يوم الـ30 من يونيو/حزيران أصبح تاريخًا سودانيًا حزينًا يلاحظ ذلك كل من يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام، إذ صادف السبت الماضي مرور 29 عامًا على الانقلاب الذي صعد بموجبه الرئيس السوداني عمر البشير إلى السلطة.
ويلاحظ أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم أصبح يتجاهل ذكرى الاستيلاء على السلطة بعدما كان يحتفل سنويًا بهذه المناسبة ويخصص لها عطلةً رسمية، ربما لأن السخط الشعبي الكبير الذي يشهده الشارع السوداني من الأوضاع الاقتصادية المأساوية التي تعيشها البلاد جعل منسوبي الحزب الحاكم يشعرون بشيء من الحياء والخجل ولا يجرؤون على الاحتفال باليوم الذي أوصل البلاد لحافة الكارثة.
السخرية من البيان الأول للإنقاذ
واللافت كذلك، أن العديد من النشطاء استعادوا عبارات البيان الأول الذي ألقاه العميد ـ آنذاك ـ عمر البشير في خطاب الانقلاب، حيث أطلق على العملية اسم “ثورة الإنقاذ”، مبررًا بأن التحرك جاء بعد أن “تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مزرية وفشلت كل السياسات الرعناء في إيقاف هذا التدهور ناهيك عن تحقيق أي قدر من التنمية، فازدادت حدة التضخم وارتفعت الأسعار بصورة لم يسبق لها مثيل واستحال على المواطنين الحصول على ضرورياتهم إما لانعدامها أو لارتفاع أسعارها مما جعل كثيرًا من أبناء الوطن يعيشون على حافة المجاعة”.
يجزم مراقبون ونشطاء أن الوضع الحاليّ الذي تعيشه البلاد أسوأ بكثير من فجر 30 من يونيو/حزيران الذي استولى فيه البشير على السلطة منقلبًا على حكومة الأحزاب الائتلافية
وقال البشير في البيان الأول أيضًا: “بعد أن كنا نطمح أن تكون بلادنا سلة غذاء العالم أصبحنا أمة متسولة تستجدي غذائها وضرورياتها من خارج الحدود وانشغل المسؤولون بجمع المال الحرام حتى عم الفساد كل مرافق الدولة وكل هذا مع استشراء الفساد والتهريب والسوق السوداء”.
ويجزم مراقبون ونشطاء أن الوضع الحاليّ الذي تعيشه البلاد أسوأ بكثير من فجر 30 من يونيو/حزيران الذي استولى فيه البشير على السلطة منقلبًا على حكومة الأحزاب الائتلافية.
https://twitter.com/montii1978/status/1013140234488483840
https://twitter.com/jaafarjuba/status/1012888946471260161
تعديلات تعزز سلطات البشير
عندما اختار البشير نائبه الأول بكري حسن صالح ليكون رئيسًا للوزراء قبل عامين توقع كثيرون أن تكون الخطوة تمهيدًا ليخلف الرجل رفيق دربه في حكم السودان لأنه يحظى بثقته المطلقة، خاصة أن عمر البشير لوّح في عدة لقاءات مع أنصاره بعدم الترشح للنتخابات المقبلة في 2020 لأن دستور البلاد ولوائح الحزب الحاكم لا تسمح للرئيس بتولي الحكم إلا لفترتين رئاسيتين فقط.
لكن العديد من السودانيين لم يكترثوا للأمر لأن البشير سبق وأن جزم قبيل الانتخابات الأخيرة في العام 2015 بعدم ترشحه للرئاسة غير أنه سرعان ما ابتلع وعوده وعاد للترشح ليفوز بدورةٍ رئاسية جديدة امتدادًا لحكمه المستمر منذ 30 من يونيو/حزيران 1989.
ومن الملاحظ أن عمر البشير أجرى عدة تغييرات قبيل انتخابات 2015 أطاح بموجبها بشخصيات سياسية من الوزن الثقيل ظلت متنفذة لأكثر من عقدين، هما نائبه السابق علي عثمان محمد طه، والرجل القوي في الحزب الحاكم نافع علي نافع، وهي تغييرات اعتبرها إسلاميون سعيًا من الرئيس للاستئثار بالسلطة والانفراد بها.
وتعزيزًا لأهدافه، أجرى البشير تعديلات دستورية أخرى تسمح له بتعيين ولاة الولايات بدلاً من انتخابهم، وتحويل جهاز الأمن إلى قوة نظامية مثله مثل القوات المسلحة والشرطة، وتتضمن مهامه محاربة التهديدات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
يلفت العديد من المهتمين إلى أن فكرة استمرار البشير رئيسًا أصبحت تواجه بكثير من النقد الجرئ وبصورة غير مسبوقة حتى داخل الحزب الحاكم
كما أعطت التعديلات صلاحيةً مباشرة للرئيس بتعيين شاغلي المناصب الدستورية والقيادات الأمنية والعسكرية، حتى القضائية، ونجم عن ذلك تركز السلطات السياسية والأمنية والعسكرية في يد الرئيس البشير بدلًا من “دولة الحزب” – إذ كانت الدولة تدار بصورة جماعية عبر حزب المؤتمر الوطني الحاكم ـ وأصبح اليوم “دولة الرئيس”.
