خرج العرب من كأس العالم صفر اليدين، ويا ليتهم لم يتأهلوا للبطولة، فأمعاء فقراء بلادهم أحوج بآلاف الدولارات التي أنفقتها البعثات العربية دون أن نرى ما يبعث في قلوبنا السعادة، خيبة أمل تتلوها خيبة أمل، وإخفاق يلد إخفاقًا، والكرة العربية تتعالى على أن تتصالح مع جماهيرها الغاضبة الناقمة التي لم تجد حتى في كرة القدم ملاذًا، لتلتقط أنفاسها من قتامة الصورة وبؤس المشهد في المنطقة العربية.
في كل بطولة يبدأ المبتهلون والمعتكفون بالدعاء للفرق العربية أن يحالفها الحظ، وتجري القرعة بردًا وسلامًا على منتخباتنا المسكينة، بعيدًا عن جنون السامبا ودوران الماكينات الألمانية وبطش الشياطين الحمر وعنفوان الديكة، وكأن كأس العالم خُلق للهواة والفرق الضعيفة ولا مكان فيه للمحترفين والأقوياء.
أشعر أن هذا تقدمة الفشل والتمهيد للسقوط، فتركيبنا النفسي المعقد يؤمن بأن القوي لا يمكن منازلته، والضعيف عليه أن يقبل بالهزيمة مع بعض المحاولات الخجولة إن كان هناك محاولات أصلًا، لا نريد أن نفهم أن من يُعد جيدًا ويحطم وهم الفرق الكبيرة الجاثم على صدره، ويأخذ بأسباب الفوز يمكنه بلوغ الهدف.
وإذا كان كلامنا أخرق ودربًا من الشعارات الرنانة، فكيف فاز المنتخب الجزائري على منتخب ألمانيا بهدفين مقابل هدف واحد في مونديال إسبانيا 1982، ورد سخرية الألمان من قدرات اللاعب الجزائري إلى نحرهم؟ لا تقل إنها طفرة في تاريخ الكرة العربية لا يمكن تكرارها، فالنجاح يمكن تكراره عشرات المرات إذا أردنا له أن يتكرر ويصبح تاريخًا مرصعًا بالانتصارات والمواقف المشرفة، ولا تقل إنه الحظ! فأنا يا صديقي لا أومن بالحظ أصلًا في هذا الميدان! أقول لك إنه الأداء الراقي والإعداد الجيد والتحرر من الفكر الذي يعطي الهزيمة الذرائع والمبررات ويرفض أن يخرج إلى فضاء الحقيقة الرحب.
لو سألت بيليه وبلاتيني وماتيوس وروماريو وباجو ومارادونا، هل ولدتهم أمهاتهم يحملون بأيديهم كرة قدم أو يركلونها بأقدامهم؟ سيصابون إزاء ذلك بالغثيان
سبحان الله! كلما دعوناه أن يلهم الفرق العربية الصبر والسلوان في المجموعات، وقعت في مجموعات أكثر تعقيدًا، فالفوز وبلوغ الأماني لا يتحقق بالدعاء والتهجد والتسبيح على شاشات التلفاز، ولا بالبكائيات التي يطلقها المعلقون العرب، وحناجرهم تصدح بتمجيد اللاعبين ليدركوا بعد صافرة النهاية أنهم كانوا يتعلقون بحبلٍ من الدخان! ثم يعودون بعد فوات الأوان ليميطوا اللثام عن وجوههم، ويقفوا بمرارة إزاء الحقيقة أن الفوز يحتاج منا أن نبدع في عزف النوتة الموسيقية، وأن ننتصر على ذاتنا المفعمة بالخيبة وضحالة الأرقام وبؤس السجلات.
لو سألت بيليه وبلاتيني وماتيوس وروماريو وباجو ومارادونا، هل ولدتهم أمهاتهم يحملون بأيديهم كرة قدم أو يركلونها بأقدامهم؟ سيصابون إزاء ذلك بالغثيان؛ فهم بشر مثلنا مارسوا اللعبة في طفولتهم، وانخرطوا في الأندية منذ نعومة أظافرهم، وأغدقوا على الرياضة الكثير من الوقت والجهد والتفاني قبل أن تعطيهم أي شيء، ثم لمع نجمهم كحال كل رياضة وكل رياضي حتى أصبحت الأندية تتنافس للتعاقد معهم وضمهم إلى صفوفها بعشرات ملايين الدولارات.
