ودع العالم والمؤرخ التركي فؤاد سيزجين الساحة العلمية بعد 94 عامًا من الأبحاث والاكتشافات التي أعادت المجد والنور إلى كثير من إنجازات المسلمين التي أثبت أصلها العربي والإسلامي بعد سنوات طويلة من الاعتقاد بأنها إنتاجات أوروبية بحتة.
ترك سيزجين ثروة علمية متنوعة من مراجع ومؤلفات ومتحف مليء بمئات الآلات العربية والإسلامية في 14 فرعًا من العلوم التي اخترعها العرب وحققت سبقًا علميًا مذهل، إضافة إلى معهد حول الدراسات العربية والإسلامية في قلب ألمانيا.
هذا العقل المفكر والباحث لم يأت من فراغ، فعند العودة إلى بدايات مشواره العلمي يمكن أن نلاحظ كيف أفنى حياته في البحث والدراسة والتدقيق والإثبات ليعطي المسلمين حقهم في الاكتشافات العلمية في أكثر من حقل.
بدايات حياته
ولد سيزجين بولاية بتليس، جنوب شرقي تركيا، في 24 أكتوبر 1924، وتخرج من كلية الآداب في جامعة إسطنبول بعد أن درس العلوم الإسلامية والعربية، متأثرًا بميول أبيه المفتي أحمد سيرجين، ومعلمه المستشرق الألماني هلموت ريتر الذي ركز في دراساته على العلوم الحديثة في زمن الدولة العباسية والأندلسية.
خلال الحرب العالمية الثانية، كان سيزجين في مرحلة الدراسة الثانوية حين تعطلت المدارس والمؤسسات العلمية وأغلقت أبوابها، فما كان منه سوى الاستماع لنصيحة معلمه ريتر وقرر استغلال هذه العطلة لدراسة اللغة العربية لمدة 17 ساعة يوميًا على مدى 6 شهور.
قرر أن يتعلم كل عام لغة واحدة إلى أن اكتسب حوالي 27 لغة على مر السنوات. مع العلم، أنه في الوقت نفسه، تعمق في دراسة العلوم والرياضيات أيضًا.
ولتطوير مهاراته اللغوية بشكل واسع، عاد سيزجين إلى المراجع الأثرية والوثائق الأصلية وبجانبها درس اللغة الفارسية واللاتينية والسريانية، حتى قرر أن يتعلم كل عام لغة واحدة إلى أن اكتسب حوالي 27 لغة على مر السنوات. مع العلم، أنه في الوقت نفسه، تعمق في دراسة العلوم والرياضيات أيضًا.
أبرز آرائه ومواقفه
بعد سنوات من العمل في جامعة إسطنبول كأستاذ وباحث في التراث العلمي العربي، حصل على الدكتوراه في عام 1954 وناقش أطروحته حول “صحيح الإمام البخاري” ومصادره، وهو الأمر الذي لفت الأنظار إلى مجهوداته العلمية بسبب النظريات والاكتشافات التي سلط الضوء عليها.
في هذا الخصوص يقول سيزجين عن أهم مصادر الثقافة الإسلامية بأن” البخاري في كتابه الجامع قد برهن على أنه ليس عالم الحديث الذي طور الإسناد، بل هو أول من بدأ معه انهيار الإسناد”.
رحل سيزجين إلى ألمانيا بعد أن منعته حكومة الانقلاب العسكري عام 1960 مع 146 أكاديميًا تركيًا من استئناف العمل والدراسة في الجامعات التركية
ويفسر ذلك في كتابه “مكتشف الكنز المفقود” حيث قال “أن جميع الأحاديث الموجودة في صحيح البخاري هي أفكار وابتكارات المدارس الفكرية التي عاشت في تلك الحقبة، وهو ما يعني أنه ليس لهذه الأحاديث أدنى علاقة بالنبي”، وهي النظرية التي رفضها العلماء وأثارت جدلًا واسعًا في الأوساط العلمية لكن سيزجين أصر على موقفه مؤكدًا على ذلك بمجموعة من التواريخ والأدلة.
عقب ذلك، رحل سيزجين إلى ألمانيا بعد أن منعته حكومة الانقلاب العسكري عام 1960 مع 146 أكاديميًا تركيًا من استئناف العمل والدراسة في الجامعات التركية، لتستقبلهم ألمانيا ويستمر سيزجين في طلب العلم حتى نال أطروحة الدكتوراه الثانية عن عالم الكيمياء العربي جابر بن حيان.
