ترجمة وتحرير: نون بوست
في يوم ما، كان مكتب شركة “تاكسيات بيروت” هو الأكبر في قطاع غزة، إذ كان ممكنا أخذ سيارة أجرة إلى بيروت أو يافا أو القاهرة. ولكن اليوم، في ظل الحصار الذي تعاني منه غزة، باتت سيارات الأجرة تتحرك فقط لكيلومترات قليلة، وهي تشبه النمور المحبوسة في أقفاصها، التي تتحرك جيئة وذهابا بلا ملل بين قضبان الحصار.
في الواقع، بات مكتب سيارات التاكسي اليوم رمزا لفقدان الحركية في هذه المنطقة التي تعاني من التجزئة بين الحواجز والخلافات. وفي الأثناء، يوجد في سوريا ناشط عالق في الغوطة المحاصرة لم يتمكن حتى من العودة إلى منزله في دمشق التي تبعد بضعة أميال فقط. وعندما استعاد النظام السيطرة على الغوطة السنة الماضية، اضطر هذا الناشط للرحيل نحو إدلب.
الجميع يحارب الإرهاب
هل هذا هو الثمن الذي يجب على الشعوب أن تدفعه عندما تثور وتطالب بحقوقها؟ البعض يقولون لا، ويدّعون أن ما يحدث هو في إطار محاربة للإرهاب. لنكن واقعيين، لا يمكننا عقد مقارنات غير عقلانية، مثل المقارنة بين سوريا وإسرائيل. وفي الوقت نفسه، لا يمكننا تبرير الأنشطة العدائية لحماس، أو التقليل من خطورة الجهاديين في سوريا. ولكن ألا يبدو أن الأسلوب الطاغي اليوم لدى كل من هم في السلطة في المنطقة هو القضاء على أي مقاومة سياسية؛ سواء كانت راديكالية أو منفتحة على الحوار والتسوية، مسلحة أو سلمية، ضد المدنيين أم لصالحهم، حيث توضع كل التحركات السياسية في سلة الإرهاب.
يقول النظام السوري ومعه القوات الإيرانية والروسية، إنهم يحاربون الإرهاب، وهي التهمة التي يوجهونها للفصائل المسلحة المعارضة للنظام، والتحركات السلمية.
بهذه الطريقة، أصبحت مكافحة الإرهاب شعارا مفرغا من معناه، ومرادفا للسعي للبقاء في السلطة بكل السبل، من خلال اعتماد استراتيجية شيطنة الخصوم وتجريدهم من صفة الإنسانية. وأحيانا نحصل على انطباع بأن الأنظمة العربية نسخت هذا الخطاب عن إسرائيل. ففي إسرائيل، تحدث السياسيون مؤخرا عن الإرهاب حتى عندما قامت فلسطينية تبلغ من العمر 16 عاما بصفع جندي فوق أرضها المحتلة.
أما اليوم، يقول النظام السوري ومعه القوات الإيرانية والروسية، إنهم يحاربون الإرهاب، وهي التهمة التي يوجهونها للفصائل المسلحة المعارضة للنظام، والتحركات السلمية. ولكن حتى المتظاهرون السلميون استُهدفوا منذ بداية الثورة السورية وتم تصنيفهم في خانة الإرهابيين. في المقابل، يقمع الإسلاميون المدعومون من الخليج وتركيا أي تحركات مدنية، بشكل يشبه ممارسات نظام بشار الأسد الذي يقبع في أقبية سجونه الآلاف من المعتقلين الذين يموتون من التعذيب.
أما السعودية والإمارات، فهما تحاربان المليشيات الحوثية المدعومة من إيران في اليمن، ويوجد في صفها إرهابيون يحركهم الفكر السلفي ولا يمكن اعتبارهم أقل تطرفا من الحوثيين. كما أن الطغمة العسكرية الحاكمة في مصر تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، تعتقل إلى جانب الإسلاميين المتطرفين الآلاف من النشطاء السياسيين، من بينهم العلمانيون، والأنصار، والأتباع المسالمون في حركة الإخوان المسلمين، إلى جانب المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين، حيث يعاني هؤلاء من ظاهرة الاختفاء القسري، وكل شيء يحدث تحت شعار “مكافحة الإرهاب”.
