“حالة انهزام جماعية، يأس وخمول وعدوانية ترسّخت في أجساد وأرواح وأحاديث جزء كبير من الشعب المصري”، بهذه الكلمات وكلمات أخرى متقاربة يعبّر الكثير من المواطنين المصريين، عن شعورهم بالإحباط من واقعهم الحالي، سواء من خلال النقاشات بينهم، أو حتى من خلال الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي.
انهزام مجتمعي جاء نتاج سنوات من الاستبداد والقمع تحت حكم عبد الفتاح السيسي، لكن ما هي الأسباب التي أوصلت المجتمع المصري إلى هذا السواد النفسي؟ وكيف تُظهر الدولة ونظامها الاستبدادي مدى نظرتها إلى المواطن المصري وكأنه مواطن رخيص بلا أي قيمة؟ كما كيف تظهر من خلال ممارستها السلطوية مدى ضعفها وانحنائها أمام دول أخرى؟
على مرّ عقود طويلة، عاش المواطن المصري دون أن يشعر أنه مواطن له حقوق وحريات وكرامة، فكل أنظمة الحكم التي مرّت على البلاد كانت تعامله معاملة استبدادية متعالية، كأنه رقم يسجَّل في تعدادها السكاني، مجرد آلة مكوّنة من لحم ودم، تعمل من أجل زيادة الإنتاج الرأسمالي، وبقاء وهيمنة واستقرار نظام الحكم.
فلم يشعر المواطن المصري بأي قيمة له، سوى في سنوات ما بعد الانتفاضات الثورية التي مرّت بها مصر، كثورة عام 1919 وحركة الضباط في يوليو/ تموز 1952 وصولًا إلى ثورة يناير 2011، حيث شعر المواطنون أن صرخاتهم أحدثت بعض التغييرات حتى وإن كانت لمدة بسيطة، قبل أن يتم الانقلاب عليها من خلال أنظمة الحكم الاستبدادية، التي تكره دائمًا صوت المواطن وتمحي كرامته وحريته.
في سنوات حكم عبد الفتاح السيسي، شهدت مصر آلة قمع لم يكن لها مثيل في حكم الضباط من قبله، وحتى في عهد جمال عبد الناصر الذي اتسم بتأميم المجال العام، والسيطرة على الإعلام والفن والصحافة، وإرهاب وسجن وتعذيب معارضيه، فكان عهد السيسي، حسب الأرقام الموثقة، العهد الأسود من حيث القمع، الذي خلّف آلاف القتلى في الميادين والسجون، وعشرات الآلاف من السجناء، ومثلهم من الهاربين خارج البلاد، وعشرات المختفين قسريًا في ظروف غامضة، حيث بلعتهم آلة الدولة القمعية.
كل هذا القمع والترهيب لم يكن أثره على من ذاقه فحسب، بل امتد ليشمل فئات كثيرة ليس لها علاقة بالمعارضة السياسة بشكل مباشر، لكن الضرر وقع عليها بسبب الأزمة الاقتصادية التي خلّفت ارتفاعات متتالية لأسعار السلع والإيجار والمعيشة في مصر، ما جعل المواطنين المصريين يقضون أيامهم في وحول الفقر والهمّ، باحثين عن الستر لا أكثر.
وأصبحت يوميات المواطنين كلها تدور حول البحث عن عمل، أو مال كافٍ، أو سلع رخيصة الثمن، وعن حياة أكثر تقشفًا وزهدًا، وأكثر تكيُّفًا مع سياسات القمع والإفقار التي مارستها السلطوية السياسية بحقّهم.
كل هذا التعب والشقاء في المعيشة مقابل رؤيتهم لطبقات سلطوية عليا تعيش حياة شديدة الرفاه، في السيارات والكومباوندات ومصايف السواحل الشمالية، سواء برؤية مباشرة أو حتى من خلال شاشات الدراما والسينما.
هذه التمظهرات وتفاوتاتها الطبقية سلبت الناس إنسانيتهم، ونفت كينونتهم كونهم ذوات مستقلة من المفترض أن يكون لها جسد وفكر خاصَّين بها، وجعلتهم في نظر أنفسهم مسوخًا، أجسادًا تتحرك بلا أي قيمة، أو حتى تماثيل خشبية متشابهة متحركة بلا روح حقيقية تسعى وتفكر.