رفض شعبي وداخل الحزب لإعادة ترشح البشير
بعد أن قطع الرئيس البشير في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي خلال مخاطبته مؤتمرًا شبابيًا، بأنه سيسلم السودان عام 2020 كاملاً وخاليًا من الصراعات ــ في إشارةٍ منه لقرار التنحي عن السلطة ـ لم يعترض في الوقت نفسه على دعوات قادتها مجموعات غير رسمية لحمله على الترشح في الانتخابات المقبلة، رغم أن الحزب الحاكم لم يتبنّ حتى الآن مرشحًا لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة.
ولكن يفهم من تلك المبادرات والمهرجانات التي شهد بعض فعالياتها البشير شخصيًا بأنه يريد الترشح مجددًا لأنه لم يعترض عليها ولم يأمر بإيقافها، رغم أن ذلك يخالف لوائح الحزب ودستور البلاد الذي دعت دوائر مقربة من الرئيس إلى تعديله خصيصًا ليسمح له بالبقاء لفترةٍ جديدة.
ويلفت العديد من المهتمين إلى أن فكرة استمرار البشير رئيسًا أصبحت تواجه بكثير من النقد الجرئ وبصورة غير مسبوقة حتى داخل الحزب الحاكم، ففيه ينشط الرجل القوي نافع علي نافع ويقود التيار الرافض لإعادة ترشيح البشير يسانده في ذلك الاتجاه وزير الدولة السابق مسؤول ملف دارفور أمين حسن عمر.
كما عبّرت فعاليات ورموز سياسية ودينية رفضها استمرار البشير رئيسًا، وفي هذا الإطار نلفت إلى الخطبة غير المسبوقة التي ألقاها الداعية محمد أبوعبيدة حسن في أحد مساجد العاصمة، بعنوان “مهلًا يا فخامة الرئيس”، وتحدث فيها بشكلٍ صريح عن فشل البشير في تنفيذ وعوده بتحسن الاقتصاد وكبح جماح الدولار، محملًا إياه المسؤولية المباشرة عن انتشار الفساد وأكل المال العام، قبل أن يدعوه إلى عدم ترشيح نفسه في الانتخابات المقبلة.
كذلك، أجرت صحيفة التيار السودانية المستقلة استطلاعًا وسط عينة عشوائية من الشباب أفاد 76% منهم بأنهم يرفضون تعديل الدستور لإعادة ترشيح الرئيس عمر البشير، لدورة رئاسية جديدة، بينما يرى آخرون أن نسبة الرافضين الحقيقية أكبر من ذلك بكثير.
من يكون خليفة الرئيس السوداني؟
من الواضح أن بقاء البشير رئيسًا بعد أن مكث 29 عامًا في سدة الحكم صار أمرًا غير يسير رغم محاولة أنصاره داخل الحزب الايحاء بغير ذلك، فالبشير الذي تواجهه مذكرة الاعتقال التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية فشل في تنفيذ وعوده المستمرة بتحسين الوضع المعيشي للإنسان السوداني بل ازداد الأمر سوءًا، ولم تفلح قراراته ـ رغم كثرتها ـ في محاربة الفساد والمفسدين.
ولو فكّر البشير فعليًا بالتنحي فإن خليفته لن يخرج عن المؤسسة العسكرية، وتشير العديد من الخطوات الأخيرة إلى أن البشير عمد إلى إعداد خليفته منذ عملية التعديل الكبيرة في الحكومة التي أطاح بموجبها بنائبه السابق علي عثمان طه ونائب رئيس الحزب نافع علي نافع، وتعيين الفريق بكري صالح في موقع النائب الأول للرئيس ثم رئيس الوزراء في وقتٍ لاحق.
تشكيل حكومة تكنوقراط مؤقتة لفترة محدودة سيكون مخرجًا مناسبًا للسودان من أزماته المتلاحقة لتعمل الحكومة الانتقالية على إنقاذ ما يمكن إنقاذه وتهيئ المسرح السياسي السوداني لقيام انتخابات حرة ونزيهة في فترة لا تتعدى عامين
يعضد تلك الفكرة أن تهديدات المحكمة الجنائية الدولية المستمرة لعمر البشير تجعله يبحث عن رجل ثقة يترك له مقاليد الأمر في القصر الرئاسي، ويثق في أنه لن يُقدم على التضحية به مستقبلًا تحت أي ظرف أو مقابل أي ثمن، فالمحكمة لم تنس قضية البشير وتُذكِّر بها بين الحين والآخر.
فيما يشير بعض منسوبي الحزب الحاكم إلى قيادات أخرى يرون أنها تتمتع بالكفاءة والنزاهة مثل المستشار الرئاسي السابق غازي صلاح الدين العتباني ووزير الخارجية السابق إبراهيم غندور الذي لمع نجمه بعد أن أقاله البشير فور إدلائه بتصريحات جريئة كشف فيها إفلاس خزينة الدولة.
هذا إذا لم تفلت الأمور ولم تخرج عن سيطرة البشير والحزب الحاكم، فلو حدث سيناريو آخر مثل انقلاب عسكري أو خلافه – وهو احتمال وارد مع ارتفاع معدل السخط وسط النخب العسكرية والسياسية – فإن تشكيل حكومة تكنوقراط مؤقتة لفترة محدودة سيكون مخرجًا مناسبًا للسودان من أزماته المتلاحقة لتعمل الحكومة الانتقالية على إنقاذ ما يمكن إنقاذه وتهيئ المسرح السياسي السوداني لقيام انتخابات حرة ونزيهة في فترة لا تتعدى عامين.