بالرحمة، وغالبًا مع القصة بينه وبين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل عقود (كان حينها رئيس بلدية إسطنبول قبل أن يجرَّد من منصبه ويُسجن بسبب قصيدة)، حين زاره في السجن بإسطنبول في تسعينيات القرن الماضي، وتحيته له بالقول: “مرحبًا برئيس تركيا المستقبلي”.
وتحدث آخرون عن علاقة الطبيب الراحل الممتدة والعميقة مع الزعيم البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش، ودوره في بناء دولة البوسنة والهرسك، ولفتني -وأنا أتصفح صوره المرفقة مع تلك الأخبار- أن الرجل من أصحاب البشرة السمراء، ما أثار فضولي للبحث عن هذه الشخصية القادمة من عمق أفريقيا لتغرس جذورها في البلقان، وتجمعها علاقات قوية مع رموز تركيا المعاصرة.
بحثتُ عن اسمه عبر محركات البحث، فظهر عنوان تقرير لقناة “العربية” من بين عدد قليل من نتائج البحث، يحمل عنوان “وفاة طبيب سوداني في تركيا تكشف سر تغلغل الإخوان في البوسنة”، واستغل التقرير الذي يكثر فيه الرجوع إلى “منصات إخوانية”، وفاة حسنين للحديث عمّا وصفه بـ”التوسع الإخواني” في دول البلقان، مع مرور سريع ومقتضب على بعض المعلومات الشخصية عن الشيخ الراحل، والهيئات الطلابية والمجتمعية والدعوية التي أسّسها، ووصفها التقرير بأنها “مؤسسات إخوانية” بالكامل.
رغم أن السعودية التي تموّل قناة “العربية” كانت على رأس الدول التي دعمت جيش البوسنة في التسعينيات، وقدمت الإمدادات العسكرية والإنسانية له، وجرى ذلك عن طريق الهيئة السعودية العليا التي كان الملك سلمان بن عبد العزيز على رأسها.
في هذا التقرير، نتعرّف إلى حياة الشيخ الفاتح علي حسنين، الطبيب السوداني الذي تعود جذوره إلى المغرب، وتنقّل بين عدة دول للعمل في الطب والمجال الإنساني والدعوي، وليحكم البوسنة بالنيابة ويترك إرثًا مثيرًا للاهتمام.
الحياة المبكرة للفاتح حسنين
وصل أحمد رازوق إلى السودان في القرن السادس عشر قادمًا من المغرب ليستقرّ فيها، وفي عام 1946، في ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﺮﻛﻮﺝ ﺑﻮﻻﻳﺔ ﺳﻨﺎﺭ بالجنوب الشرقي السوداني، وُلد حفيده الفاتح علي الحسنين، وربما تفسّر أصول الشيخ دافعه إلى كتابة موسوعة الأسر المغاربية وأنسابها في السودان في عدة مجلدات.
كان الفاتح طفلًا متميزًا وطالبًا متفوقًا، ما أهّله الحصول على فرص لدراسة الطب في عدة بلدان، قبل أن يختار السفر إلى يوغوسلافيا السابقة، ويروي سبب اختياره هذه البلاد التي قدمَ إليها بعمر الـ 17:
“كنت أعرف بالفعل أن هناك مسلمين في البوسنة، درس ابن عمي في الأكاديمية العسكرية في موستار عام 1959. وعندما عاد، أحضر لنا صورًا من مساجد موستار ومن جسر موستار الشهير، وصور القبور والتكايا والنساء المسلمات في لباسهن الساتر. كل ذلك ترك انطباعًا جيدًا لدي. وعندما أتيحت لي الفرصة للدراسة في يوغوسلافيا السابقة، وافق أبي على الفور على الذهاب إلى هناك لأنه كان لدينا بالفعل رأي جيد عن يوغوسلافيا، وكل ذلك بناءً على الصور التي أحضرها ابن عمي”.
وهكذا تخرج في كلية الطب بجامعة بلغراد في العام 1973، ثم نال الاختصاص في الباطنية من جامعة فيينا، وعمل طبيبًا مختصًا في كل من البوسنة والهرسك والسودان ودولة الإمارات العربية المتحدة والنمسا.
النشاط الطلابي والدعوي في شرق أوروبا والبوسنة
عمل الطبيب الفاتح وبالتوازي مع متابعته دراسته الجامعية، على توحيد الطلاب العرب وتنظيم النشاطات الإسلامية بينهم. ويصف دافعه الأولي لهذه التجمعات:
“عندما وصلنا إلى الجامعة في بلغراد، أنا ومعي 15 طالبًا، بدأ الطلاب العرب القدامى يتجمعون حولنا، وحاول بعضهم إقناعنا بشرب الخمر ومطاردة الفتيات. وأخبرونا أنهم في البداية كانوا مخلصين للإسلام مثلنا، ولكن بعد 6 أشهر من وجودهم في بلغراد، تغيرت الحياة. لقد أكلوا الحرام وشربوا الحرام وفعلوا الحرام. ولهذا السبب عشنا في خوف، كنا خائفين ممّا سيحدث لنا، هل سنتغير؟
وعندما كانوا يروننا ندرس القرآن معًا، يخبروننا أنهم كانوا يفعلون الشيء نفسه، لكنهم الآن يحتفظون بالقرآن في الخزانة ولا يتعلمون منه إلا عندما يموت أحد أفراد أسرتهم، الأب أو الأم أو شخص قريب منهم. استخدموا السجادات للصلاة في الأشهر القليلة الأولى، ثم علقوها على الحائط لتكون بمثابة زينة. كنا خائفين بعض الشيء من الاندماج، لكن بمجرد وصولنا حاولنا تنظيم مجموعتنا الخاصة التي تلتزم بالإسلام.
