كثير ما يجمع مسافرون حول العالم أن لإسطنبول سحرًا خاصًا يتفوق على الصورة النمطية السحرية لكثير من المدن الأوروبية وعلى رأسها لندن وباريس، على الرغم من تفوق الأخيرتين عليها من حيث الصورة النمطية الخاصة بالسياحة أو التي يدمجون بها تلك المدن في الأفلام والمسلسلات، فإنه وعلى عكس المتوقع أجمع الكثير من المسافرين من مختلف الجنسيات أن لإسطنبول سحرًا لم يأخذ حقه وسط هيمنة المدن الأوروبية على الساحة.
قبل أن نبدأ في عرض أسباب كل واحد من المسافرين والمغتربين الذين سألناهم عن سر تفضيلهم لإسطنبول على كثير من المدن الأوروبية، دعنا نخبرك أن مدينة إسطنبول من المدن النادرة جدًا التي يمكنك فيها إيجاد كل شيء، وهنا نعني كل شيء حرفيًا، يمكنك إيجاد التاريخ وكذلك الحداثة، يمكنك أن تجد مكانك المفضل على اختلاف كل التوجهات الدينية والاجتماعية والشخصية، فهناك أماكن للملتزمين دينيًا بشكل كبير، وهناك أماكن للفنانين، وأماكن أخرى للموسيقيين، يمكنك أن تجد مطاعم خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، وأماكن تجمع لكل من لديهم اهتمامًا ما سواء كان اجتماعي أم خيري أم ديني أم فني أم سياسي، يمكنك أن تجد كل أنواع الطعام من كل الثقافات وبمختلف مستويات الجودة، ولا يعيب أرخص المأكولات شيئًا، فيمكنك تناول وجبة رخيصة بالفعل أمام منظر ساحر مُطل على البحر.
الجميل في إسطنبول أنك إن أردت شوارع على طراز المدن الأوروبية فستجد الكثير، وإن أردت شوارع لها عمق تاريخي منذ أيام العثمانيين فستجد أكثر، وإن أردت الاستمتاع بالجلوس أمام البحر فلا تمنع عنك المدينة ذلك بأسوار وحواجز بل هناك مقاعد ومنتزهات عامة تجاور السواحل في كل مكان، وإن أردت فقط الجلوس لاحتساء فنجان من الشاي فما أكثر ذلك عند الأتراك بكل مكان في إسطنبول، إذ يكون الشاي إكرامًا من الكثير من المحلات والمقاهي، وإن جال بخاطرك أن يكون هناك مدينة تجمع بين جانب من القارة الآسيوية والقارة الأوروبية وتسمح لك بالتنقل بين الاثنين في غضون دقائق، فستكون تلك المدينة هي إسطنبول.
مكان التقاء لكل شخص
صورة من شارع استقلال في حي باي أوغلو
على الرغم من أن تركيا بلد علماني بطبيعة الحال، فمن وجهة نظر العرب، تعد تركيا بشكل عام وإسطنبول بشكل خاص من أكثر الوجهات في العالم القريبة منهم ثقافيًا ودينيًا، فبعيدًا عن وجود المساجد بشكل ملحوظ في أغلب الأماكن والأحياء في إسطنبول واعتياد الأجانب والأتراك على سماع صوت الآذان والتواشيح الدينية بشكل يومي، قال لنا أحد الطلاب المصريين يُدعى “أسامة” الذي جرب الحياة في إسطنبول وبعض المدن الأوروبية إن أهل إسطنبول ودودون بطبيعة الحال، وهذا ما يجعلهم مختلفين كثيرًا عن الحياة مع أهل لندن أو أهل باريس الذي تطغي عليهم الحياة العملية بشكل واضح أكثر من اهتمامهم بالجانب الاجتماعي الذي يجعله أهل إسطنبول من أولوياته.
تتمتع إسطنبول ببنية تحتية أقوى من كثير من المدن الأوروبية من ناحية المواصلات العامة ورخصها نسبيًا مقارنة بمدن مثل باريس أو لندن
إذا تجولت في شوارع إسطنبول أيام العطلة الأسبوعية ستجد أن كلام أسامة صحيح بشكل كبير، حيث يمكنك أن تجد الشوارع والمقاهي والمحلات والمنتزهات وسواحل البحار مزدحمة بشكل كبير يومي السبت والأحد (العطلة الأسبوعية في تركيا)، فحتى لو كان الناس من طبقة اجتماعية فقيرة أو متوسطة الحال فهذا لا يمنعهم من الاستمتاع بوقتهم يومي العطلة من كل أسبوع والتنزه في الأماكن العامة التي توفرها بلدية إسطنبول بشكل واسع ومنظم بالقرب من البحر أو في المتنزهات، وتلك من إحدى العوامل التي تضفي جانبًا نفسيًا على المغتربين في المدينة وتجعلهم لا يشعرون بالغربة كثيرًا بسبب هيمنة العلاقات الاجتماعية وقوتها في مدينة مثل إسطنبول.
صورة من داخل إحدى محطات المترو في إسطنبول
أجمع الكثيرون ممن سألناهم عن تجاربهم الشخصية بين الحياة في إسطنبول والحياة في مدينة أوروبية مثل لندن أو باريس على أنها تتفوق على تلك المدن وكثير من المدن الأوروبية الأخرى في تطور البنية التحتية، وهو ما قد يكون مفاجأة لكثير من منتقدي الاقتصاد التركي في الفترة الأخيرة، إلا إنها بشهادة أهل المدن الأوروبية أنفسهم من أفضل المدن من ناحية المواصلات العامة التي تغطي حجم المدينة الكبير جدًا والمنقسم على جانبين: آسيوي وأوروبي يفصلهم مضيق البسفور.
