إن قمت بالبحث عن تاريخ فلسطين في كرة القدم فتأكد أنه لم يسلم كذلك من البروباجندا الإسرائيلية، إذ كانت بداية دخوله وخروجه من عالم كرة القدم الدولية وسيلة من وسائل إثبات الكيان الصهيوني لوجوده أمام العالم، ولم لا فقد كانت كرة القدم ولا تزال وسيلة فعالة جدًا لإثبات شرعية السلطات وتحقيق رضى ما عند الشعوب، ولهذا استقبل المستطيل الأخضر على مدار العقود الطويلة الماضية حضور مسؤولين ودبلوماسيين لتشجيع فرقهم ومنتخباتهم الوطنية.
قدم الانتداب البريطاني كرة القدم عام 1928 في فلسطين بشكلها الرسمي أي ما يُعرف بالأندية الرياضية الآن، بعد أن كانت رياضة شعبية في الشوارع، كان يوجد حينها عدة فرق مختلطة بعضها من الفلسطينيين من مدن مختلفة، من القدس والجليل، وكان هناك أيضًا فرق يهودية من أولى الفرق اليهودية التي تكونت أيام الدولة العثمانية، منها “ماكابي” أقدم الأندية اليهودية الذي غيّر اسمه بعد إعلان الاحتلال الإسرائيلي إلى “ماكابي تل أبيب” وأول الأندية المدعومة من الحركة الصهيونية، كما كان هناك بعض الفرق البريطانية العسكرية التي لعب فيها جنود الانتداب البريطاني في ذلك الوقت.
كانت سنة 1934 سنة فاصلة في مستقبل كرة القدم بالنسبة للجانب الفلسطيني صاحب الأرض والفرق الكروية المحلية وبالنسبة للكيان الصهيوني ليعلن احتلاله لتلك الأرض، أو على الأقل سنة فاصلة تساعد الجانب الأخير على اتخاذ خطوات واضحة لإعلان هيمنته الصهيونية على فلسطين ثقافيًا ورياضيًا تمهيدًا لاحتلال الأرض وإقامة كيان إسرائيلي عليها، كانت تلك السنة هي سنة كأس العالم FIFA 1934 عقب الحرب العالمية الأولى.
لم يكن بإمكان “إسرائيل” المشاركة بفرقها اليهودية، فالفيفا أو الاتحاد الدولي لكرة القدم يشترط أن تُشارك منتخبات كرة القدم التي تُمثل أمة وطنية ودولتهم، لم يكن هناك في ذلك الوقت أمة تُدعى “أمة إسرائيل” ولم تكن هناك دولة، ولهذا لم تستطع الفرق اليهودية المشاركة لتمثل “الكيان القومي اليهودي” الذي لم يؤَسس بعد حتى ولو كان تم تأسيسه في مخططات الانتداب البريطاني، ولهذا كان الحل المشاركة باسم “منتخب فلسطين الانتدابي” كونه الاسم الوحيد الممثل للواقع أو للحقيقة.
منتخب فلسطين الانتدابي.. قليل من الفلسطينيين كثير من اليهود
صورة لفريق مدرسة الأميرية الثانوية، يافا 1923، أول فرق كرة القدم المحلية الفلسطينية
لقد استطاعت البروباجندا الإسرائيلية استغلال كل ما كان لها القدرة على استغلاله لإثبات شرعية احتلالها لأرض فلسطين، وكان “منتخب فلسطين المنتدب” واحدًا من الوسائل التي استغلتها تلك البروباجندا، في شهر مارس/آذار عام 1934 كانت هناك مباراة لـ”منتخب فلسطين المنتدب” مع المنتخب المصري في ملعب للجيش البريطاني في القاهرة، ولسبب ما لم يكن أي من طاقم التدريب والإدارة فلسطيني أو عربي، بل كانوا كلهم من اليهود المهاجرين لفلسطين الذين لم يولد أي منهم على أرض فلسطين.
كان الفريق الذي يغلب عليه وجوه غير فلسطينية يمثل الأمة الفلسطينية في كأس العالم لتلك السنة، لقد أراد الاتحاد اليهودي لكرة القدم المدعوم من الحركة الصهيونية وكان ممثل حينها بنادي “ماكابي” اليهودي، بأي شكل من الأشكال أن يكون له علاقة وطيدة واعتراف من اتحاد الكرة الدولي FIFA، حيث كان وجود اللاعبين المختلطين بين اليهود والعرب وطاقم تدريبهم من المهاجرين اليهود فرصة عظيمة تدعم “شرعية” اليهود في حقهم في وطن قومي لهم يجمعهم من جميع أنحاء الأرض.
ولأن اتحاد الكرة الدولي يقبل المنتخبات التي تمثل دولًا وأممًا فقط، أجبر اتحاد الكرة اليهودي أو ما عُرف حينها بنادي ماكابي بدعوة الفرق الفلسطينية لتكون جزءًا منه، وهو ما سمح للاتحاد الفلسطيني آنذاك، مكونًا من الفرق الفلسطينية واليهودية، أن يجني اعترافًا من الاتحاد الدولي لكرة القدم ويكون جزءًا منه عام 1929، وعلى الرغم من قبول الاتحاد الدولي الاتحاد الفلسطيني ممثلًا عن الأمة الفلسطينية، كانت غالبيته من المدعومين من الحركات الصهيونية، وعلى رأسهم لاعبو الأندية اليهودية مثل ماكابي وطاقم تدريبه وإدارته من المهاجرين اليهود الذين وطئوا أرض فلسطين لبضعة شهور.