وتدريجيًا، ومع مرور الوقت، انضم إلينا طلاب من الأردن وفلسطين وسوريا والعراق ومصر وكينيا وأوغندا وباكستان وأفغانستان. بدأنا نتجمع ونتحدث عن الإسلام وعن مستقبلنا وكيف ينبغي لنا أن نحل مشاكلنا، وكيف يمكننا أن ننجح في إنهاء كلياتنا. وفي النهاية، فكرنا فيما سيحدث للمسلمين اليوغوسلافيين المحليين”.
وفي هذه الأثناء التقى بعلي عزت بيغوفيتش، الذي كان يعمل محاميًا، وكان قد أسّس مع رفاقه “تنظيم الشباب المسلمين”، ثم بدأ التعاون بينهما في خدمة العمل الطلابي والإسلامي.
أشار بيغوفيتش على الدكتور الفاتح ترجمة بعض الكتب الدينية من أجل التوعية الإسلامية، كان من أوائلها كتب لسيد قطب والإمام النووي ويوسف القرضاوي ومصطفى محمود ومصطفى السباعي، ثم قاموا بتوزيع الكتب المترجمة والمنسوخة بخط اليد سرًا، وكان لها أثر أحدثَ تغييرات في الوعي الإسلامي بين الشباب حينها.
وفي إحدى مقابلاته يصف ردود الأفعال على هذه الكتب المترجمة: “ومن المثير للاهتمام أن العديد من الشباب الذين قرأوا تلك الترجمات بكوا وقالوا: يبدو أن هذا قد كُتب لنا هنا في البوسنة وليس لكم أيها العرب”.
كان للفاتح حسنين إسهامات كثيرة في دعم الوجود الإسلامي في شرق أوروبا، خاصة في ألبانيا وكوسوفو، وذلك من خلال وكالة العالم الثالث التي أسّسها في النمسا، كما كان له دور محوري في إنشاء دولة البوسنة والهرسك.
ومن بين جهوده الدعوية البارزة، قام حسنين بترجمة العديد من الكتب الإسلامية إلى لغات شرق أوروبا المتعددة، بما في ذلك البوسنية والألبانية والبلغارية والتشيكية والرومانية. كما طبع معاني القرآن الكريم بهذه اللغات، بهدف نشر المعرفة الإسلامية وتعزيز الهوية الدينية في تلك المناطق.
إلى جانب ذلك، أصدر حسنين مجلة “الشاهدة”، التي كانت مخصّصة لتغطية أخبار الأقليات الإسلامية في شرق أوروبا، ما ساعد في تسليط الضوء على قضاياهم وتعزيز التواصل بين المجتمعات الإسلامية في تلك المنطقة، وكان له فضل كبير في نشر كتاب بيغوفيتش الشهير “الإسلام بين الشرق والغرب” عندما سُجن.
عاد حسنين إلى بلاده السودان بعد إتمام الدراسة بفترة، ثم توجه نحو دول الخليج حيث عمل كطبيب، وهناك استمر في العمل من أجل القضية، إذ أتيحت له الفرصة لكتابة كتاب يتناول أوضاع الأقليات المسلمة في شرق أوروبا.
لكن مع بدء تفكُّك الدولة اليوغوسلافية عاد حسنين لدعم صديقه علي في تأسيس الدولة، وأصبح أحد أقرب الأشخاص إليه. وخلال حرب البوسنة، كان الدكتور الفتاح أحد الأفراد النشطين في المقاومة، وتمّ تصنيفه من قبل الصرب كأحد 4 أشخاص وصفهم بـ”مافيا المسلمين”، ما جعله هدفًا لهم.
واستمر الفاتح في الكفاح مع بيغوفيتش حتى استقلال البوسنة، وتولى رئاسة البوسنة بضعة أشهر بالنيابة أثناء حصار الصرب لعلي عزت بيغوفيتش. وبعد تأسيس الدولة، منح علي عزت بيغوفيتش الفاتح الجنسية البوسنية وعيّنه مستشارًا له، وبعد وفاة الزعيم البوسني حرص الفاتح على أن يكون دائمًا بجانب عائلة صديقه في أحلك الأوقات.
إلا أن المشاكل بدأت تظهر بعد رحيل بيغوفيتش، فانقطعت علاقة حسنين بالبوسنة، وسُحبت منه جنسيته، وعاد حسنين إلى بلاده مجددًا، لكن قلبه بقيَ مرتبطًا بعلي، كما تصف صحيفة “يني شفق” التركية.
