أخذ الفقيه الأمازيغي محمد بن تومرت الملقّب بـ”المهدي المنتظر” على عاتقه مهمة نشر عقيدته التوحيدية في بلاد المغرب خلال القرن الـ6 الهجري ومقارعة دولة المرابطين القوية، إلا أن المنية وافته قبل أن يشهد تحقق أهدافه ويرى سقوط المرابطين وانتشار مذهبه في المنطقة.
ما إن توفي ابن تومرت حتى أخذ عنه رفيق دربه عبد المؤمن بن علي الكومي المشعل وواصل طريقه في نشر المذهب الجديد ومحاربة المرابطين، فتمكن بعد معارك كثيرة من زعزعة حكم المرابطين وتقويض سلطانهم في بلاد المغرب، تمهيدًا لتأسيس دولة الموحدين الفتية.
ضمن ملف “نهضة الموحدين”، نلخص سيرة الكومي الذي تزعم لمدة 34 سنة جيش الموحدين وحكم الدولة عقب وفاة مؤسسها الروحي، وفي عهده عرفت دولة الموحدين أوج قوتها، واعتبرت فترة حكمه من أزهى الفترات السياسية التي عاشتها المنطقة.
عبد المؤمن بن علي الكومي .. مصاحبة ابن تومرت
لا يُعلم بالتحديد تاريخ ولادة عبد المؤمن بن علي الكومي، لكن المؤكد أن ولادته كانت سنة 487 هجريًا، بأعمال تلمسان (الجزائر) التي كانت تابعة لدولة المرابطين في تلك الفترة، وينتمي إلى قبيلة كومية التابعة لمجموعة زنانة القبلية، وهناك نشأ وتعلم وعمل مع والده صانع خزف.
من حظّ الكومي أن تلمسان في فترة ولادته كانت من أهم حواضر العلم في المنطقة، فتلقى العلم على يد عدد من كبار العلماء في عصره، وهو ما صقل شخصيته، إلا أن حبه للعلم وتطلعه إلى المزيد من التفقه في الدين جعله ينوي الذهاب إلى المشرق.
شاءت الصدف أن يلتقي الكومي قبل انطلاق رحلته إلى الشرق بعالم أمازيغي قادم من تلك الربوع، وهو أبو عبد الله محمد بن تومرت، صاحب العقيدة الموحدية، فجلس في مجلسه يسمع منه بعد أن سمع عنه، فأعجب به وبغزارة علمه وبلاغته وقدرته على الإقناع.
تخلى ابن تلمسان عن فكرة السفر إلى المشرق، ولزم ابن تومرت، يأخذ العلم عنه، فتوثقت العلاقة بين الرجلين، وعند رحيل ابن تومرت عن الجزائر رافقه الكومي في رحلته نحو فاس التي أقاما فيها يأمران بالمعروف وينهيان عن المنكر، فتم طردهما من هناك بمعية بعض طلبة العلم.
من ثم توجّها نحو عاصمة المرابطين مراكش، حيث أقاما فيها لعدة أشهر، لكن نزولهما للشارع وتحطيمهما بعض الآلات الموسيقية ومهاجمة مجالس اللهو والطرب ونهي الناس عن المنكر والدعوة للمعروف، عجّلوا بطردهما من هناك أيضًا.
في هذه الرحلة توطدت علاقة الكومي بابن تومرت، فأصبح بمثابة حافظ سره وعضده الأيمن والعصا التي يتكئ عليها في مقارعة المرابطين وحكامهم، خاصة أنه اختار مصاحبته في رحلته رغم المشاق الكثيرة التي واجهها.
بعد طردهما من مراكش، كانت الوجهة إلى السوس الأقصى بالمغرب، وبدأت المواجهة الفعلية ضد المرابطين، فمحمد بن تومرت أعلن أنه المهدي المنتظر وطلب البيعة من أتباعه وباقي قبائل المنطقة، وادعى أنه من نسل النبي محمد صل الله عليه وسلم من ابنته فاطمة.
قيادة جيش الموحدين
حافظ ابن تومرت على الزعامة الروحية لجماعة الموحدين، فيما أوكل مهمة القيادة العسكرية للكومي على صغر سنه، لما شاهد فيه من ذكاء خارق ورباطة جأش وقدرة على التنظيم والقيادة وحمل السلاح لم يعهدها في غيره من أصحابه.