لدى إسطنبول مواصلات من كل الأنواع، فتجد الحافلات العامة بمختلف أنواعها والمترو والترام والعبارات و”المرمراي” المترو الذي ينقل المسافرين تحت مياه مضيق البسفور، واستطاعت بلدية المدينة المحافظة على نظافة كل نوع من أنواع تلك المواصلات بشكل دائم على عكس الحال في المواصلات العامة بباريس على سبيل المثال.
على الرغم من حجم المدينة الهائل، فإن مترو إسطنبول يأتي على الرصيف المخصص له في كل محطة كل 4 دقائق في أكثر ساعات الذروة والازدحام على عكس كثير من المدن الأوروبية المزدحمة التي قد يصل فيها المترو كل 7 دقائق
تحدثنا مع طالب تركي درس الاقتصاد في جامعة بولندية وأنهى دراسته وعاد للحياة في إسطنبول، يقول لنا على الرغم من أنه يتمنى لمدينته أن تصير أفضل من الوضع الحاليّ الذي توجد عليه الآن، فإنه وجد في إسطنبول أمانًا أكثر مما وجده في بولندا التي وصف أهلها لنا بأنهم شديدو العنصرية تجاه الأتراك أو كل من كان مسلمًا بشكل عام، وروى لنا أنه قد تعرض مرة للاعتداء الجسدي لأن له مظهرًا عربي الشكل في أثناء دراسته ببولندا.
كما روى لنا أن من أكثر المظاهر التي سببت له قلقًا في أثناء سياحته في كثير من المدن الأوروبية مظاهر المشردين الذين يملأون الشوارع ليلًا في كل مكان وبالأخص شوارع باريس، قال لنا “آنيل” إن كثرة المشردين في كل مكان سببت له قلقًا وتهديدًا بالسرقة بشكل دائم.
لا يعني آنيل هنا أن شوارع إسطنبول تخلو من المشردين، بل يوجد فيها أحياء عشوائية ويوجد بها مشردون، إلا أن نسبة مقابلة الشخص العادي الذي يعيش في إسطنبول لمشردين قد تكون قليلة جدًا نسبة إلى أعداد المشردين الهائلة في شوارع كثير من المدن الأوروبية وحتى الأمريكية.
تكاليف الحياة ليست باهظة الثمن
تحدثت لنا “نور” طالبة دراسات عليا في إسطنبول عن وجهة نظرها في الفرق بين إسطنبول وكثير من المدن الأوروبية في تكاليف المعيشة، حيث قالت لنا “رغم أن إسطنبول قد تبدو مدينة مرهقة جدًا من ناحية المصاريف الشهرية، فإنها دون شك أقل بكثير من المدن الأوروبية، فيمكن لطالب صاحب ميزانية محدودة جدًا شهريًا أن يستمتع بحياته ويتنقل ويستمتع بوقته ويجرب كثير من المأكولات المختلفة في المطاعم والمقاهي ويستأجر بيتًا صغيرًا له ويتكفل بمصاريفه الدراسية بمبلغ قد يتضاعف إلى الـ4 أو الـ5 أحيانًا بالمقارنة بميزانية طالب يعيش في باريس أو لندن”.
تقول لنا نور من مصر إن الأتراك ليسوا غريبين كثيرًا عن العرب، لهم نفس العادات والتقاليد، يتشاركون كلمات كثيرة في اللغة، يفهم كثير منهم اللغة العربية، لهم نفس الطباع ونفس السلوكيات في الحياة اليومية، كما لهم نفس السلوكيات في الاحتفالات بالأعياد مثلًا، ولهذا فلا يشعر العربي على وجه الخصوص بالغربة بشكل كامل حينما يعيش في إسطنبول.
اجتمع كثير من المقيمين في إسطنبول بعد سفرهم حول العالم لمدن مختلفة من ثقافات مختلفة أنهم يشعرون دومًا بالحنين إليها ويرغبون بالعودة إليها أكثر من العودة إلى مدنهم التي ترعرعوا فيها، حيث قال لنا عبد الرحمن طالب سينما في “باريس” أنه رغم حبه للقاهرة، يشعر بالحنين أكثر لإسطنبول التي أقام فيها قبل الدراسة في باريس، ولا يجد في الأخيرة نفس الأجواء التي يجدها في إسطنبول التي تشعره بالانتماء أكثر.
تستطيع إسطنبول أن تمنح الفرصة لأي مقيم فيها ليتكيف على أساليب حياة مختلفة جدًا ومتنوعة بشكل كبير، إذ تحولت تلك المدينة التاريخية العريقة من مجرد مزار سياحي يجذب ملايين السياح سنويًا إلى نقطة التقاء لكل الطلاب الدوليين والفنانين العالميين ورواد الأعمال من كل مكان وفي كل مجال، بل تجذب اهتمام الأفراد بشكل شخصي ليقيموا فيها وتكون لديهم فرصة الالتقاء بكثير من الجنسيات المختلفة وكثير من الثقافات واللغات في مكان واحد يسمح لهم جميعًا بالحياة في سلام.