إنجازات وأنشطة علمية
حاضر سيزجين في عدد من البلدان العربية حول إسهامات العلماء المسلمين والعرب في تطوير العلوم خاصة في الطب وعلم الكيمياء والرياضيات وعلم الفلك، وكما ناقش تأثير هذه الإنتاجات على التطور والحضارة الغربية، وعلى هذا الأساس بنى نظرياته وأفكاره حول أسباب ركود الثقافة الإسلامية، وفي النهاية جمع جميع محاضراته وندواته عام 1984 ونشرها في كتاب باسم “محاضرات في تاريخ العلوم العربية والإسلامية”.
من أبرز المناقشات التي دارها سيزجين كانت حول دور المسلمين في مجال الجغرافيا وعلم الخرائط التي عمل عليها لمدة 20 عامًا، مطلقًا عليهم لقب “مؤسسي الجغرافيا البشرية” تأثرًا بآراء بعض المستشرقين الذين امتلكوا نفسه وجهة النظر مندهشين من المحتوى العربي في مجال الجغرافيا الرياضية.
أشاد سيزجين بدور الخليفة العباسي المأمون في تأسيس أكاديمية علمية في بغداد واستقبال كتب يونانية ومرصد في البغداد الأول في علم الفلك وآخر في بلاد الشام.
الأمر المثير للاهتمام هو اعتقاده بأن كريستوفر كولمبوس لم يكن يهدف إلى اكتشاف القارات وما عليها من أراض ومساحات، بل كان باحثًا عن الذهب والتوابل، حاملًا بيده خرائط العرب المسلمين معتمدًا على البوصلات التي اخترعوها العرب، إضافة إلى أن العرب وصلوا إلى أمريكا قبل كولمبوس بحوالي 80 عامًا.
وفي نطاق إشارته وحديثه عن الإنجازات العربية والإسلامية، أشاد سيزجين بدور الخليفة العباسي المأمون في تأسيس أكاديمية علمية في بغداد واستقبال كتب يونانية ومرصد في البغداد الأول في علم الفلك وآخر في بلاد الشام.
بالنسبة إلى سيزجين، لم يكن للعلم نهاية أو حد معين، لذلك قرر إنشاء متحف في مدينة فرانكفورت عام 1982 يجمع فيه آلاف مخطوطات عربية وخرائط ومراجع إسلامية وآلات تدلل على الجهود العربية التي سبق فيها المسلمين اليونانيين والغرب، وحرص على تزويد نسخ مترجمة منها لتكون متوفرة لجميع الأمم، إضافة إلى كونها محاولة إحياء للتراث العربي
كما نشر موسوعة باسم “تاريخ التراث العربي” في 12 مجلدًا تشمل الكثير من البإداعات والاختراعات الإسلامية الموزعة باختلاف التخصصات العلمية مثل العلوم القرآنية والكيمياء وعلم النبات وعلم الفلك والرياضيات وغيرها. ومن جهة أخرى، أطلق عليه البعض لقب “مستشرق” لتعاونه الكبير مع المستشرقين وتأثره بدراساتهم وبحوثهم المختصة في الحقول التي جذبت فضوله وشغفه، عوضًا عن زواجه أيضًا من المستشرقة أسولا سيزكين.
قبل وفاته، كان سيزجين، يواصل كتابة المجلد الـ18 (تاريخ التراث العربي) ضمن سلسلة تتناول تاريخ البشرية صدرت أولى مجلداتها في عام 1967. ويعد أوسع مؤلف يتناول تاريخ البشر. وقد حصل خلال سنين حياته على جوائز وأوسمة دولية
وقبل وفاته، كان سيزجين، يواصل كتابة المجلد الـ18 (تاريخ التراث العربي) ضمن سلسلة تتناول تاريخ البشرية صدرت أولى مجلداتها في عام 1967. ويعد أوسع مؤلف يتناول تاريخ البشر. وقد حصل خلال سني حياته على جوائز وأوسمة دولية عديدة من مؤسسات مختلفة مثل مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجمع اللغة العربية بدمشق، ومجمع اللغة العربية في بغداد، وأكاديمية العلوم في تركيا.
وقد توّج بالدكتوراه الفخرية من قبل جامعات عديدة، مثل «أتاتورك» في ولاية أرضروم التركية، و»سليمان ديميرال» في ولاية إسبارطة، وجامعة إسطنبول، فضلاً عن درع تكريم «Frankfurt am Main Goethe»، وميدالية الخدمة الاتحادية للدرجة الأولى بألمانيا، والجائزة الرئاسية الكبرى للثقافة والفنون بتركيا.
وجديرٌ بالذكر أنه كان أول من حاز على جائزة الملك فيصل للعلوم الإسلامية عام 1978 كما نال جائزة غوته لمدينة فرانكفورت عام 1979 وعلى وسام الشرف من الدرجة الأولى من جمهورية ألمانيا الاتحادية في العام 1982 وعلى وسام الشرف التقديري الكبير من جمهورية ألمانيا الاتحادية في العام 2002.