الهويات القاتلة
في مواجهة الربيع العربي، استخدمت الأنظمة في المنطقة نفس الخدع في كل البلدان، فأمل في إيجاد طريق ثالث بين القمع والاستبداد من جهة، أو التنظيمات الإرهابية والحرب من جهة ثانية، يجب تدميره. وعندما تفقد الشعوب الأمل في التغيير للأحسن وتنعدم الفرص، يقبلون بالاستسلام والعودة إلى رحم نفس الأنظمة القديمة، أو يذهبون للجهة المعاكسة وتكون النتائج وخيمة؛ حيث أن البعض يصبحون متطرفين، ويتجهون نحو الأنشطة المسلحة السرية، ليختفوا لفترة ثم يظهروا كإرهابيين. وبالطبع، هؤلاء يهددون الأجهزة الأمنية، وهذه التهديدات تصبح ذريعة لدى السلطة لممارسة المزيد من القمع، وهكذا تظل الشعوب عالقة داخل هذه الحلقة المفرغة.
أوضح الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف أن الفرق والطوائف سرعان ما يخرج من بينها أشخاص مستعدون للقتل عندما يشعرون بالتهديد والإهانة
حيال هذا الشأن، تحدث مستثمر مصري منذ فترة عن ذكرياته مع ثورة 2011. وعلى الرغم من أن هذا الرجل كان واحدا من الطبقة المحظوظة في مصر، إلا أنه شارك في المظاهرات مع كل أفراد عائلته. وقد كان كل أصدقائه من الأثرياء يسألونه “أنت بخير، ما دخلك في هذه المظاهرات؟”، وكان يجيب “هذا ليس كافيا، ولا يجب الاكتفاء بالمشاهدة حتى إذا كان المرء يعيش داخل المجمعات السكنية الفاخرة التي تحظى بحماية أمنية وعزلة عن العالم الخارجي”.
في سياق متصل، أضاف المصدر ذاته، “إن كل شخص يستحق أن يعيش في كرامة، ولكن حكام مصر قتلوا آخر ذرة من هذه الكرامة، والآن يطلبون من الشعب أن يكون ممتنا لهم لأن حال البلاد لم يصل إلى حال سوريا. وهكذا يبدو الأمر مثل رجل اعتدى على زوجته ثم طلب منها أن تحمد الله لأنها لا تزال على قيد الحياة، لأنه كان بإمكانه قتلها”.
من أجل البقاء في السلطة، عمد الطغاة إلى تأجيج التوترات الطائفية وأقدموا على اللعب بالنار، من خلال تحريك ظاهرة يسميها الكاتب اللبناني الفرنسي، أمين معلوف، “الهويات القاتلة”؛ في إشارة إلى تعصب الهويات الذي يختزل الإنسانية في تصنيف هوية واحدة، وبعد ذلك تحت ظروف معينة يتم ارتكاب جرائم القتل باسم تلك الهوية.
لقد أوضح معلوف أن الفرق والطوائف سرعان ما يخرج من بينها أشخاص مستعدون للقتل عندما يشعرون بالتهديد والإهانة. وهذا ما فعله العلويين حين رفعوا السلاح ضد السنة في سوريا، لأنه قيل لهم إن الطائفة السنية تسعى لارتكاب مجزرة ضدهم. وقد قام المتطرفون السنيون في سوريا بقتل العلويين لأنهم يرون فيهم وجه النظام القمعي الدموي. وعلى نفس النحو، رحب من يسمون أنفسهم “الليبيراليين” في مصر بمشاهد المجزرة التي ارتكبها الجيش في حق أنصار الإخوان المسلمين.
لا أحد من هؤلاء الحكام لديه رؤية واضحة حول كيفية تطوير المنطقة وتعميم الفائدة على جميع سكانها
من هذا المنطلق، بات كل طرف يتصرف مثل أقلية مهددة، ويسعى ليكون أقوى من الآخرين بأي ثمن من أجل الحفاظ على بقائه، حتى السنة الذين يمثلون الأغلبية في المنطقة، على الأقل من ناحية الأرقام. وتجدر الإشارة إلى أن العنف بين أتباع الطوائف المختلفة لم يكن أمرا دارجا في تاريخ الشرق الأوسط؛ والدليل أنه لو كان هذا الأمر متفشيا لما شاهدنا هذا التنوع الطائفي والعرقي في المنطقة اليوم. وفي مواجهة الموجات الهدامة، يجب دائما السعي لتمكين الناس من حياة كريمة وفرص حقيقية، والتصدي لمن يمتهنون تأجيج مخاوف الناس ليستفيدوا من الانقسامات الطائفية.