سمى اليهود أنديتهم الرياضية بأسماء ثقافية وتاريخية لها مرجع في تاريخ اليهود قبل الميلاد، مثل نادي “ماكابي” وفيه إشارة إلى استقلال اليهود في القرن الثاني قبل الميلاد
لم تستمر الوجوه الفلسطينية كثيرًا في المنتخب الفلسطيني المنتدب، حيث كانوا وسيلة الأندية الرياضية “الإسرائيلية” للدخول تحت مظلة الاتحاد الدولي لكرة القدم، إلا أن كل من كان ضمن طاقم التدريب والإدارة فلسطيني أو عربي فلم يستمر طويلًا ولم يظهر مجددًا مع الفريق، تحول الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم كما كان يعرف وقتها إلى اتحاد صهيوني بشكل خاص مكونًا من أغلبية صهيونية تعدت نسبتها 75% ولم يتبق إلا القليل جدًا لأصحاب الأرض الأصليين الذين يمثلهم الفريق الصهيوني.
النشيد الوطني اليهودي ممثلًا للمنتخب الفلسطيني
https://www.youtube.com/watch?v=dQqwhFut6Cs
مباراة المنتخب الفلسطيني المنتدب في كأس العالم ضد منتخب أستراليا
ولأن الغالبية كانت من الحركة الصهيونية في منتخب فلسطين المنتدب في كأس العالم 1934، كان يعلو صوت النشيد الوطني لليهود “النشيد الإسرائيلي الوطني الآن” حينما يتقدم لاعبو فريق المنتخب الفلسطيني، النشيد الذي يحمل عنوانًا “الحلم اليهودي” وتتحدث كلماته عن حلم اليهود منذ آلاف السنين بوطن قومي يجمعهم على أرض “حرة” وأرض القدس.
لم يكن الوضع هادئًا على الجانب الفلسطيني الذي ظل يتظاهر ضد استغلال اليهود لكرة القدم من أجل نشر أفكار صهيونية بما في ذلك تكوينهم لأندية يهودية من المهاجرين اليهود من أنحاء أوروبا ورفعهم لأعلام صهيونية في أثناء مباراياتهم بما في ذلك استغلالهم للفرق الفلسطينية لكسب اعتراف دولي من اتحاد كرة القدم وتكوين منتخب لا يمثل الفلسطينيين وليس فيه وجوه فلسطينية، مما دفع الجانب الفلسطيني لتكوين مؤسسة خاصة بالاتحاد الرياضي الفلسطيني يضم كل من يضطهدهم اليهود من مسيحيين وعرب وأرمن.
على الرغم من تكوين الجانب الفلسطيني اتحاد خاص به، فلم يكن معترفًا به من الاتحاد الدولي لكرة القدم بعدما جنى الصهاينة الاعتراف أولًا، على الرغم من دعوة كثير من المنتخبات العربية مثل المنتخب السوري أو اللبناني في أوائل الثلاثينيات لخوض مباريات مع المنتخب الفلسطيني المكون من الفرق العربية الفلسطينية فإن الدعوة قوبلت بالرفض وذلك لعدم اعتراف اتحاد الكرة الدولي بهم بعدما نال الفريق الصهيوني الاعتراف عام 1929 ممثلًا فلسطين حين ذاك.
صورة لفريق مدرسة سانت جورج، القدس 1923
لم يلبث الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم أن جنى الاعتراف الدولي، حتى غير اليهود العلم الخاص بهم إلى علم يحمل الحروف العبرية وضم كل الأندية اليهودية فقط إليه
استمر الفريق الصهيوني بالترويج لنفسه أكثر وأكثر، حينما قرر دعوة كثير من الفرق العربية على رأسها الفريق المصري لخوض مباريات تدعم شرعية وجوده كفريق حقيقي ممثلًا لفلسطين، حيث ذكرت صحف فلسطينية كانت تصدر أعدادًا لها في ذلك الوقت من بينها صحيفة “فلسطين“، المتاح الأرشيف الخاص بها على الإنترنت، أخبارًا عن مباريات بين فريق “الترسانة” المصري والفرق الصهيونية ناشرة صورًا لهم ومعهم حاكم القدس وجنود الانتداب البريطاني، أعلاهم تكون الأعلام الإنجليزية والصهيونية على أرض فلسطينية.
لعب المنتخب الصهيوني تحت اسم المنتخب الفلسطيني 5 مباريات دولية ما بين عامي 1934 و1940 كان منها مباراة ضد المنتخب المصري ومباراة ضد المنتخب اللبناني، إلا بعدما تم كشف الألوان الحقيقية للمنتخب الصهيوني رفضت كثير من المنتخبات العربية اللعب ضده لأنه لا يمثل فلسطين ولا يحتوي على لاعبين فلسطينيين.
وعلى الرغم من مرور أكثر من 78 عامًا على تاريخ استغلال الصهاينة للمنتخب الفلسطيني للحصول على شرعية رياضية وثقافية للحصول على الأرض فإن الكيان الصهيوني لم يتوقف عن فعل الشيء نفسه مع التاريخ والسينما والمأكولات والملابس الفلسطينية، ونسبها له ليجني تاريخًا على أرض لم يكن له فيها تاريخ.