منذ شهر تقريبًا ومع ذروة أزمة انقطاع الكهرباء في فصل الصيف، بدأت وزارة الكهرباء المصرية الترويج لحملة إعلانية موسعة، في التلفزيون وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، لحث المواطنين على إعادة النظر في أمر الطاقة.
لكن على عكس الحملات التي كانت تروج لترشيد الاستهلاك المنزلي والتجاري بغرض التخفيف عن الشبكة المركزية والحد من الانقطاعات، فإن تلك الحملة قد دعت المواطنين – الصالحين – للإبلاغ عن جيرانهم الذين يستخدمون وصلات غير شرعية، أو هؤلاء المتحايلين على نظام القراءات بغرض تقليل قيمة الفواتير.
ونظرًا لحساسية ذلك السلوك في الثقافة الشعبية؛ حيث ينظر إلى الواشي المتعاون مع السلطات ضد جيرانه نظرة ازدراء واحتقار، ويتم وصمه وتصنيفه اجتماعيًا كـ”منبوذ”، وتحفل الأدبيات المحلية بأوصاف لهم مثل “عصفورة” و”أمنيجة” و”مرشدين” وضرورة تجنبهم، كما لو كانوا أصحاب مرض معدٍ، وربما أسوأ، فأصحاب الأمراض المعدية ينظر إليهم نظرة تعاطف، خلاف الواشي. فإن المادة الإعلانية حاولت التخفيف من تلك الحساسية، بالإشارة إلى أن بيانات المبلغ ستظل سرية، ولن تشاع في المجتمع هوية المتعاونين مع السلطة، وبنزع الشرعية عن المخالف، إذ هو – وفق الإعلان – يسرق جاره الملتزم، ويضر باستقرار الخدمة.
المراقبة الذاتية
تلجأ الأنظمة ذات النزعات الفاشية إلى الحث على تلك السلوكيات، والترويج لتلك القيم المستهجنة اجتماعيًا لجملة من الأهداف، على رأسها ترسيخ هذا الشعور لدى المواطنين، بأنهم تحت المراقبة، غير معلومة المصدر، دائمًا، ما يعزز لديهم الشعور بالانضباط والانصياع والخنوع للسلطة، بأقل قدر من المجهود.
وبشكل خاص، فإن النظام المصري يلجأ إلى جملةٍ من التقنيات لبث تلك المشاعر في نفوس المواطنين، منها تجنيد العناصر المدنية المتغلغلة في دهاليز وخبايا الحياة اليومية، مثل حراس العقارات والسياس وأصحاب الورش، كما يشير أحمد مولانا في كتاب “العقلية الأمنية“، الذي يقدم معالجة تحليلية لأرشيف أمن الدولة المصري المسرب بعد اقتحام مقراته إبان ثورة يناير.
وفقًا لتلك الوثائق، فإن بعض أصحاب تلك الوظائف، ذات الطابع الخدمي الاقتياتي من ذوي التعليم والمهارات المحدودة، يكونون على اتصال مع وسطاء ذوي صفة أمنية “المخبرين”، بغرض الإبلاغ عن أي أنشطة مريبة في نطاقات عملهم، حيث يصبح معيار الريبة هو الاصطدام بأي شكل مع مصالح النظام الحاكم.
ورغم التوسع في نشر كاميرات المراقبة في الميادين والشوارع وجمع البيانات البيومترية عن المواطنين واستخدام تقنيات رصد المخالفات عن بعد، فإن النظام المصري لا يزال يعول أيضًا على “الرقابة الذاتية المتبادلة”، كما يتضح من رسالة الحملة الإعلانية الخاصة ببلاغات الكهرباء.
إذ تساعد تلك الأدوات مجتمعة، البشري منها والتقني، في تعزيز شعور الخوف من المجهول، حتى إن “الحيطان” يصير لها “ودان” كما يقول المثل المصري المعروف. وفي نفس الوقت، تقليص الاعتماد على العنصر البشري الرسمي، بما يحد من الجهد والنفقات العامة، لصالح المراقبة المرنة اللامركزية.
