تشهد مناطق شمال سوريا تفاقمًا ملحوظًا في الأزمات النفسية بين السكان، نتيجة تراكم العديد من العوامل التي أثرت بشكل كبير على الصحة النفسية للأفراد، فقد أدّت السنوات الماضية من نزوح وقصف مستمر من قبل نظام لأسد وروسيا على المنطقة إلى خلق بيئة معيشية قاسية.
وبينما تزداد معدلات الاضطرابات النفسية في الشمال السوري، تعاني المنطقة من نقص في الكوادر الطبية المتخصصة في مجال الصحة النفسية، في ظل سعي الجهات المعنية، بما في ذلك مديرية الصحة ومنظمات المجتمع المدني، إلى مواجهة هذه التحديات من خلال تنظيم حملات توعية، وتدريب كوادر طبية جديدة، وتقديم جلسات دعم نفسي للمحتاجين.
عوامل الاضطرابات
على مدى الأشهر الماضية ازدادت الاضطرابات النفسية في الشمال السوري، حيث لاحظ المختصون النفسيون زيادة في أعداد زائري العيادات النفسية، ومعاناة الكثير منهم بحالات القلق والاكتئاب والشعور بالذنب.
ويعود ذلك إلى العديد من العوامل، التي يمكن تسليط الضوء عليها من خلال إحصائيات منظمات إنسانية أو الحديث مع أخصائيين نفسيين.
أول هذه العوامل هو تزايُد معدلات البطالة بين المدنيين في الشمال، والتي وصلت إلى 88.82% بشكل وسطي بحسب إحصائية قام بها منسقو استجابة سوريا، حيث يواجه الشاب مشكلات في تأمين فرصة عمل يؤمن من خلالها مستقبلًا بسيطًا، لا سيما أن مناطق الشمال السوري مطوقة بحدود سياسية تمنع الأهالي من الخروج منها بطرق نظامية، حيث يضطر الشاب إلى البحث عن عمل ضمن بقعة جغرافية ضيقة ومحدودة ومكتظة بالنازحين من كافة المحافظات.
ووفق منسقو استجابة سوريا، فإن مناطق شمالي غربي سوريا شهدت حركة قدوم من مناطق النظام السوري عبر طرق التهريب والمعابر غير النظامية، حيث بلغ عدد الوافدين 17 ألفًا و843 شخصًا منذ بداية عام 2024، في حين أن عدد الوافدين من تركيا إلى الداخل السوري عبر معبرَي باب السلامة وباب الهوى بلغ 47 ألفًا و893 شخصًا.
حسب العامل في مجال الصحة النفسية عبد الواحد عبدو، فإن كثيرًا من الناس لم تستطع التكيُّف مع الظروف التي يعيشها الشمال السوري في الوقت الراهن، وإن أعداد الشباب الذين يراجعون العيادات النفسية في ازدياد ملحوظ.
ويقول عبد الواحد لـ”نون بوست” إن “أكثر الحالات التي تزور العيادات النفسية هي حالات الاكتئاب والقلق، نتيجة الظروف التي يعيشها السوريون من نزوح وغياب الرؤية الواضحة للمستقبل، وبشكل خاص فئة الشباب الذين لا يستطيعون تأمين فرص عمل ويتحملون أعباء الحياة الكبيرة وظروفها القاسية”.
ويضيف أن الحرب والنزاعات يلعبان دورًا رئيسيًا في تكوين اضطرابات نفسية لدى السوريين، حيث إن مبتوري الأطراف والأشخاص الذين تعرضوا لإعاقة جسدية بسبب الحرب بات يرافقهم الشعور بالخزي والخجل والاكتئاب والانعزال عن الناس، كما أن التشتُّت الأُسري ونزوح أفراد من العائلة دون البقية وهجرة البعض إلى الدول المجاورة، أثار لدى الكثير من السوريين الشعور بالوحدة والضعف.
وحسب إحصائية مديرية الصحة لعام 2023، فإن “نسبة الشكاوى المتعلقة بضغوط الحياة بلغت 27%، في حين أن نسبة حالات الاكتئاب 26% واضطرابات القلق 14%”.