حارب الكومي المرابطين في مواقع كثيرة، وكان النصر حليفه رغم قلة عدد الجنود الذين معه، فأغرى هذا الأمر الموحدين فقرروا التوجه نحو العاصمة مراكش – وكانت من أكبر المدن وأعظمها – لحصارها والهجوم عليها، وذلك بهدف القضاء على دولة المرابطين.
توجه الموحدون إلى جبل تينمل القريب من مراكش وهناك استقبلوا أعدادًا كبيرة من الأمازيغ الراغبين في الثورة ضد المرابطين، ونظموا جيشهم القوي وكانت موقعة كبيرة بينهم وبين المرابطين في منطقة تسمى “البحيرة”.
قاد الكومي جيش الموحدين، فيما قاد الأمير علي بن يوسف بن تاشفين جيش المرابطين والتقى الطرفان في معركة سمّيت معركة البحيرة، نسبة للموقع الذي وقعت فيه، وكان ذلك يوم 11 أبريل/نيسان 1130 ميلادي، وخلالها هُزم الجيش الموحدي واضطر من بقي منهم للهرب.
انسحب بعض المئات من الموحدين، على رأسهم القائد عبد المؤمن بن علي الكومي إلى موقع تينمل، وكانت هذه المعركة حدثًا مفصليًا في تاريخ الموحدين، فعلى إثرها توفي زعيمهم الروحي محمد بن تومرت وتشتت شملهم وضعفت كلمتهم وتراجع نفوذهم.
هزيمة المرابطين
توفي ابن تومرت سنة 525 هجريًا، دون أن يملك شيئًا من الأراضي، وتقول بعض المراجع إن أصحابه المقربين أخفوا وفاته عن الأتباع لفترة طويلة حتى لا يتشتتوا أكثر، خاصة أنه توفي بعد واقعة البحيرة بأشهر قليلة.
وقبل وفاته، أمر ابن تومرت أصحابه بمبايعة عبد المؤمن بن علي الكومي خليفة للموحدين، فكان له ذلك في شهر رمضان 524 هجريًا، وقد أطلق المؤرخون عليها “البيعة الخاصة”، لأن موت ابن تومرت ظل في طي الخفاء، ثم بايع الموحدون عبد المؤمن “البيعة العامة” قيل سنة 526 هجريًا وقيل بعدها بسنة وذلك بجامع تينمل.
تمت البيعة لعبد المؤمن بن علي الكومي لما عُرف عنه من صفاته وقربه الشديد من ابن تومرت وتنفيذًا لوصية هذا الأخير، ولقّب بأمير المؤمنين، ومن ثم توجه إلى الجبال وأعاد تنظيم ما تبقى من الجيش وحشد واستمال المصامدة الأقوياء، وأخذ يُغير على قرى المرابطين للنهب وبث الخوف فيهم.
استغل الموحدون انشغال المرابطين بالأندلس والأحداث المأساوية التي عرفتها البلاد – منها حدوث سيل عظيم بطنجة سنة 532 هجريًا، وهجرة أعداد كبيرة من أهل المغرب إلى الأندلس سنة 535 هجريًا -، فاستولوا على سائر بلاد درعة والسوس وأخضعوا قبائلها، وفي أواخر سنة 535 هجريًا، بادروا بالهجوم على سجلماسة ووادي ورغة والسيطرة عليهما، وقويت شوكتهم وزاد عددهم.
اهتم أمير المؤمنين ببناء المساجد وتعميرها باعتبارها مركزًا للإشعاع الفكري، ونشر مذهب الإمام مالك في المنطقة، كما ألغى نظام الطبقات وجعل الحكم وراثيًا في أسرته
سنة 539 هجريًا، دارت معارك كبرى بين جيوش المرابطين بقيادة تاشفين بن علي وجيش الموحدين بقيادة عبد المؤمن بن علي واستمرت لمدة شهرين، وتمكن الموحدون من السيطرة على تلمسان ثم وهران وفيها قُتل الأمير تاشفين، فضعفت عزيمة المرابطين.
في الوقت الذي كان فيه جيش الموحدين يزحف نحو مراكش، كان المرابطون في خلاف على السلطة، إذ عزل الأمير إسحاق بن علي وجماعته ابن أخيه إبراهيم بن تاشفين واستولى على ما تبقى من حكم المرابطين، إلا أنه لم يهنأ بالحكم طويلًا، فجيش الكومي حاصر مراكش بعد أن استولى على فاس وسلا وسبتة.