لكن لا أحد من هؤلاء الحكام لديه رؤية واضحة حول كيفية تطوير المنطقة وتعميم الفائدة على جميع سكانها. والنموذج القائم اليوم هو الذي تظهره وتحاول نشره دولة الإمارات، المتمثل في مجتمع منشغل باللهو مقابل إرساء دولة بوليسية، حيث يسمح للناس بالاستهلاك ولكن يجب عليهم غلق أفواههم.
في الوقت الحالي، تعمل الإمارات على تجربة هذا النموذج مع صديقها محمد بن سلمان في السعودية. كما أن فكرتها المسماة “وزارة السعادة” (التي تذكرنا بروايات جورج أورويل) سيتم تصديرها قريبا للقاهرة. ويبقى السؤال القائم: كيف يمكن لأولئك المصريين أن يستمتعوا وهم بالكاد يستطيعون الحصول على ما يسد رمقهم؟ في المقابل، إن البديل الذي يهدد هذه الدول، هو انهيار الدولة وحكم المليشيات.
الديمقراطية فرضية مستبعدة
كان أولئك الذين جربوا الطاقة والإبداع الذي رافق موجات الربيع العربي خلال سنة 2011، الذين كانوا حاضرين في النقاشات السياسية المنفتحة والخلافية بشكل مذهل، شهودا على المبادرات الشعبية التي فرضت نفسها على الرغم من أنها ترزح تحت حكم القبضة الحديدية للنظام السوري، ويعرفون أنه كانت هناك فرصة للذهاب في طريق مختلف.
البلد الوحيد الذي لا يزال يُرى فيه بصيص أمل لتحقيق الانتقال الناجح نحو الديمقراطية، الذي لم تتبدد فيه الأحلام والآمال، هو تونس
يقال أحيانا أن الجيل الشاب ليست لديه خبرة في عالم السياسة، وهو أمر مفهوم بعد عقود من الاستبداد والنظام التعليمي الفاشل. ولكن ما الذي يمكن للناشطين المدافعين عن الديمقراطية فعله لمواجهة سياسات العنف الدموي وتأجيج الانقسامات الطائفية، وتداخل الحسابات الجغراسياسية وآلات القمع العسكرية؟
إن البلد الوحيد الذي لا يزال يُرى فيه بصيص أمل لتحقيق الانتقال الناجح نحو الديمقراطية، الذي لم تتبدد فيه الأحلام والآمال، هو تونس، ويعود ذلك بالأساس إلى أن كل هذه العوامل المدمرة ليس لها حضور قوي في الحياة السياسية، كما أن الثقافات كما نعلم من التاريخ يمكن أن تتغير. لا يحتاج المرء للوقوف عند السؤال الأبدي حول من جاء أولا الدجاجة أم البيضة، أو من الذي يجب أن يأتي أولا، النظام السياسي الديمقراطي أم السلوك الشعبي الديمقراطي. لذلك، إن فكرة وجود كل الشروط الضرورية لإقامة دولة ديمقراطية دستورية هي بكل بساطة فكرة مستبعدة جدا، في كل مكان وكل زمان. ويجب تذكر هذا الأمر اليوم حتى في أوروبا، التي تشهد سعي البعض للمساس بفكرة حكم القانون.
إذا كنت لا تقدر الحياة في أوروبا، فيمكنك أن تجرب العيش في دولة شرق أوسطية لبضعة أشهر. هناك يمكنك أن تفعل شيئا بسيطا مثل شراء شقة، ولكن دون أن تحظى بحماية الدستور، وبالتالي يتم تجريدك من الشقة التي تمتلكها، لمجرد أنك لا تمتلك علاقات مع الأشخاص المتنفذين. ويمكنك أيضا أن تجرب شعور المواطنين الذين يخضعون للمراقبة الأمنية ويظلون دائما موضع شبهة دون سبب وجيه، أو يواجهون المشاكل بسبب قولهم كلمة خاطئة في وقت غير مناسب.