التعنيف المدرسي
وتتزامن البطالة شمالي غربي سوريا مع ارتفاع أجور التعليم، خاصة في المرحلة الثانوية والجامعية، حيث تفوق الأقساط الدراسية راتب الموظف متوسط الدخل بأضعاف.
وعانى الطالب الجامعي (م. م)، طلب عدم الكشف عن اسمه، لفترات طويلة من اكتئاب أدّى إلى هلوسات وأزمات نفسية وجسدية.
ويقول لـ”نون بوست” إن “الضغط العائلي الذي مرَّ به بسبب الضيقة المادية جعله يشعر بالذنب، إلى جانب إصابته بالاكتئاب، حيث إن مصاريف جامعته باتت عبئًا على الأسرة بأكملها، إضافةً إلى أجور المواصلات المرتفعة ومستلزمات القرطاسية والمقررات وغيرها، وقد تعاطى أنواعًا من الأدوية المهدئة والمنوّمة ليتجاوز تلك المرحلة التي يعتبرها الأصعب في حياته”.
وتؤكد العاملة في مجال الصحة النفسية في إدلب، ميس نجم، لـ”نون بوست” أن “صعوبات الدراسة سبب من أسباب الاكتئاب عند الشباب، حيث واجهتني حالة محاولة انتحار لطالبة تبلغ من العمر 19 عامًا قامت بقطع شريانها، وإن سبب الانتحار يعود إلى حصولها على معدّل لا يرضي عائلتها التي تطمح لدخولها كلية الطب، لا سيما أن الطالبة قد تعرضت لتعنيف من قبل الأهل وإجبارها على إعادة السنة الدراسية مجددًا”.
ويعتبر التعنيف المدرسي من العوامل التي تؤدي إلى اضطراب نفسي لدى الطالب والذي يؤدي به إلى الانتحار، في حين تعود الظاهرة إلى الضغوط الحياتية التي يعيشها المعلم السوري، والذي يجد صعوبة في التحكم بانفعالاته.
ويقول الطبيب النفسي موفق عموري لـ”نون بوست”: “واجهت حالة محاولة انتحار لطفل يبلغ من العمر 9 سنوات، بسبب التعنيف الذي يتعرض له في مدرسته”.
ويضيف عموري أن “هناك عوامل تساهم في انتشار الاضطرابات النفسية واستمرارها، كالنزوح والفقر وانتشار المواد المخدرة وخطر الحرب المستمر، وفي ظروفنا الراهنة فإن الحلول ضيقة جدًا ومقيَّدة، إضافة إلى أن كارثة الزلزال كان لها أثر نفسي كبير على الناس، ولا تزال هناك حالات تراجعنا للتشافي من أثر صدمة الكارثة”.
تزايد الانتحار
مع تزايد الضغوط النفسية والاجتماعية، بدأت معدلات الانتحار تشهد ارتفاعًا مقلقًا خلال الفترة الأخيرة، حيث يواجه الأطباء والمختصون مخاوف من تفاقم الكارثة نظرًا إلى ارتفاع نسبة محاولات الانتحار التي تم إنقاذها.
وحسب ما أكدت مديرية الصحة في إدلب لـ”نون بوست”، فإن عدد المراجعين سنويًا لمراكز الصحة النفسية بلغ حوالي 60 ألف شخص، في حين أن هناك تزايدًا ملحوظًا في حالات الانتحار لهذا العام، حيث تمّت إحالة أكثر من 3 آلاف حالة متأزمة إلى أقسام الصحة النفسية التي تعاني من نقص في أعداد الأطباء المتخصصين.
في حين بلغ عدد حالات الانتحار التي وثّقها فريق منسقو استجابة سوريا خلال النصف الأول لعام 2024 أكثر من 43 حالة، بينهم 10 أطفال و6 نساء، إلى جانب تسجيل 19 حالة انتحار فاشلة بينها 9 نساء و4 أطفال.
الشابة (ق. ع)، طلبت عدم الكشف عن اسمها، كانت من الأشخاص الذين فكروا بالانتحار، قبل مراجعتها لمراكز العلاج النفسية.
تقول الشابة لـ”نون بوست” إنها “كانت تعاني من أفكار انتحارية وأفعال تدميرية للذات، منها الإيذاء الجسدي المباشر، والسبب هو تعرضها فجأة لظروف قاسية ومغايرة لحياتها التي اعتادت عليها، ما جعل الأطباء يشخِّصون حالتها باضطراب الشخصية الحدية”.