حاصر الكومي العاصمة مراكش أكثر من 9 أشهر، فأخذها في أوائل سنة 542 هجريًا وقتل أمراء المرابطين، وتزامن ذلك مع تقديم قائد الأسطول الأندلسي المرابطي، علي بن عيسى بن ميمون، الطاعة والولاء إلى قائد الموحدين عبد المؤمن والدعاء باسمه في المساجد، وبذلك أنهوا حكم المرابطين الذي امتدّ لنحو قرن من الزمن، وقامت محلها دولة جديدة تحت سلطان عبد المؤمن بن علي الكومي.
الأندلس وتوحيد بلاد المغرب
بعد السيطرة على مراكش وضمان ولاء قائد الأسطول الأندلسي المرابطي، علي بن عيسى بن ميمون، سير الكومي جيوشه للسيطرة على الأندلس، فسيطر على رندة غلب ثم لبلة ثم مرتلة وشلب، ثم على باجة وبطليوس، وأعقب ذلك السيطرة على إشبيلية التي اعتبرت حاضرة دولة الموحدين في الأندلس ثم مالقة، وبعد أقل من عامين سيطروا على مدينتي جيان وقرطبة وغرناطة.
في الأثناء، وجّه عبد المؤمن جيوشه لفتح بقية المغرب الأوسط وقد تمت بدخول الموحدين مدينة الجزائر سنة 548 هجريًا الموافق لسنة 1153 ميلاديًا وقبلها بجاية، ثم نزل إلى تونس وأخذها عنوة ونفس الشيء بالنسبة إلى المهدية وهي للنصارى وجزيرة جربة وطرابلس الغرب وبقية سواحل إفريقية (تونس) وطرابلس الغرب.
كما أخذ الموحدون سنة 555 هجريًا الموافق لسنة 1160 ميلاديًا توزر وبلاد الجريد وقفصة، وطردوا عنها النصارى، واكتمل لهم ملك المغرب من طرابلس إلى السوس الأقصى وأكثر مملكة الأندلس، وبذلك يكون الموحدون أول من وحد بلاد المغرب كلها، عدا برقة وما يليها شرقًا إلى حدود مصر.
من حركة ثائرة إلى دولة
وحّد الكومي بلاد المغرب ومدّ سلطان الموحدين إلى الأندلس، فتحسن حال البلاد بعد أن عرف كيف ينهض وينظم الدولة ويسير بها خطوات ناجحة لكي تتبوأ دولة الموحدين الزعامة والسياسة في عالم المغرب والأندلس.
وضع ابن تومرت القواعد والنظم الإدارية التي تمكنه من تسيير أمور الدولة وإدارة شؤونها، حيث جعل لها مؤسسات ووزراء، فللعدل والنظر في الشكايات وزير، ولأعمال الحرب والجهاد وزير يسمى “صاحب السيف” وللثغور وزير، وللشرطة رئيس يسمى “الحاكم”.
كما جعل للكتابة والمراسلات وزيرًا من أهل الرأي والبلاغة واعتمد اللغة العربية كلغة علم وإدارة، وكان لعبد المؤمن بن تومرت مجلسًا خاصًا للنظر والمشاورة يحضره الفقهاء ونواب القبائل وكبار رجال الدولة، إلا أن الكلمة العليا كانت له في غالب الأمر.
وحتى يحافظ على استقرار البلاد، اهتم ابن تومرت بتنظيم الجيش، ووزع المهام بين القادة الكبار وطور الأسلحة الموجودة عندهم واهتم بجيش وسلاح البحرية وصنع السفن وشاركهم الحروب، فكان عنده جيش عظيم هو الأقوى في المنطقة في تلك الفترة.
رغم اهتمامهم بتطوير الجيش لم يغفل الموحدون عن مسألة التعليم، فركزوا على تعليم الناشئة وقسموا وقتهم بين القراءة والتربية وركوب الخيل ورماية القوس واستعمال السيف وتعلم السباحة، ولم يقتصر دور التعليم الديني على الرجال فقط، فقد كانت النساء تشارك الفقهاء في نهضة العلوم الدينية والدنيوية.
كما أنشأ الموحدون زمن الكومي المدارس ومنها مدرسة لتعليم الملاحة بمدينة الرباط، وأخرى لتخريج رجال السياسة وموظفي الحكومة وقادة الجيش بمراكش، وبالغ الموحدون في اختيار أبرز الأساتذة والعلماء المشهورين، فأصبحت مدن البلاد قبلة لطلاب العلم بعد أن استأثرت الأندلس لعقود بهذا الأمر.