وانعكس هذا على أحاديث الناس في الفترة الأخيرة، بل أكسبهم ما سمّاه أستاذ الاجتماع اللبناني مصطفى حجازي بـ”الاكتئاب الوجودي”، أي أنهم وُضعوا، رغمًا عنهم، تحت حالة نفسية شديدة السوء، وأُجبروا عليها، ولم يعد أمامهم فعل أي شيء، فلو فكروا في الاحتجاج عن السياسات نالوا من السلطة نصيبهم من القمع، وفي المقابل لا يستطيع التكيُّف أن ينتشلهم من يأسهم الوجودي.
كل هذه السياسات القمعية التي تمارسها السلطوية في مصر، عكست ضعفها من خلال ممارسات أخرى، لكنها تتفق معها بما أنها أيضًا ممارسات قمعية تهدر حقوق المواطنين المصريين، فقد تكررت الحوادث التي يُقتل فيها مواطنون مصريون سواء خارج مصر أو داخلها على يد مواطنين خليجيين، لا سيما سعوديين، وتلقى هذه الحوادث صمتًا وتواطؤًا من الحكومة المصرية وأجهزتها القضائية ودبلوماسيتها الخارجية.
منذ أيام بسيطة قُتل مواطن مصري بمدينة الإسكندرية، اسمه أحمد سعيد ويعمل عامل توصيل، جرّاء سحله بواسطة سيارة يقودها مواطنان سعوديان، وقد لاحق المواطنون المصريون السيارة وأجبروها على التوقف، وقُبض عليهما، لكن الغريب أن النيابة العامة المصرية لم تصدر أي بيانات تعطي تفاصيل عن الواقعة، والصحافة المصرية، المسيطَر عليها من قبل جهاز المخابرات العامة، على غير عادتها في تغطية أخبار الحوادث، لم تلقِ بالًا أو اهتمامًا بتداول الحادثة وتفاصيلها.
هذا ليس جديدًا على السلطات المصرية أو وسائل إعلامها وصحافتها، فقد شهدت السنوات الماضية حوادث قتل واعتقال لمواطنين مصريين داخل المملكة السعودية، إذ اُعتقل الشاب أحمد ضيوف خلال عمله مع إحدى الدور المصرية في معرض الرياض الدولي عام 2022، وظل شهورًا داخل السجن حتى أُفرج عنه، ولم تتحرك الدبلوماسية المصرية بشكل حقيقي وفعّال منذ اللحظة الأولى لإنقاذ الشاب أو حتى الوقوف على أسباب اعتقاله.
أيضًا اعتقلت السلطات السعودية مجموعة من المواطنين المصريين النوبيين، وأصدرت بحقهم أحكامًا قضائية تصل إلى 18 عامًا بتُهم نشر أخبار زائفة، وتنظيم تجمع دون ترخيص، ولم تتحرك الخارجية المصرية لتوضيح ماذا حدث، ومحاولة حمايتهم من قمع السلطات السعودية.
هذا فضلًا عن حالات القتل التي تمّت بحقّ المصريين المغتربين العاملين في المملكة، مثل مقتل الصيدلي المصري محمد يونس عام 2022 على يد امرأة سعودية، إثر عدم موافقته بيع الدواء لها دون وصفة طبيب، أو حادثة مقتل المدرّس المصري هاني عبد التواب عام 2020 على يد تلميذ سعودي بسبب درجات الامتحان، فضلًا عن حوادث أخرى لقتل العمالة المصرية بسبب الخلافات مع أصحاب العمل السعوديين.
لم يكتفِ القمع السلطوي للنظام المصري بحقّ الفئات التي تعارض سياساته، بل أدّت حاجته إلى التمويل الخليجي من قروض وودائع وشراء الأصول المصرية، إلى إنتاج سياسات خاضعة تجاه أنظمة الخليج، لا سيما السعودية والإمارات، فتجد إثر هذا الخضوع سياسة مصرية ضعيفة ولا مبالية ومستسلمة تجاه ما يتعرض له المصريون، سواء من حالات اعتداء واعتقال وقتل من قبل السعوديين، داخل مصر أو حتى وخارجها.
كما أتى هذا الخضوع على حساب المواطنين المصريين، فمن كل ناحية ومن أكثر من جهة يتعرض المواطن المصري لانتهاك حقه وكرامته وحريته من قبل أطراف مختلفة، وكأن المصري لن يفلت من إهدار حقه في كل وقت وأي مكان، لأن لا سلطة تعطيه حقه أو حتى تحميه في حالة تعرضه للاعتداء، بل كأن السلطة أعطت ضوءًا أخضر لسلطويات حكم أخرى تستبيح المواطن المصري.