البارانويا للجميع.. المواطن ضد المواطن!
كلما زاد التسلط والقهر، زادت اعتلالات النفس، وأصبح الجو العام ملبدًا بالشك والوساوس والهلاوس والضلالات. ليس ذلك وصفًا أدبيًا لملابسات سيادة الأنظمة المستبدة على المجتمعات، وإنما هي حقيقة كامنة ومبثوثة في مقررات علم النفس وعلم الاجتماع في صيغتهما السياسية.
على عكس ذلك التصور المرضي عن المجتمع الخامل المعتل، فإن “الألفة” تعد شرطًا رئيسًا للسلامة الاجتماعية، سواء كان ذلك المجتمع في مرحلة الثورة والجموح والاكتشاف والفاعلية، أم في خضم حالة من الاستقرار والنمو والثقة والتحقق.
فلا توجد مظاهرة حقيقية تعبر عن مطالب شعبية يكون السواد الأعظم من أصحابها من الغرباء والمرتابين في بعضهم البعض، وإنما ينبغي أن تكون الوجوه مألوفة، حيث يسبق التحرك الاجتماعي عادة أنشطة من التشبيك والتعارف وتشاطر القيم وتحديد المهام والمطالب، ومن هذا الإيلاف تكتسب الاحتجاجات زخمها في مواجهة بطش السلطة.
كان التفويض الجماعي بالقتل، الذي طالبت السلطة المواطنين، الصالحين في نظرها، بمنحها إياه، يوم 26 يوليو/تموز 2013، المحطة المفصلية الأولى الأكثر تكثيفًا لتنامي هذا الوعي الشرير لدى السلطة بضرورة شيوع ثقافة الكراهية والارتياب بين المواطنين
وبينما كفت المدينة الحديثة، التي لا يكاد الإنسان فيها يعرف شيئًا عن جاره القاطن في الشقة المقابلة، في ظل الانهماك الجمعي المحموم على تدبير الرزق وتحقيق الذات الفردانية، الحكومات قدرًا معتبرًا من عناء تعميم الاغتراب والوجوم وعدم الألفة.
فإن النظام في مصر بدوره قد عزز ذلك الشعور العام بالاغتراب والارتياب الكامن ابتداءً في فلسفة المدينة، من خلال قطع الطريق على أي محاولات للتشبيك، بتفكيك النقابات والاتحادات الطلابية، والحيلولة دون قيامها، وعبر الإثقال المتعمد لكاهل المواطنين بالأعباء المعيشية الهائلة.
حتى إن قرارًا حكوميًا قد صدر قبل أعوام يفرض على مالكي العقارات إخطار أقسام الشرطة بهوية مستأجري الوحدات السكنية، بحيث لا تقتصر العلاقة التعاقدية على الطرفين المؤجر والمستأجر، لتصبح السلطة طرفًا فيها، لا من جهة الفصل المدني عند التنازع، وإنما من جهة أمنية تمكنها من تدشين قاعدة بيانات محدثة عن حركة المواطنين في المجتمع أولًا بأول.
وضمن هذا المسعى الخاص بضرب فكرة المجتمع نفسها، أو تقسيم المجتمع وتشظيه في أقل تقدير، بحيث يسهل السيطرة عليه، فقد حرص النظام منذ صعوده قبل عقد، على إشراك العناصر المدنية من “المواطنين الشرفاء”، جنبًا إلى جنب مع القوات ذات الصفة الرسمية من الجيش والشرطة في معركة إخضاع الديمقراطية والقوى الأهلية الفاعلة في المجتمع.
فكان التفويض الجماعي بالقتل، الذي طالبت السلطة المواطنين، الصالحين في نظرها، بمنحها إياه، يوم 26 يوليو/تموز 2013، المحطة المفصلية الأولى الأكثر تكثيفًا لتنامي هذا الوعي الشرير لدى السلطة بضرورة شيوع ثقافة الكراهية والارتياب بين المواطنين، بغرض تسهيل السيطرة على المجتمع.
