قال المرشح الرئاسي السابق ورئيس حزب الغد المصري (معارض) موسى مصطفى موسى إنه سيعمل على تشكيل معارضة وطنية تساند الدولة، كونها لا يمكن أن تستمر بجناح واحد، مما يجعلها في حاجة ماسة لمعارضة حقيقية، حسب وصفه.
المعارضة التي ينشدها مرشح اللحظات الأخيرة في الانتخابات الرئاسية السابقة في تصوره هي التي يجب أن تكون مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وتعمل على التصدي لكل ما يحدث من إرهاب وإيجاد حلول إيجابية لأي مشكلة تواجهها الحكومة.
موسى برر هذا النوع الجديد من المعارضة الذي من المقرر أن يبدأ تدشينه بمشاركة قرابة 30 حزبًا خلال الفترة المقبلة، بأن الولاية الرئاسية الثانية للسيسي ستكون صعبة في ظل المشروعات التي نعتها بـ”الكبيرة” التي سيتم افتتاحها خلال السنوات الـ4 القادمة، وأن هذا الأمر لن يعجب المتربصين بالدولة المصرية، ومن ثم لا بد من الوقوف بجانب الرئيس في معركته ضد هؤلاء.
وفي الوقت الذي ارتأت فيه المعارضة المصرية – التقليدية – الوقوف في مقاعد المتفرجين خلال السنوات الأخيرة، لا تملك من أمرها شيئًا، مكتفية بمجموعة من البيانات الحماسية كلما كان هناك ما يستدعي إنتاجها، عدد من التساؤلات فرضت نفسها بشأن ملامح المعارضة الجديدة التي يسعى موسى لتدشينها بما يتناسب مع ولاية السيسي الثانية.
معارضة حزبية هشة
في أدبيات السياسة تعرف المعارضة على أنها قوى وكيانات سياسية تمتلك برنامجًا محددًا يهدف بالأساس إلى الوصول للسلطة، وتمتلك الأدوات التي تمكنها من تحقيق هذا الهدف، ما يعني أنها من المفترض أن تكون في نزاع دائم وصراع متواصل على السلطة مع النظام ومن على رأسه من أجل الوصول بالبلد إلى أفضل حالاته.
لكن وبالتطبيق على مصر نجد أن المعارضة بها أقرب لمعارضة مرؤوس لتوجيهات رئيسه، فلا هو قادر على إثنائه عما يخطط له ويدور في رأسه، ولا يقوى على اقتلاعه من منصبه كي يحل محله، فهي بمختلف أطيافها تدور في نفس الحلقة التي حددتها لها الحكومة، وتأبى أن تتعداها لأفق أوسع يضمن أن تشكل تهديدًا حقيقيًا للسلطة، بشكل قد يدفعها للعمل على كسب شرعية مجتمعية تصب في مصلحة المواطن.
مرت الحياة الحزبية في مصر بمراحل عدة، كان العامل المشترك فيها جميعًا أنها لم تعرف المعارضة الحقيقية بمعناها الحرفي إلا في أوائل القرن الـ20، حيث شكلت المعارضة السياسية آنذاك قوة حقيقية تتبادل السلطة مع حكومات القصر والاحتلال على حد سواء.
فكرة الدولة المركزية ما زالت تسيطر على فكر النظام بحيث تبدو أي معارضة له كأنها خروج عن سطوة الدولة وانتقاص لهيبتها، وهو ما لا يدع مجالًا لإمكانية قيام معارضة فاعلة
وبعد ثورة يوليو/تموز 1952 بعامين، وُئدت هذه التجربة بصورة نهائية حين ألغيت الأحزاب والنقابات وكل ما يشكل تجمعًا سياسيًا، إيذانًا بتدشين مرحلة الحزب الواحد التي عرفها العالم النامي طيلة الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت.
القارئ للخريطة الحزبية في مصر خلال السنوات الأخيرة يجد أن تأثير الأحزاب المصنفة سياسيًا بـ”المعارضة” قارب على المرحلة الصفرية إن لم يتجاوزها إلى ما هو دون ذلك، في ظل فقدان ثقة الشعب فيما تتبناه تلك الكيانات من سياسات وأيديولوجيات من جهة، وغياب التخطيط والإرادة والإستراتيجيات الممنهجة للقائمين على أمور تلك الأحزاب من جهة أخرى.
ومن ثم لا يوجد حاليًّا أحزاب معارضة قادرة على فهم الواقع والتحرك سياسيًا بما يناسب الأوضاع السياسية في مصر والمنطقة بأسرها، فأغلب التيارات حصرت نفسها في زاوية ثورية، ترمي من خلالها النظام المصري بهتافات عدائية لا يتجاوز صداها محيطها الجغرافي والزمني، بما ينهي عليها مبكرًا.
