هناك في الغرب، وبفاصل أكثر من 200 كيلومتر عن العاصمة اليمنية ومدن الشمال البعيد يواصل التحالف الذي بدأ عربيًا وإسلاميًا وتحول سعوديًا إماراتيًا مع انفضاض الدول من حوله، الهجوم على الحديدة لطرد الحوثيين منها تحت شعار وقف التمدد الإيراني، لكن يبدو أن الحسم العسكري للمعركة يراوح مكانه، فإعلان قبول أطراف الصراع في اليمن لما أسماه المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث دورًا قياديًا للأمم المتحدة في ميناء الحديدة، يثير التساؤلات عن سر الانعطافة المباغتة في المواقف؟ وما الذي يجعل الحوثيين مستعدين للحوار؟ وما الذي حرك موقف الحكومة اليمنية المسنودة من التحالف بعد الدأب على الرفض؟
غريفيث بين حسابات الميدان والسياسة
يسابق مارتن غريفيث الزمن لتجنيب الحديدة مواجهة عسكرية قد تطال نيرانها هذه المرة ميناء المدينة، ففي زيارته الأولى إلى عدن، التقى مارتن غريفيث الرئيس اليمني، في سعي لتمرير خطته المتعلقة بدور قيادي للأمم المتحدة في إدارة ميناء الحديدة ضمن خطة لوقف إطلاق النار بالمحافظة، ونقل له عدم ممانعة الحوثيين وضع ميناء الحديدة تحت إشراف الأمم المتحدة.
جاء ذلك بعد يومين من اجتماع غريفيث بمسؤولين حوثيين بصنعاء، فبالنسبة للمنظمة، فإن موافقة الحوثيين على ذلك الإشراف انفراجة يمكن البناء عليها لصياغة مبادرة سياسية بديلة للسيناريو العسكري، وقد حثت واشنطن والاتحاد الأوروبي التحالف السعودي الإماراتي بصفته صاحب الكلمة العليا في معركة الحديدة على قبول مبادرة غريفيث.
يسابق المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث الزمن لتجنيب الحديدة مواجهة عسكرية
لكن تفاؤل المبعوث الأممي اصطدم بموقف الحكومة اليمنية الرافض لأي مبادرة لا تتضمن جلاء الحوثيين عن كامل الحديدة، ويقول وزير الخارجية اليمني خالد اليماني إنه “بند غير قابل للتفاوض”، وقد أبلغ هادي غريفيث رفضه أي مقترح أممي لا ينص صراحة على انسحاب الميليشيات الحوثية وتسليم مينائها لقوات الشرعية، وإلا فإن قوات الشرعية ماضية في انتزاع الميناء من الحوثيين بالقوة.
فجأة رضي الحلفاء بما امتنعوا عنه طويلاً، وصارت المفاوضات ممكنة بل وشيكة، حيث يلتقي غريفيث بعد أسبوع أعضاء مجلس الأمن ليعرض عليهم خطته المفصلة لوقف إطلاق النار في محافظة الحديدة وبدء المفاوضات، الأمر جديًا إذًا، وسيشكل إذا تحقق أول تواصل مباشر بين أطراف اليمني منذ جولة الكويت التفاوضية.
لا تبدو خطة غريفيث متميزة كثيرًا عما طُرح قبلها في الجانبين الأمني والسياسي
ويدرك مبعوث للأمم المتحدة مدى استثنائية مهمته، فهي لا تحدد مصير معركة الحديدة التي توصف بالحاسمة فحسب، وإنما تحد نتائجها مصير الخطة المطروحة لعملية سياسية شاملة في البلاد، لذلك ربما بدا مارتن منتشيًا بتجاوب مع مساعديه لمسه من أطراف النزاع كافة، حسب قوله.
لكن لا تبدو خطة غريفيث متميزة كثيرًا عما طُرح قبلها في الجانبين الأمني والسياسي، وليس واضحًا في مقترحه ما الذي يقصده حقًا بدرو قيادي على الحديدة ورقابة دولية للأمم المتحدة على مينائها، لكنه حريص على وضع مقترحه في سياق مسار تفاوضي لوقف إطلاق النار في المحافظة.
وإلى جانب لقاءات غريفيث في عدن وصنعاء، كانت العملية العسكرية حاضرة في باريس، فما كان مفترضًا أن يستقبل الرئيس الفرنسي وزراء دول ومنظمات إنسانية لبحث سبل وضع حد للكارثة الإنسانية في اليمن، وهي الأسوأ في العالم.