يا للعجب! نريد المنافسة على البطولات ممتطين جواد الاستكانة والتخاذل وعقم الأهداف، وحولنا آلاف النماذج الذين صنعوا أنفسهم ممتطين الجياد السوداء القادرة على العدو وقطع المسافات في أحلك الظروف.
أنا يا صاحبي لا أقبل بنظرية الأداء الرجولي الذي تكون محصلته الخروج من الدور الأول، ومتى كان الفشل والهزيمة عملًا رجوليًا يستحق الاحترام والتقدير؟ ولماذا لم تأخذ غيرنا من الفرق العالمية بهذه الوصفة الهزيلة التي مرضت منها أسماعنا وأبصارنا؟ أنا لا أومن بأن الحظ العاثر دائمًا يكون من نصيب الفرق العربية وكأن عقدة النحس تطاردنا إلى ديارنا وغرف نومنا! لماذا لا يصاب المنتخب البرازيلي والإنجليزي والألماني بهذه العقدة أم أنها قدر الفرق العربية؟ لماذا تفوز الفرق الأوروبية وتخسر، ونحن نخسر ثم نمعن في الخسارة وكأن عقدة الخسارة قدر سخره الله للعرب دون غيرهم! ما لكم كيف تحكمون.
نتعلل بفشل مدرب المنتخب ونلقي عليه أعباء السقوط المرير، ثم نبادر إلى إعفائه من مهامه، ويتكرر السيناريو منذ ثمانين عامًا دون أن نتجشم عناء الكشف عن السبب الحقيقي
يطلبون من الفرق العربية عقب كل موجة فشل أن تتصالح مع جماهيرها وتحرز بعض الأهداف وتحافظ على سمعتها وماء وجهها، فتدمغهم الحقيقة على لسان نبي الله زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)} بعد كل محاولة لتصحيح المسار ووعودات بتقديم الأفضل ننساق إلى وادٍ أكثر سحقًا، فنقول: “لعل وعسى، عسى الله أن يحدث بعد ذلك أمرًا”، وهكذا نواصل المسير في إرضاء أنفسنا والتحايل عليها ومواساتها دون أن نلمس أي مردود يذكر.
نتعلل بفشل مدرب المنتخب ونلقي عليه أعباء السقوط المرير، ثم نبادر إلى إعفائه من مهامه، ويتكرر السيناريو منذ ثمانين عامًا دون أن نتجشم عناء كشف السبب الحقيقي ونكتفي فقط بالقناع؛ فالحقيقة صادمة وقاسية جدًا، عقب كل انتكاسة تستعر نيران الشقاق والخلاف بين الديكة في الاتحادات ولجان الرياضة ويتبادل الجميع الاتهامات ويحمل كل منهم المسؤولية للآخر، وسرعان ما تنتهي المهزلة بتسوية يحافظ فيها كل واحد على نصيبه من الكعكة.
نحن أكثر الأمم التي تغني لمنتخباتها وتعزف لها الموسيقى وتقيم لها المدائح وتكتب لها الأشعار والقصائد علنا نجد ما يبهجنا ويعيد إلى قلوبنا الأمل ويذهب عنا متلازمة الإحباط التي عاثت في صدورنا وجعًا وألمًا، لماذا ينشد المطربون والشعراء لمنتخبات لا تملك أي حضور على خريطة الكرة العالمية وتعاني سجلاتها من متلازمة الأصفار وعقم النتائج والأرقام؟ هل هو النفاق والتملق يا سادة أم البحث عن المال والشهرة حتى ولو عادوا إلى ديارهم بخفي حنين منكسي الأعلام ومطأطئي الرؤوس؟
يُراد لنا أن نصمت والقارة السمراء التي يفتك بها الفقر والجهل والمرض تقدم عروضًا أفضل منا، وتنافس على مراكز متقدمة في كأس العالم، وتحسب لها الفرق الكبيرة ألف حساب، انظر كيف يلعب المنتخب السنغالي والنيجيري بكل ندية وجسارة، ويحصدون النقاط، ويحرزون الأهداف!