وفي عهد عبد المؤمن بن علي ازدهرت الحركة الصوفية والمدارس الفلسفية التي مثلها ابن طفيل وابن رشد، وكان الخليفة الموحدي يحيط نفسه بحاشية من العلماء والفقهاء والفلاسفة، وكان يهتم بجمع الكتب بمختلف أنواعها.
وكان الكومي “مُؤْثِرًا لأهل العلم محبًّا لهم، محسنًا إليهم، يستدعيهم من البلاد إلى الكون عنده والجوار بحضرته، ويُجري عليهم الأرزاق الواسعة، ويُظهر التنويه بهم، والإعظام لهم، وقسَّم الطلبة طائفتين: طلبة الموحدين وطلبة الحضر، هذا بعد أن تسمَّى المصامدة بالموحدين، لتسمية ابن تومرت لهم بذلك، لأجل خوضهم في علم الاعتقاد، الذي لم يكن أحد من أهل ذلك الزمان في تلك الجهة يخوض في شيء منه”، وفق قول المؤرخ عبد الواحد المراكشي.
فضلًا عن ذلك اهتم أمير المؤمنين ببناء المساجد وتعميرها باعتبارها مركزًا للإشعاع الفكري، ونشر الدين الإسلامي ومذهب الإمام مالك في المنطقة، كما ألغى نظام الطبقات وجعل الحكم وراثيًا في أسرته، وللتخلص من إرث ابن تومرت أبعد الكومي قبائل المصامدة عن الحكم، وقرّب إليه قبائل بني هلال وبني سليم، فيما أسند مهمة حمايته لقبيلة الكومية وذلك بعد أن حاول أخوة ابن تومرت: عيسى وعبد العزيز، الثورة عليه والإطاحة بحكمه سنة 549 هجريًا.
كما اهتم الموحدون في عهد عبد المؤمن الكومي بتطوير العمارة، فبنوا برج الخيرالدا بأشبيلية، وأعادوا بناء قلعة طريفة وبرج الذهب بالأندلس لإحكام المراقبة وضمان الأمان، وإلى اليوم يشهد هذا البرج بعظمة الموحدين وقوتهم، كما قام الموحدون بتحويل حصن مدينة الرباط إلى قصبة محصنة لحماية جيوشه التي كانت تنطلق في حملات جهادية صوب الأندلس.
وفاة الكومي
كان هم عبد المؤمن بن علي أن يوسع سلطان الموحدين وأن يضم أراض جديدة إليه، فما إن تمكن من بلاد المغرب، حتى بدأ التفكير في السيطرة على كامل بلاد الأندلس، فوجّه جهده نحو بناء جيش قوي وتسليحه بأسلحة متطورة وبناء القطع البحرية الحربية.
عزم خليفة الموحدين على تجاوز البحر المتوسط مجددًا والقضاء على الممالك والإمارات الإسبانية وكل من تمرد على دولته الفتية، فخرج من عاصمة الملك في جموع الموحدين سنة 558 هجريًا، حتى وصل إلى رباط الفتح في مدينة سلا.
تم الاتفاق حينها أن يُقسّم الجيش إلى 4 أقسام: قسم أول يتجه إلى مدينة قلمرية عاصمة البرتغال، والثاني إلى فرناد ودي ليون، والثالث إلى ألفونسو الثامن ملك قشتالة، أما القسم الرابع مع الجيش فيسير إلى برشلونة، وهدفهم القضاء عليهم.
لم يكتب لهذا الجيش أن يواصل المسير، فقد مرض أمير الموحدين مرضًا مفاجئًا، وتوفي يوم 15 جمادي الآخرة سنة 558 هجريًا، وفقد الموحدون بذلك أميرًا قويًا استطاع إقامة دولة مترامية الأطراف لم يسبق لبلاد المغرب أن رأوا مثيلًا له في تاريخهم.
امتدّ حكم عبد المؤمن بن علي الكومي لـ34 سنة، تمكن فيها من تحويل الحركة الدينية السياسية الناشئة التي ورثها عن محمد بن تومرت إلى دولة قوية مترامية الأطراف شملت المغرب الأقصى كله وشمال الجزائر وتونس غرب ليبيا وقرابة نصف بلاد الأندلس، واعتبرت فترة حكمه من أزهى الفترات السياسية التي عاشتها المنطقة.