وتتلخص أزمة المعارضة السياسية في مصر في الوقت الراهن في مأزقها المزدوج ثنائي الطرف الذي وقعت في سراديبه طيلة العقود الماضية، طرفه الأول يتمثل في حالة الجمود الفكري والحركي التي تسيطر على طبيعة الأحزاب السياسية المعارضة، والطرف الثاني ممثلًا في زيادة الضغط السلطوي والالتفاف على مطالب المعارضة، بشكل جعل من العلاقة بين الطرفين علاقة تبعية أكثر من كونها علاقة أنداد.
تراجع تأثير قوى المعارضة في الشارع المصري
مناوشات بين الحين والآخر
عانت أحزاب المعارضة خلال فترة ما قبل ثورة 25 من يناير من جمود وانحسار وغياب شبه تام عن الشارع بفعل فاعل، غير أنها خلال العامين التاليين للثورة نشطت بصورة غير مسبوقة، وقفز عدد الأحزاب إلى أرقام غير مسبوقة زادت عن المئة حزب تقريبًا.
كان مناخ الحرية إبانها عاملًا مشجعًا لإفراز المزيد من تلك الكيانات السياسية المعارضة، أحزاب كانت أو جماعات، وهو ما تجسده حالة الزخم السياسي في هذه الفترة التي أسفرت عن الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، لتبدأ عملية الانحسار مجددًا.
دولة ما بعد الـ3 من يوليو اعتمدت في ركائزها على سياسة تقليم الأظافر لكل الأصوات المعارضة، فبات الحبس والاعتقال والتنكيل بكل من يغرد خارج السرب – حتى إن كان من حلفاء الأمس – الحل الأمثل، ومن هنا دخلت المعارضة جحورها مرة أخرى.
مناوشات بين الحين والآخر قامت بها قوى المعارضة المدنية في الداخل بعد انتخاب السيسي رئيسًا لمصر في 2014، عبر عنها السفير معصوم مرزوق عضو التحالف الديمقراطي الذي تشكل عقب خسارة حمدين صباحي أمام المشير، بقوله: “أمامنا فرصة لإعادة هيكلة المعارضة من جديد وتقديم بدائل أكثر قوة مثل تشكيل حكومة ظل”.
تبقى دعوات موسى مصطفى موسى الأقرب نحو إكمال الديكور السياسي للدولة المصرية، وكما نجح الرجل في تحسين صورة الانتخابات الرئاسية الأخيرة بتقديم نفسه كـ”محلل” في اللحظات الأخيرة، ليس بمستبعد أن يقوم بنفس الدور لتكملة ديكور النظام الذي لا يخلو من المعارضة
وتجددت مثل هذه الدعوات مرة أخرى عقب انسحاب الحقوقي خالد علي من السباق الرئاسي الأخير، لكنها لم تلق الصدى المقبول حتى الآن، ما دفع معصوم لتجديد حديثه مرة أخرى قائلًا: “يجب أن نقدم أنفسنا بقوة كمعارضين دون خوف من بطش النظام مع الاعتراف أنه لا يحب السياسة وقتلها عن عمد خلال السنوات الماضية”.
عقبات عدة حالت دون قدرة التيار المدني على الصمود أمام النظام الحاليّ، على رأسها توحيد الائتلاف والمسميات التي كثرت في السنوات الأخيرة، فالبداية كانت بتحالف التيار الديمقراطي ثم الحركة المدينة الديمقراطية وفريق خالد علي، بالإضافة إلى وجود تقاطع بين المحسوبين على المعسكر اليساري والناصري والمطالبين بالعمل مع حزب مصر القوية الذي يرأسه عبد المنعم أبو الفتوح المعتقل حاليًّا.
الوضع فيما يتعلق بالمعارضة في الخارج لا يختلف كثيرًا عنه في الداخل، فالاكتفاء بالبيانات والشعارات كان السمة الأبرز لكليهما طيلة الفترة الماضية، هذا بخلاف حالة التشتت وتباين وجهات النظر والتناحر أحيانًا بين الفصائل المختلفة، وهو ما كان له أبلغ الأثر في تقليص قاعدتها الشعبية لا سيما الشبابية في الفترة الأخيرة.
الأشرار وتقليم الأظافر
رغم فقدان تأثير مناوشات المعارضة – داخلية كانت أو خارجية – على الشارع بالشكل المقلق، فإن حتى هذا الهامش لم يكن مقبولًا من النظام الحاكم، فكانت الرسائل الضمنية التي أطلقها السيسي عبر خطابه الخشن خلال حفل افتتاح حقل “ظهر” في يناير/كانون الثاني الماضي هي نقطة الانطلاق نحو سحق المعارضة.
