أظهرت مصر العين الحمراء للصادق المهدي زعيم حزب الأمة السوداني المعارض ورئيس الوزراء الأسبق الذي يتخذ من القاهرة منفى اختياريًا له، وطالبته بمغادرة مطار القاهرة الدولي على الفور، بعد مكوثه فيه نحو 10 ساعات، ردًا على شق عصا الطاعة عليها، ورفضه الإذعان لطلبها بعدم حضور اجتماعات تكتل المعارضة السودانية مع حكومة ألمانيا لبحث الأوضاع السياسية المحتقنة في السودان.
ويقيم القيادي التاريخي لحزب الأمة السوداني في القاهرة منذ نحو 3 أعوام؛ إثر مغادرته بلاده ثائرًا وناقمًا على نظام البشير الذي أصدر له قرار اعتقال عام 2014، وظل به نحو شهر كامل، بسبب انتقاداته لقوات الدعم السريع المثيرة للجدل “الجنجويد”.
وبهذه الخطوة، تتقرب السلطات المصرية أكثر إلى نظيرتها السودانية وتقدم لها “عربون مودة” بعدما ظلت النغمة الرسمية للعلاقات بين البلدين، التحريض والتحريض المضاد: الخرطوم تتهم القاهرة بالتحريض على نظامها السياسي وتقديم الدعم الكامل إلى المعارضة واحتوائها، والأخيرة تتهم العاصمة السودانية، بإيواء الإخوان وخصوصًا الخطيرين المحسوبين عليهم الذين ينتمون إلى كتائب حسم ولواء الثورة، وغيرها من الأذرع العقابية التي تنفذ عمليات إرهابية بحق الجيش ورجال مؤسسات الدولة، ورموز السلطة المصرية.
مؤتمر معارضة سودانية في ألمانيا.. لماذا؟
تنشط قوى المعارضة السودانية منذ أعوام في البلدان الأوروبية، لضرب ما تبقى من مصداقية نظام البشير الدولية، كان مؤتمرها الأخير الموسع المدعوم من الحكومة الألمانية يدرس كيفية مواجهة النظام السوداني وإخضاعه لقرار المعارضة بوقف الحرب في الأقاليم المشتعلة والاتفاق معهم على آليات المرحلة الانتقالية التي طالبوا بها كثيرًا.
شارك في مؤتمر ألمانيا تركيبة سياسية متنوعة، وكان لافتًا ازدياد رقعتها لتتسع لأحزب البعث والشيوعي والأمة
وتختلف المعارضة السودانية في توجهاتها وتركيبتها السياسية عن نظيرتها في العالم، فهي تضم إلى جانب الوجوه السياسية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدنية، قيادات الجبهة الثورية، وينضوي تحت شعارها عددًا كبيرًا من الحركات المسلحة، وهو ما يخيف السودان ومصر على السواء؛ فرغم المناوشات الدائمة بين النظامين، هذا النوع من المعارضة دائمًا ما يبعث على القلق في مصر.
شارك في مؤتمر ألمانيا تركيبة سياسية متنوعة، وكان لافتًا ازدياد رقعتها لتتسع لأحزب البعث والشيوعي والأمة، وجميعها تهدف إلى إحكام الضغوط والاستمرار فيها لتكريس عزلة البشير، المتهم الأول من المعارضة بفرض السياسة بالبلاد وفق منطق تسلط التلحف بالسلطة ومؤسسات القوة، بجانب مسؤوليته عن الاضطرابات التي تحدث بين الحين والآخر.
ولم يكن مؤتمر ألمانيا الذي أثار كل هذه الضجة على مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية العالمية الأول من نوعه للمعارضة السودانية، بل سبقه تحركات كثيرة على مدار الأعوام بل والأشهر الماضية، آخرها اللقاء الذي عقد قبل شهرين في باريس، لمناقشة تطورات الأوضاع في البلاد وخيارات التعامل مع نظام الرئيس عمر البشير، والاستقرار على إجراء حوار جديد أو الإطاحة المسلحة بالنظام، والخيار الأخير فشل تمامًا، بسبب تنصيب الصادق المهدي رئيسًا للتحالف، وهو ما ساهم في إبعاد الحل المسلح عن خيارات المعارضة، في ظل رفض زعيم حزب الأمة، لكل أشكال العنف في تسوية الأزمات السياسية.
سر تعقد العلاقة بين الصادق ومصر
جملة أسباب يمكن الاستناد إليها في تحليل الموقف المصري المفاجئ بترحيل زعيم بحجم الصادق المهدي، وهو الرجل الذي كانت تنظر إليه السلطات المصرية بإجلال واحترام، خصوصًا أنه دائمًا ما كان يرفض تأجيج الفتن بين الشعبين المصري والسوداني، عبر تصعيد التوتر بغض النظر عن خلفياته، وهو ما دعا الصحف السودانية الموالية للنظام الحاكم لشن هجومًا شرسًا عليه عندما اختار القاهرة منفى اختياري له.