لنتذكر معًا أنه قبل تلك الحملة الإعلانية المروجة لتطبيع “دق الأسافين” بين المواطنين فيما يخص ملف مخالفات الكهرباء بعقد كامل، كانت ظاهرة البلاغات الكيدية المغلفة بصيغة سياسية أو أمنية، قد تفشت في المجتمع، بعد تشجيع السلطة المواطنين على الإبلاغ عن جيرانهم الرافضين للانقلاب العسكري.
بل واستعلن السيسي صراحة برغبة السلطة في شيوع تلك النفسية المعتلة بين عناصر المجتمع، لدرجة أنه قد حرض الآباء، فبراير/شباط 2023، خلال مناسبة رسمية في الإسماعيلية، على إبلاغ أجهزة الأمن عن أبنائهم، إذا لمسوا فيهم نزوعا نحو الالتزام الديني، مبررًا ذلك بالخشية على الشباب من الانضمام إلى الجماعات المتطرفة.
ومن السياسة إلى الاقتصاد، يبدو أن السيسي يمد الخط على كامل استقامته، إذ تأتي تلك الحملة الإعلانية المحرضة على تبادل البلاغات بين المواطنين في مخالفات الكهرباء، بعد عدة تصريحات أبدى فيها الرئيس المصري انزعاجه الشديد من حجم “سرقات” الكهرباء، الذي وصل إلى مليون مخالفة شهريًا، بمجموع 96 مليون مخالفة خلال 8 أعوام، على حد قوله.
المجتمع كأزمة!
يلقي النظام المصري بالكرة في ملعب المجتمع، وهو نمط مطرد على الدوام في تشخيصه لأي إشكال: ألا يتحمل صناع القرار مسؤولية أخطائهم، فيحيلونها إلى أي تعليلات أخرى، عداهم.
فالسبب في أزمة النقد الأجنبي وشح السلع وانخفاض قيمة العملة الوطنية هو جائحة كورونا وحرب أوكرانيا والتوتر في غزة، وليس السياسات الاقتصادية غير الرشيدة والإنفاق الحكومي غير المنضبط.
والسبب في عدم شعور المصريين بالتحسن الإيجابي في حياتهم اليومية بعد عقد من حكم السيسي والوعود البراقة لا يتعلق بسوء الإدارة أبدًا، بقدر ما يتعلق بالثقافة المحلية الخاطئة إزاء قضية المواليد والإنجاب، وحجم “التركة” المهترئة التي تطوع الرئيس لقبولها بدافع إنقاذ الوطن، أو كما قال السيسي نصًا عن طلب الجيش والمجتمع منه حكم البلاد: “قالوا لي خد دي”.
والمصريون في نظر النظام السياسي الحاكم، هم جمهرة من “الطماعين” المتطلعين دون وجاهة أو أمارة لهذه التطلعات، ومن ذلك رغبتهم في الحصول على كهرباء منزلية مستدامة، رغم أنهم يدفعون بالجنيه، بينما يمكن للحكومة بيع الغاز الطبيعي المسال والكهرباء الجاهزة للخارج بالعملة الصعبة، كما قال السيسي في عدة مناسبات.
هذا هو أحد المضامين الكامنة في الحملة الإعلانية الرسمية الداعية لتطبيع ثقافة الوشاية في المجتمع، فأحد أبرز أسباب تردي الخدمات الطاقوية في البلاد، هو ثقافة سرقة التيار، وليس سوء الإدارة الحكومية، وعلى المجتمع إذا أراد تحسن الخدمة، أن يتبرأ، عمليًا، من هؤلاء الخارجين على النظام العام، أو كما قال المشير طنطاوي في إحدى الوقائع الدامية إبان المرحلة الانتقالية بعد ثورة يناير منتقدًا المجتمع: “هو الشعب ساكت ليه؟”.