السيسي في خطابه حذر الشعب مما أسماه الانجراف وراء السيناريو الذي حدث قبل 7 سنوات، في إشارة منه إلى ثورة يناير، محذرًا مما أسماهم “الأشرار” دون تسميتهم، الذين يعبثون بأمن مصر، وعلى الفور اتُهم 13 معارضًا مدنيًا بمحاولة قلب نظام الحكم وإسقاط الدولة، على خلفية دعوتهم لمقاطعة ما أسموه “مهزلة الانتخابات الرئاسية”.
وعيد السيسي لهؤلاء الأشرار تُرجم إلى قرار النائب العام بتحويل عدد من قيادات الحركة المدنية الديمقراطية للتحقيق، على رأسهم: حمدين صباحي وداوود عبد السيد (مخرج سينمائي) وفريد زهران رئيس الحزب المصري الديمقراطي وجورج إسحاق وأحمد دراج وعبد العليم داوود.
الأمر لم يتوقف عند حد التهديد بالملاحقات القضائية فحسب، ففي فيلم وثائقي نشرته شبكة “بي بي سي” البريطانية مؤخرًا، كشف النقاب عن حملة الاعتقالات الجماعية وعمليات الإخفاء القسري ووقائع التعذيب واغتصاب الفتيات داخل السجون المصرية.
وتحت عنوان “سحق المعارضة في مصر” وثّقت الصحافية البريطانية أورلا غويرين العديد من شهادات أسر المعتقلين والمختفين قسريًا والشباب الذين تعرضوا للتعذيب بواسطة أجهزة الأمن، ومن بينهم محمود حسين (معتقل التيشيرت) الذي أكد صعقه في مناطق حساسة من جسده، وخضوعه لعمليات جراحية عدة بعد خروجه من السجن جراء ما تعرض له من تعذيب.
المعارضة الجديدة
لم تكن تصريحات المرشح الرئاسي الوحيد أمام السيسي في الانتخابات الأخيرة بشأن تدشين ائتلاف معارض مساند للرئيس وداعم للدولة سوى تجسيد واضح لنوعية المعارضة الجديدة التي تتناسب والمرحلة المقبلة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا مجال لتعدد الآراء وحريات التعبير، بحجة توحيد الصف خلف القيادة في حربها ضد الإرهاب، وهي الحرب التي تدخل عامها الـ5 تقريبًا.
الإجراءات المتخذة خلال السنوات الماضية تعكس بصورة واضحة ملامح الدولة الجديدة التي يريدها السيسي ونظامه في ولايته الثانية خاصة بعدما نجح في ترسيخ أركان حكمه بصورة كبيرة، فأغلق معظم منافذ التعبير التي وصلت إلى ما يقرب من 500 موقع إلكتروني، بخلاف اعتقال وحبس عشرات الصحفيين والآلاف من متظاهري الرأي، فضلًا عن انخفاض سقف الحريات إلى ما دون الدول المتأخرة، ليس سوى مرآة واضحة لملامح الولاية الثانية.
القارئ للخريطة الحزبية في مصر خلال السنوات الأخيرة يجد أن تأثير الأحزاب المصنفة سياسيًا بـ”المعارضة” قارب على المرحلة الصفرية إن لم يتجاوزها إلى ما دون ذلك
بات من المؤكد أن فكرة الدولة المركزية ما زالت تسيطر على فكر النظام، بحيث تبدو أي معارضة له كأنها خروج عن سطوة الدولة وانتقاص لهيبتها، وهو ما لا يدع مجالًا لإمكانية قيام معارضة فاعلة، ومن ثم فإن ائتلاف المعارضة المقترح تدشينه لا شك أنه لن يتجاوز هذا السقف المسموح به، فهو أقرب إلى الداعم للنظام لكن من مقاعد مختلفة، وبذلك يضرب النظام عصفورين بحجر واحد.
وفي ظل انزواء أحزاب المعارضة التقليدية خلف أسوار الرعب والخوف من البطش والتنكيل، وغياب القيادات السياسية القادرة على إدارة المرحلة ولملمة الشارع، تبقى دعوات موسى مصطفى موسى الأقرب نحو إكمال الديكور السياسي للدولة المصرية، وكما نجح الرجل – المغمور سياسيًا – في تحسين صورة الانتخابات الرئاسية الأخيرة بتقديم نفسه كـ”محلل” في اللحظات الأخيرة، ليس بمستبعد أن يقوم بنفس الدور لتكملة ديكور النظام الذي لا يخلو من المعارضة.