كيف لنا أن نلتمس الأعذار وجيراننا في جنوب شرق آسيا يلعبون كرة راقية ويحاكون النمط الأوروبي؟ هل شاهدت مباريات اليابان وكوريا الجنوبية؟ يجيدون لعب الكرة كما يتقن أطفالهم صناعة الساعات الثمينة في منازلهم! من يستحق الفوز إذًا؟ فرقنا التي تعود من كل جولة تجر أذيال الهزيمة، ورصيدها صفر من النقاط أم جيراننا الذي يلعبون الكرة وكأنك أمام لعبة برمجية مثبتة على حاسوبك الشخصي! من يستحق التأهل؟ منتخباتنا التي لا تجيد الدفاع ولا الهجوم أم أولئك المهرة الذين يلعبون الكرة على طاولة من البلياردو!
علينا أن نحدد موقفًا واضحًا لماذا نذهب إلى كأس العالم؟ أنقلع من أجل تمثيل أوطاننا أم من أجل النظام السياسي والطغمة الحاكمة في بلادنا؟
نمعن في إطلاق ألقاب العظمة والتفخيم على منتخباتنا علها تفعل شيئًا ولا حياة لمن تنادي، فهذا فريق نسور قرطاج لم نشاهده يحلق في السماء، فأجنحته حطمتها الهزائم، وذاك أسود الأطلس يخسرون من فريق إيران الضعيف، ويركلون بأقدامهم مجد (حجي وبصير وكماتشو)، أنا لا أعرف أسدًا تأكله الخراف إلا في عالمنا العربي، فقانون الغابة هنا شيء آخر، والتداول على السلطة فيها لا يحترم الكبير، ولا يقدم الأصلح والأجدر؛ لخدمة القطيع وعلى ذلك فلتنتظم القوافي.
الغابة في بلادنا يقودها الوعول وتديرها الأرانب وتحكمها بعض الدجاجات التي لا تقوى على تقديم بيضة واحدة في اليوم، تجد فريق الفراعنة كما يحب تسميته أبناء المحروسة اسمًا يحمل في رصيده ثلاثة أصفار من ثلاث مباريات متتالية، فرغم قسوة فرعون وجبروته وكبره، لم يكن لمنتخب الفراعنة بأس على منازليه.
الآن قبل الغد، علينا أن نحدد موقفًا واضحًا لماذا نذهب إلى كأس العالم؟ أنقلع من أجل تمثيل أوطاننا أم من أجل النظام السياسي والطغمة الحاكمة في بلادنا؟ أنذهب للمشاركة والتمثيل فقط أم للمنافسة على البطولة ومعانقة الكأس؟ أنشارك ليحصل كل لاعب على عقد احتراف أفضل أم لنعود بفضيحة لأوطاننا وأنديتنا التي سوف تنظر إلى الفارغ من الكأس إن كان في الكأس ماءٌ أصلًا؟
أنا على يقين أن فشل الرياضة العربية كما الاقتصاد والثقافة والأخلاق يرجع إلى بيت الداء، نعم بيت الداء، نعم “الصنم والكهنة”، فالاستبداد والاسترقاق وفشل نظام الحكم وغياب الرقابة الشعبية وعدم الفصل بين السلطات وهيمنة العسكر على جميع مفاصل الدولة ومقدراتها، كلها كوارث أفسدت حياتنا وألقت بنا إلى الهاوية.
الساحرة المستديرة يا سادة تسعد من أسعدها، وتحزن من أحزنها، ولا تتعاطف مع تاريخ لم يتعاطف معه أهله، أو جغرافيا لم يذد عنها أبناؤها بعرقهم، أو لغة لم تصن كبرياء ناطقيها، البقاء على المستطيل الأخضر لمن يلعب أفضل ويقدم عرضًا أجمل ويرسم الابتسامة على شفاه محبيه وعاشقيه، يقول رونالدو تعقيبًا على نتيجة أحد المباريات: “لقد خسرنا لأننا لم نستطع أن نفوز”! فهل فكرت الفرق والاتحادات العربية من ورائها بالفوز كما تمعن في الخسارة يا ترى؟!