اقترح الصادق المهدي، في شهر أكتوبر من عام 2017، وخلال مؤتمر صحفي موسع، إبرام معاهدة أمنية تقودها تركيا والسعودية ومصر، لتعزيز السلام والسيادة الوطنية في المنطقة
طالب الإعلام الحكومي وقتها المهدي بتقديم جملة إيضاحات عن رؤيته لما يحدث في حلايب وشلاتين الإقليم المتنازع عليه، وأقحموا في الواجهة تنازل مصر تيران وصنافير للسعودية، في نفس الوقت الذي تتمسك فيه بحلايب وشلاتين، ورغم الحملات المكثفة فإن العلاقات بين مصر والصادق لم تتوتر مطلقًا، وتركته يمارس نشاطه السياسي بمنتهى الأريحية، لدرجة أنه أطلق موقعًا إلكترونيًا يهاجم السلطة السودانية بكل قوة، ورغم ذلك لم تعترض مصر، إلا أن دعوة مفاجئة أطلقها الرجل قبل عام، تركت في الفم ماءً، وبدأت المعاملة تتغير تدريجيًا معه، في الوقت الذي كانت التفاهمات السياسية تتزايد مع نظام البشير، بدعم من الإمارات والسعودية.
اقترح الصادق المهدي، في شهر أكتوبر من عام 2017، وخلال مؤتمر صحفي موسع، إبرام معاهدة أمنية تقودها تركيا والسعودية ومصر، لتعزيز السلام والسيادة الوطنية في المنطقة، وقال الرجل خلال مؤتمره، إن المنطقة تستطيع أن تنعم بسلام إذا تشكل تحالف من أقطاب السنة في العالم العربي والإسلامي، يكون لديه القدرة على إبرم معاهدة أمنية عربية تركية إيرانية، للتعايش واحترام السيادة الوطنية لجميع الدول، على أن يدعم هؤلاء جميعًا حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، في مقابل وقف التطبيع تمامًا مع “إسرائيل”.
تحدث الصادق في المؤتمر بطريقة لم تعجب التحالف العربي، فالوقوف أمام الكاميرات والتصرف كزعيم له حق توجيه النصائح، والتدخل لتعديل أو تصويب سياسيات منطقة بأكملها كما كان يفعل جمال عبد الناصر، ومن بعده صدام حسين، نهاية بالقذافي، لم يعد مقبولاً، خصوصًا أن الصادق لم يكتف بذلك بل تصرف دون أدنى مراعاة للحسابات السياسية في مصر وحلفائها بالمنطقة، وكانت الطامة الكبرى التي تسببت في شروخ عميقة في العلاقة مع مصر، اعتياد المهدي إجراء مقابلات مع قناة الجزيرة القطرية، وباقي الأفرع الإعلامية الدولية لدولة قطر، ويوجه من على تلك المنصات العديد من الانتقادات الشديدة للدول العربية الكبرى، بسبب الاحتقان الدائر في المنقطة.
نقاش مع رئيس حزب الأمة ورئيس وزراء السودان الأسبق الصادق المهدي عن الديمقراطية والسلام بالسودان
كانت التوجيهات المصرية للمهدي تصيبه بالإحباط والضيق، وهو ما جعله يصدر بيانًا على طريقة أحمد شفيق بالإمارات في أزمته الأخيرة أمس، ورد بها على نفاد صبر الأجهزة السيادية المصرية تجاهه طوال الفترات الماضية، وانتقد ما أسماه الإملاءات الخارجية المصرية التي تتدخل في الشأن السوداني، وهو ما يرفضه بشدة، حتى لو كان يتخذ من القاهرة مقرًا اختياريًا للإقامة بها، رغم ابتعاده عنها في السبعة أشهر الأخيرة، رغم تناوبه في الحضور والمغادرة طوال الفترات القريبة الماضية.
حوار خاص لـ90 دقيقة مع الصادق المهدي رئيس حزب الأمة السوداني ورئيس وزارء السودان
بداية الخلاف مع القاهرة، أفصح عن خيوط منها الصادق نفسه منذ نحو 10 أشهر، خلال حواره لأحد البرامج المصرية الشهيرة، وقتها تحدث الرجل عن كل شيء، والمثير أنه اختصر حل الأزمة بين قطر والتحالف الرباعي ضدها بالحوار وحده، فتحول حواره مع البرنامج إلى ما يشبه محاولة التنقيب داخل أفكاره وقناعاته، وما يفكر به في جولاتها الخارجية، في ظل مصداقيته الدولية التي يحظى بها.
كانت تصريحات الصادق لما يحدث، تؤكد أن هناك فراقًا سيحدث بشكل حتمي بين القاهرة وزعيم حزب الأمة الذي كان يوجه بعض الإدانات للدعم القطري للنظام السوداني، رغم سعيه لإذلال المعارضة وتأميم الحياة السياسية، كان ينهال أيضًا بالانتقادات على الدول العربية الكبيرة، يعدد مواقفها السلبية في اليمن وليبيا وسوريا، ويرفض تحميل أزمات المنطقة برمتها للنظام القطري بمعزل عن جيرانه.
مستوى العلاقات المصرية حاليًّا مع السلطة في السودان، ظهرت جليًا في أزمة الصادق المهدي، بعدما أشاد الحزب الحاكم بمنع مصر زعيم حزب الأمة من دخول أراضيها، فالموقف بالنسبة له إيجابي ويتسق مع مواقف السودان الأخيرة تجاه مصر، لا سيما أن المهدي يضع يده مع من يحملون السلاح، ويعملون ضد الدولة وينفذون أجندات خارجية، وأشار إلى ما ستكون عليه العلاقة مستقبلاً مع مصر، برفض بلاده التعامل مع أي جهة تعيق مسار العلاقة بين الخرطوم والقاهرة، ويبدو أنه يعلم جيدًا أن مصر ستلتقط المعنى وتضعه نصب أعينها.