أما الشاب (ص. ع)، الناجي من محاولة انتحار، يقول إنه “حاول الانتحار هربًا من الظروف المأساوية التي عايشها، حيث إن نزوحه من قريته دفعه إلى الانقطاع عن الدراسة بسبب التكاليف الباهظة، في ظل بحثه الدائم عن العمل دون جدوى”.
وأضاف لـ”نون بوست”: “تحتاج شواغر العمل -إن وُجِدت- إلى شهادة ثانوية على الأقل، في حين أنني أبحث عن عمل حتى أتمكن من إكمال دراستي، حيث إن عائلتي كانت تمرّ بأسوأ الأوضاع المادية وأقساها على الإطلاق”.
وأكد أنه بعد إنقاذه من محاولة الانتحار خضع للعلاج لمدة عام في أحد المراكز التي ساعدته على تفعيل شبكة العلاقات الاجتماعية، وممارسة التنفس العميق، إضافة إلى جدولة الأفكار ومراقبتها ومحاولة ضبطها، دون الحاجة إلى التدخل الدوائي.
طبيبان فقط
وفي ظل تفاقم الأزمات النفسية بشكل مقلق، تبرز مشكلة خطيرة وهي النقص الحاد في الكوادر الطبية المتخصصة في الصحة النفسية، حيث يخدم طبيبان نفسيان فقط أكثر من 4 ملايين نسمة، ما يشكّل فجوة كبيرة مقارنة بالمعايير الدولية التي توصي بوجود طبيب نفسي لكل 10 آلاف شخص.
وحسب مديرية الصحة في إدلب لـ”نون بوست”، فإن “حوالي 30% إلى 40% من سكان شمالي غربي سوريا قد يعانون من مشكلات نفسية تتطلب تدخلًا طبيًا ودعمًا نفسيًا، في حين أن الشمال لا يملك سوى طبيبَين نفسيَّين لأكثر من 4.5 مليون نسمة من أشخاص عايشوا ظروفًا نفسية قاسية في ظل الحروب والنزاعات والقصف والتهجير والبطالة والفقر المدقع”.
وتحاول مديرية الصحة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية والمنظمات الدولية والمحلية، تغطية هذه الفجوة والحاجة عن طريق تدريب عدد من الأطباء النفسيين وتأهيلهم، حيث تقوم كثير من منظمات المجتمع المدني بتنظيم ندوات وجلسات للدعم النفسي، ورفع نسبة وعي الشباب بشكل خاص.
ويقول مصطفى شعبان، أحد العاملين في مؤسسة “سكينة”، لـ”نون بوست” إن “معظم العاملين في مجال الصحة النفسية يسعون لرفع مستوى الصحة النفسية شمالي غربي سوريا بناءً على أنشطة يقومون بها، إضافة إلى اهتمامهم بدعم الأطفال نفسيًا، والعمل على مبادرات تهدف إلى توعية الشباب بالاضطرابات النفسية وأثرها على المجتمع والفرد”.
نصائح نفسية
ويقدم الأخصائي النفسي عبد الواحد عبدو نصائح لمن يعانون من أزمات نفسية، ويقول إن “الأشخاص الذين يشعرون بأعراض اضطراب لا بدَّ لهم من زيارة أخصائي نفسي والخضوع لتقييم بيولوجي، لنتعرّف من خلاله على المشكلة التي يعاني منها”.
ويضيف أنه “فيما بعد يقوم الأخصائي بوضع خطة رعاية تتوافق وتناسب المشكلة، أما الأشخاص الذين يعانون من أفكار انتحارية أو إيذاء للذات فيقوم الأخصائي بوضع خطة أمن وسلامة لهم، مع الحرص على العمل بالخطة”.
وينصح عبد الواحد بالأنشطة المجتمعية وحضور المبادرات التي تقوم بها المنظمات ومديرية الصحة، بهدف زيادة وعي الأشخاص بهذه الاضطرابات والعمل على التعافي المبكر، قبل أن تتطور الأعراض وتحتاج إلى مراجعة مراكز التعافي النفسي.