بمرور الوقت، تطورت تلك الدعوة الاستنكارية الصادرة عن المشير لسلبية الشعب تجاه الخارجين عن النظام العام، من مجرد عتاب عابر إلى “خطة عمل” تتواطأ خلالها السلطة مع “المواطنين الشرفاء” بدءًا من فض مظاهرات المعارضين في الشارع، إلى الوشاية بالمتمردين على النظام في صورته الاقتصادية الجبائية: استيفاء أموال الكهرباء.
المراقبة والعقاب
لا يتعلق الأمر بمجرد الدعوة إلى شيوع الريبة في المجتمع عبر التحريض على إبلاغ المواطنين عن بعضهم البعض في ملف سرقات الكهرباء، بقدر ما تشير المعطيات إلى تبني النظام السياسي الحاكم في مصر هذا النموذج في الإدارة على نطاق سيادي عمومي، تصبح معه تلك الحملة الإعلانية مجرد مثال دالٍ ومكثف فقط.
تشبه تلك النظرية ما ذكره ميشيل فوكو في سفره الصادر قبل حوالي 50 عامًا تحت مسمى “المراقبة والعقاب”، الذي يرصد فيه تطور أساليب العصر الحديث، مستعينًا بنموذج “البانوبتيكون” الذي يجسد برج مراقبة على رأسه حارس واحد يطل على كل الوحدات السجنية المصغرة، بحيث يمكن للحارس عمليًا رؤية أي وحدة يريد، ولكن لا يمكن للمحتجزين رؤية الحارس ومعرفة الوحدة الخاضعة للمراقبة بالضبط.
يؤشر هذا النموذج الهندسي، البانوبتيكون، ويحيل إلى قدرة الدولة في العالم المعاصر على إخضاع المواطنين المستهدفين بأقل قدر من المجهود والكلفة إلى المراقبة، بالتزامن مع فرض حالة من “الانضباط الذاتي” في عموم المجتمع، فالمحتجزون في النموذج لم يكن لديهم القدرة على تمييز الوحدة السجنية الخاضعة للمراقبة، وهو ما يجعلهم في حالة من الشك والتوتر.
من جهته، بات النظام المصري، في صيغته المبنية على انقلاب يوليو/تموز 2013، أكثر نهمًا لاستخدام التكنولوجيا في المراقبة، ومن ثم في العقاب في مرحلةٍ تالية. سياسيًا، كشفت تحقيقات استقصائية توسعًا في استخدام كاميرات المراقبة الحديثة في السجون المصرية، بالمخالفة للمعايير الحقوقية التي تكفل للمحتجزين الحد الأدنى من الخصوصية في مقار الاحتجاز.
كما توسع النظام في استيراد أدوات مراقبة الإنترنت وتحليل البيانات لتتبع المعارضين من الخارج، وبات يستخدم التكنولوجيا في تقنين عزل المعتقلين السياسيين عن العالم الخارجي، عبر ترويج تقنية العرض على القضاة أونلاين من داخل السجن.
جبائيًا، لوحظ أيضًا تزايد استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في مراقبة السلوك الاقتصادي للمواطنين، بهدف ضم أكبر قدر من السكان إلى قاعدة بيانات مركزية محدثة تسهل عمليات فرض الضرائب بشكل محوكم وكفء، وهو ما يدخل ضمن تصنيف “الاقتصاد السياسي”، بما في ذلك رادارات السرعة التي غزت طرق البلاد، ونوايا حضور “البصمة” البيومترية داخل المدارس.
وفي ملف الكهرباء، فإن من سيثبت تورطه في الحصول على الطاقة من خارج المنظومة أو تلاعبه بالقراءات، فإنه إلى جانب السجن والغرامة، سيعاقب بالعزل التلقائي – إلكترونيًا – من منظومة الدعم السلعي، كما سيستبدل عداده القديم بآخر مسبق الدفع يعمل بالذكاء الصناعي، يقطع الكهرباء عن المستخدم حال انتهاء الرصيد، بحيث تصبح التقنية مقصلة حقيقية في يد السلطة على رقبة المواطن، الذي يعيش متوترًا على الدوام في مجتمع هش مهجوس بالشك!