إلى جانب ذلك، إن النظر عبر البحر الأبيض المتوسط إلى تلك المنطقة القريبة منا جغرافيا وتاريخيا، يمكن أن يذكرنا بما يمكن أن يحدث عندما تقوم “الهويات القاتلة” التي تحدث عنها أمين معلوف بالتحرك بكل حرية. ونحن هنا في أوروبا لسنا بمعزل عن هذا الخطر.
الحروب، والمليشيات، والحصار، والفقر والمتطرفين، تمثل كل هذه العناصر جزءا من الواقع السياسي في المنطقة
لا أحد يعلم ما الذي يخفيه لنا المستقبل. ولكن، سيكون من المفيد جدا أن نلقي نظرة إلى ما أبعد من التحليلات السياسية السوداوية، وننظر إلى الحياة الواقعية للناس. ففي آخر مرة مررت فيها بمكتب “تاكسيات بيروت” في غزة، لاحظت على الجدران كتابة عبارة “قارب الحب” بأحرف كبيرة باللون الأحمر، قبالة مطعم على شاطئ البحر. فتساءلت كيف سيبدو الأمر، لو أن وسائل الإعلام، عوض توجيه الاهتمام دائما للنساء المحجبات والرجال الذين يخفون وجوههم ويحملون بنادق كلاشينكوف، زادت باهتمامها بكل هذه الجوانب الطريفة والممتعة التي يعشقها الناس في العالم العربي. مثل القلوب الحمراء التي تزين سيارات التاكسي، والورود البلاستيكية، والأغاني الرومانسية.
تجاوز الأزمة النفسية
عندما نتحدث عن الشرق الأوسط، غالبا ما نفكر في الجدران العازلة، والحروب، والمليشيات، والحصار، والفقر والمتطرفين. تمثل كل هذه العناصر جزءا من الواقع السياسي في المنطقة، ولكن كل هذه التحليلات السياسية والأخبار العاجلة التي نشاهدها باستمرار تجعلنا ننسى أن هناك أناسا في كل مكان يحملون أحلاما، أناس لا يفكرون عندما يستيقظون في الصباح في ممارسة العنف، بل يأملون في البقاء على قيد الحياة، ويركزون تفكيرهم على الحياة اليومية، في محاولة لجعلها أقل صعوبة وأكثر جمالا.
فعلى سبيل المثال، يقوم اللاجئون السوريين بزرع الورود أمام أبواب الخيام البائسة التي يعيشون فيها في سهل البقاع في لبنان. أما السوريون في دمشق، فرغم انتمائهم للديانة الإسلامية إلا أنهم يزينون شجرة أعياد الميلاد ليحتفلوا بهذه المناسبة مع المسيحيين، لأنهم يعتبرون أن هذه الزينة جميلة.
هناك أيضا فنانون يمنيون قاموا بتنظيم معرض للأعمال الفنية في عدن، على الرغم من تهديدات المليشيات المتطرفة، وكل الآثار السلبية للحرب. كما يقوم السوريون بإدارة مدرسة للتدريب المهني وسط أحد أكبر معاقل المتطرفين في إدلب، إذ أنه في هذه المنطقة التي تعج باللاجئين، وتتعرض باستمرار لقصف نظام بشار الأسد، يعتبر هؤلاء المتطوعون أن لا شيء يمكن أن يُتخذ مبررا لتأخير حصول الناس على التعليم.
بعد نهاية الحرب الأخيرة، لم يتردد سكان غزة في الذهاب للسباحة والاستمتاع على شاطئ البحر. وقد يعتقد البعض أن هؤلاء الناس لا يعانون من أزمات وصدمات نفسية ما داموا يظهرون كل هذه السعادة، ولكن في العديد من الأجزاء من العالم، يضحك الناس حتى يتمكنوا من تحمل الظروف السيئة، ويمارسون الرقص من أجل تجاوز الأزمات النفسية، ويتمسكون بكل إصرار بنسق حياتهم اليومية، حتى لا يصيبهم الجنون بسبب الظروف التي يعيشونها. وبفضل هؤلاء الناس، لا يمكننا أن نفقد الأمل في الحياة، حتى في أكثر الأوقات صعوبة.
المصدر: تسوريشر تسايتونغ الألمانية