لم يحدث هذا، واكتفت باريس بتخفيض مستوى التمثيل في المؤتمر وحولته إلى لقاء لممثلين وخبراء عن وكالات تابعة للأمم المتحدة، وأرجعت صحف فرنسية هذه الخطوة إلى حرج استشعرته باريس بعد هجوم التحالف السعودي الإماراتي على مدينة الحديدة دون الاكتراث للمناشدات الدولية.
تفاؤل المبعوث الأممي اصطدم بموقف الحكومة اليمنية الرافض لأي مبادرة
من أين هبت رياح المواقف المتبدلة؟
يصعب تجزأة الهجوم الذي يخشاه كثيرون على ميناء الحديدة الإستراتيجي عن التطورات الدبلوماسية الأخيرة للأمم المتحدة، فبالنسبة للحوثيين، يرى محللون أنهم ربما خافوا من تبعات التطورات الميدانية عليهم فقبلوا برقابة دولية على ميناء الحديدة، لكنهم لم يبلغوا غريفيث حين استقبلوه نيتهم تسليم الميناء بشكل كامل، ولم يطرحوا عليه انسحابهم من المحافظة.
ورغم أن الحديدة كنز الحوثيين الذي لن يتخلوا عنه بسهولة بما يجعل مصيرها مفتوحًا على كل الاحتمالات المأساوية، فإن جلوسهم على طاولة الحوار، يراه مراقبون في إطار السعي لتجريد المعسكر الآخر من مبررات العملية العسكرية في الحديدة، ميناءً ومدينةً، ما يعني في المحصلة أن تُبقى الجماعة سيطرتها على المنطقة بطريقة ما.
أما بالنسبة للتحالف فإن الحديدة رئة حيوية يجب أن تتعطل لخنق مقاتلي الحوثي المسيطرين على المدينة، لكن ماذا حرك في المقابل موقف الحكومة اليمنية المسنودة من تحالف الرياض أبو ظبي في الحسم العسكري؟ فقد دأب الرئيس هادي وحكومته على رفض تسليم ميناء الحديدة إلى إدارة دولية تابعة للأمم المتحدة، ولم يكن هذا المعسكر يرضى بأقل من انسحاب كامل وشامل للحوثيين، لا من الميناء وحده بل من مدينة الحديدة كلها.
خوف التحالف من الملف الحقوقي يُضاف إليه الموت والغارات والمرض، وتجربة مدن جنوب اليمن ما زالت ماثلة للعيان وترسخها الأنباء المفزعة
إذًا لم يكم الموقف المستجد نابعًا من قناعة صعوبة الحسم العسكري، فدوافع اللين ربما تبدو في مكان آخر، حيث يشير متابعون للملف اليمني إلى ضغوط دولية لا تزال تُمارس على التحالف السعودي الإماراتي لحقن دماء اليمنيين، ويتحدثون عن ملفات تشكل صداعًا مزمنًا لهؤلاء، تتعلق بسجلاتهم الحقوقية، وبالأخص انتهاكات تحمل توقيعهم، وعمرها من عمر حرب اليمن.
خوف التحالف من الملف الحقوقي يُضاف إليه الموت والغارات والمرض، وتجربة مدن جنوب اليمن ما زالت ماثلة للعيان وترسخها الأنباء المفزعة، وآخرها لوكالة أسوشيتد برس عن تعذيب وحشي واغتصاب يجري بإشراف ضباط إماراتيين في معتقلات وسجون معلنة وسرية ويخشى أن تكون الحديدة على هذا الطريق في مدن البارود والدم المتروكة، فلا أحد يضمن شيئًا لا أحد يفعل شيئًا.
#هام
ساهموا في #نشر هذا ليعرف العالم حقيقة #الامارات
—#تقرير مهم جــداً يسلط الضوء على ما كشفته وكالة أسوشيتد برس الأمريكية حول تعرض مئات المعتقلين في سجون #الامارات السرية في #اليمن لأعمال تـعـذيـب وحشي وإغــتــصــاب من قبل ضباط إماراتيين.#ماخفي_اعظمpic.twitter.com/w4xkahLunz— أبو جيزان اليماني (@6AB_JAZAN) June 23, 2018
وغير ذلك، تتوالى المعلومات عن مشاركة عسكرية مباشرة – بما يناقض التصريحات – بلغت بحسب صحيفة الغارديان البريطانية جلوس ضباط بريطانيين وأمريكيين في مواقع قيادة الغارات الجوية، فضلاً عما نقلته رويترز عن برلماني فرنسي عن مشاركة قوات لبلاده في القتال مع القوات الإماراتية، إنها الحرب بسلاحهم وربما أيضًا بخبراء مرتزقتهم.