العلاقة مع تركيا ورجب طيب أردوغان
لفتت زيارة الرئيس التركي للشيخ الفاتح الحسنين في منزله في الخرطوم عام 2017، أنظار الإعلام العربي للصداقة الطويلة والعميقة التي تجمع الرجلَين، والتي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي. كما لفتت الأنظار إليه شخصيًا، إذ لم يكن اسمه معروفًا قبل ذلك، ويبدو أنه كان يفضّل العمل في الخفاء، مركّزًا على خدمة الإسلام في دول أوروبا الشرقية.
وتعززت علاقة حسنين بأردوغان عندما شارك الأخير في دعم ملف البوسنة ضمن “حزب الرفاه” الذي أسّسه نجم الدين أربكان. ورغم حاجتهما إلى المترجمين، إلا أنه من اللافت أن أردوغان وحسنين كانا يتفاهمان بسرعة كبيرة بأقل مساعدة وتوضيح، ويصفه أردوغان بأنه شيخه ومعلمه.
وقالت وسائل الإعلام حينها عن الزيارة إن أردوغان لم ينسَ وفاء حسنين، الذي عرّض نفسه للخطر بزيارته في السجن نهاية التسعينيات، وقدّم له الدعم المعنوي بقوله: “مرحبًا رئيس تركيا المستقبلي”. وفي عام 2018 أرسل الرئيس التركي طائرة خاصة على متنها طاقم طبي على أعلى مستوى، لنقل صديقه الفاتح وعلاجه في إحدى مستشفيات إسطنبول.
وكان للطبيب السوداني علاقات واسعة مع قادة العمل الخيري والدعوي في تركيا، وأسّس ﻣﺪﺭﺳﺔ ﺍﻟﻐﺎﺯﻱ ﻋﻠﻲ ﻋﺰﺕ ﺑﻚ في إسطنبول. ويروي عمر ألتشب الذي كان على تواصل مع الشيخ الراحل أثناء عمله كمدير قطري لمؤسسة المعارف التركية في السودان سابقًا، دهشته عندما رأى اهتمام الطبيب والداعية وحماسه بشأن الأخوة التركية السودانية، رغم تقدُّمه في السن ومرضه أثناء زيارته له مؤخرًا في إسطنبول.
الرحيل
تشيّع إسطنبول اليوم من جامع أبي أيوب الأنصاري، الداعية والطبيب السوداني الذي جسّدت رحلته في الحياة وحدة العالم الإسلامي، من المغرب إلى السودان ومنها إلى تركيا ودول البلقان، ثم الوداع أخيرًا في إسطنبول.
ودّعته وسائل إعلام بوسنية بقولها: “كان صديقًا عظيمًا للبوسنة والبوسنيين”.
كتب ابن موطنه ورفيقه الشيخ عصام البشير في رثائه حديثًا طويلًا، بعنوان “في وداع سراج الدعوة المصلح الثائر من طبيب الأبدان الي طب الأوطان د. الفاتح حسنين”:
“أما الفاتح الانسان فقد كان جامعًا لخصال الخير والإحسان، موطأ الأكناف، خفيض الجناح يألف ويؤلف، دمث الخلق، باسم الثغر كريم النفس، سخي العطاء، صافي القلب نقي السريرة، عالي الهمة، مترفعًا عن الصغائر، يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها، عازفًا عن الدنيا وزخرفها. عاش لدينه وأمته وغدا همّ دعوته مصبحه وممساه، وغدوه ورواحه، شكّل نقطة جذب والتقاء الناس حوله يبادلهم حبًا بحب ووفاء بوفاء، ثاويًا يحمل الهموم كبيرها وصغيرها رغم وطأة المرض وثقل المعاناة. مثّل امتدادًا لجيل العمالقة من الدعاة المعاصرين”.
رحل عنا الشيخ الفاتح علي حسنين وترك لنا تجربة حافلة لرجل سوداني وصل إلى رئاسة البوسنة والهرسك بالنيابة، وكان له أثر عظيم في تمكين الإسلام بشرق أوروبا.
هذا الرجل نموذج غير عادي في بركة العمل واتساع الأثر.
هنا تراه يضع فوق رأسه مجسما صغيرا لقبة الصخرة وشيئًا من زيت #المسجد_الأقصى pic.twitter.com/QZwpHmMoeP
— د. أسامة الأشقر (@osama_alashqar) August 19, 2024
أخيرًا، قد يكون في رحيل الطبيب في إسطنبول وارتباط اسمه الوثيق بالبوسنة والهرسك، رغم مسقط رأسه البعيد، رسالة لكل الشباب المهاجر الذي أُجبر على ترك بلاده ونزل في أرض غريبة، أن العمل والتأثير منوطان بصاحب الهمّة والقضية والإيمان، في أي أرض استقرَّ وتحت أي سماء عاش.
رحل الشيخ وفي قلبه حسرة على مسقط رأسه كركوج (مدينة تتبع ولاية سنار جنوبي شرق السودان)، وهي ترزخ تحت وطأة حرب شعواء، وسط تصفيق قناة “العربية” لبلطجية حميدتي.