لكن ذلك لم يفلح في حسم المعركة لصالح تحالف الرياض وأبو ظبي، رغم استعانة أبو ظبي بمؤسس شركة بلاك ووتر سيئة السمعة منذ سنوات لتدريب مرتزقة، خصوصًا من أمريكا اللاتينية لأغراض عسكرية واستخباراتية، وهم الآن في اليمن، ووجود المرتزقة المرتبط واقعًا وشواهد بما يسمى “الحروب القذرة”.
معركة الحديدة.. رهان التحالف الخاسر
لا تزال الضغوط الدولية تُمارس على التحالف السعودي الإماراتي بسبب الانتهاكات الحقوقية
قبل معركة الحديدة، بدأ النظام السعودي حربه للقضاء على حركة الحوثيين وإعادة تثبيت نظام صديق للرياض في اليمن، ومع ذلك فقد فشل في تحقيق أهدافها الجيوسياسية والأيديولوجية بغض النظر عن إنفاق مليارات الدولارات وتجنيد التعاون من دول تابعة لها، وكذلك بعض الدول الغربية دفعت أكبر أزمة إنسانية في العالم بسبب الهجوم العسكري الذي طال أمده في السعودية ملايين اليمنيين إلى حافة المجاعة.
وكان بإمكان الحكومة الشرعية والتحالف الذي تقوده السعودية، خلال الأيام الماضية صناعة انتصار في الساحل الغربي والترويج لهزيمة، معتبرين خطاب عبد الملك الحوثي، عن حدوث تراجعات وتقدمات في سياق أي حرب، بمثابة الانتصار، والجميع ربما ذهب إلى القول إن الحديدة أوشكت على السقوط بيد التحالف والشرعية، الذين صاروا على بعد 20 كيلومترًا من المطار والمدينة.
وبعد يومين فقط، وأقل من ثلاثة وسبعين ساعة، بدت الأمور مختلفة تمامًا، ليس على صعيد المعركة وعلى صعيد الخريطة العسكرية وخريطة التقدمات التي روجت لها فقط، بل على صعيد الخطاب للقادة العسكريين والسياسيين التابعين لللحكومة الشرعية نفسها.
رغم الهجوم الإماراتي الكبير، وتحقيقه بعض النجاحات الصغيرة، فإن المعركة لم تكن سهلة وقصيرة
وفي مقابل إعلان انتصارات “وهمية”، أعلن عضو المكتب السياسي للحوثيين محمد البخيتي استمرار سيطرة قواته على المطار، ويوثق ذلك بالصوت والصورة لكن التحالف السعودي الإماراتي أعلن سيطرته التامة على مطار الحديدة، وقال إنه يواصل مهاجمة جيوب للحوثيين بالقرب منه ومع الإعلان والإعلام المضاد واستمرار الاشتباكات.
ورغم الهجوم الإماراتي الكبير وتحقيقه بعض النجاحات الصغيرة، فإن المعركة لم تكن سهلة وقصيرة، كما أن الواقع الميداني لمسار معارك الساحل يشير إلى أن أنصار الله ما زالوا من يحددون أسلوب المعارك مع قوات العدوان، ويفرضون رؤيتهم عليه عبر السيطرة على الطرق الرئيسية والمهمة والإستراتيجية.
بالإضافة إلى ذلك فإنّ معارك الساحل لا تعني بأي حال من الأحوال أنها نقطة تحوّل عسكري لصالح التحالف، خصوصًا إذا استمرت وتيرة تلك المعارك على هذا النحو، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ معركة الحديدة وإن انتهت؛ غير أنّها تُشكل جزءًا صغيرًا من اليمن الذي توجد فيه قوات أنصار الله.
وبغض النظر عن التطورات الميدانية في الحديدة التي لا يعرف أحد نهايتها، تبقى النوايا السعودية والإماراتية نحو اليمن ومعركة الحديدة بشكل خاص غامضة، كما لا يوجد هناك حتى الآن أيّ موقفٍ واضح من الحكومة اليمنية” التي يترأسها الفار عبد ربه منصور هادي على عكس ما جرى في جزيرة سقطرى.