أعادت الأحكام الصادرة في حق نشطاء حراك الريف العديد من المسائل العالقة إلى الواجهة في المملكة المغربية، منها مسؤولية الدولة وهيبتها، مما جعل بعض الأسئلة تطرح مجددًا من قبيل: هل تنصلت الدولة من مسؤوليتها؟ وهل تسعى من خلال هذه الأحكام “القاسية” كما وصفها المغاربة إلى الحفاظ على هيبتها؟
المسؤولية السياسية
كشف حراك الريف وجود خلل على المستوى الحكومي، وفق قول الخبير في الشأن السياسي المغربي رشيد لزرق، وقال لزرق في حديثه لـ”نون بوست”: “في الوقت الذي كان يفترض من الحكومة تحمل المسؤولية السياسية كاملة، اتجهت أحزاب التحالف الحكومي إلى التنصل من المسؤولية السياسية، مع تعطيل آليات الرقابة البرلمانية التي تؤسس للثقة في المؤسسات”.
التنصل من المسؤولية عما يقع بالريف تجسد، حسب لزرق، في “لغة المزايدة من هذا الطرف وذاك، مما أسفر عن عدم الحصول على النصاب الدستوري لتشكيل لجنة لتقصي الحقائق، حيث عجزت مبادرة كل من حزب الاستقلال والأصالة والمعاصرة عن ذلك بفعل الصراع السياسي ونهج كل طرف لغة المزايدة بالحراك”.
عوض طرح ملتمس رقابة لإسقاط الحكومة وتجريدها من الثقة نتيجة فشلها، اتجهت أحزاب مغربية وفق رشيد لزرق إلى المزايدة
بدأت احتجاجات الريف في مدينة الحسيمة، في الـ28 من شهر أكتوبر 2016، بعد أن صادرت السلطات المحلية كميات كبيرة من السمك الذي اشتراه الشاب محسن فكري، وألقت بها في شاحنة لجمع القمامة، فقفز الشاب داخل الشاحنة لمحاولة جمع السمك المصادر، إلّا أن أحدهم شغل محرك الشاحنة، فاشتغلت آلة الشفط التي ابتلعت الشاب وسحقت عظامه حتى الموت.
نتيجة المزايدات بين الأحزاب وتنصّل كل طرف من المسؤولية تعطل الدور الرقابي للبرلمان، وكبحت الفعالية المؤسساتية في المملكة، في الوقت الذي كان المواطن المغربي ينتظر إصلاحًا من البرلمان والحكومة على حدّ سواء وفقًا للخبير السياسي رشيد لزرق.
ويضيف لزرق في حديثه: “الشعبوية التي تتسم بها عديد من الأحزاب السياسية في البلاد، بالغت في سياسة المزايدة الفارغة التي كان من نتائجها استمرار الأخطاء في تفعيل دور المؤسسات، إلى درجة لم نعد نعرف التفرقة بين الأغلبية من المعارضة، مما أدى إلى تسفيه النقاش العمومي والحط من دور البرلمان كمؤسسة رقابية، وجعل القنوات العمومية وجهًا لوجه أمام الشارع، بسبب الفراغ الذي حط من هيبة مؤسسة البرلمان وجعل عمل السلطات العمومية يظهر وكأنه عمل منعزل عن الحكومة”.
يتهم مغاربة البرلمان بالتخلي عن مسؤوليته
يقول لزرق: “البرلمان المغربي لم يقم بتفعيل أدوات الرقابة، للاطلاع على المعلومات الدقيقة والإحاطة بالملف وبقي رهينًا للمزايدات السياسية، فلم يقم بتأسيس لجان استطلاعية ولا لجنة تقصي الحقائق في أحداث الحسيمة، بفعل تقاذف المسؤولية بين الكتل البرلمانية”.
ويؤكد الخبير المغربي وجود قيادات حزبية وحكومية متورطة في المسؤولية السياسية والتدبيرية في التقصير تزايد بالملف لغايات سياسية لا علاقة لها بتسوية الملف ومطلبه الأساسي الذي هو في الأصل مطلب التنمية الذي لا يكون إلا بمؤسسات قوية وفاعلة ومتفاعلة مع محيطها”.
العفو العام
عوض طرح ملتمس رقابة لإسقاط الحكومة وتجريدها من الثقة نتيجة فشلها، اتجهت أحزاب مغربية وفق رشيد لزرق إلى المزايدة بطرح مبادرة برلمانية تفتقر للحبكة القانونية والدستورية تخص مقترح العفو العام لمحكومي الحراك، وتقدم في وقت سابق نائبين عن فيدرالية اليسار بمقترح للعفو عن نشطاء الحراك المحكومين.
هذه المبادرة البرلمانية الخاصة بالعفو عن المعتقلين يقول لزرق إن لها العديد من المخاطر، حيث تجعل القانون الجنائي يفقد قوة الردع عن ارتكاب الجريمة، كونه سيبقى خاضعًا للمزايدة السياسية، فالأغلبية البرلمانية لها أن تزايد به لأهداف انتخابية.
فضلاً عن مسؤولية الدولة، أعادت الأحكام الصادرة في حق نشطاء حراك الريف طرح مسألة هيبة الدولة
كما أنها، يضيف رشيد، ستضرب سلطة القضاء وتوازن السلطات كونها ستفقد الأحكام القضائية هيبتها، لهذا ينبغي على المؤسسة البرلمانية أن تتطلع على كل خلفيات الملف وتبعاته بشكل دقيق قبل اللجوء لقانون العفو العام.
وقبل أسبوع، وزعت إحدى محاكم الاستئناف المغربية أكثر من 300 سنة سجن على 54 معتقلًا من نشطاء “حراك الريف”، كان النصيب الأعلى منها لزعيم الحراك وأيقونته ناصر الزفزافي، وتفاوتت التهم التي وجهتها النيابة العامة للمعتقلين بين المشاركة في تظاهرات غير مرخصة والمس بأمن الدولة، التي تصل عقوبتها إلى الإعدام.
هيبة الدولة في تطبيق القانون
فضلاً عن مسؤولية الدولة، أعادت الأحكام الصادرة في حق نشطاء حراك الريف طرح مسألة هيبة الدولة، وأعادت النقاش عن دور مؤسسات الدولة في خلق نوع من الثقة مع المواطنين وسمو القوانين وتطبيقها على قدم المساواة بين الجميع.
في هذا الشأن يقول رشيد في حديثه: “الدولة الديمقراطية تفرض هيبتها عبر اقتران التمتع بالحقوق والحريات، والقيام بالواجبات والتزامات المواطنة، في ظل سيادة القانون، وأيضًا من خلال ضمان عدم جعل الحقوق والحريات وسيلة للنيل من سلطة الدولة، وفي قدرتها على الحفاظ على فعالية السلطات العمومية والمؤسسة القضائية”.
لزرق: الدولة تستمد هيبتها من تطبيق القانون
يؤكد رشيد أن الدولة تستمد هيبتها من قوة المؤسسات داخلها، تلك المؤسسات (التشريعية، القضائية، التنفيذية) القادرة على تطبيق سمو القانون في إطار فصل السلطات، فقوة المؤسسة القضائية مثلاً يكون باستقلاليتها، وقدرتها على تطبيق القانون بكل نزاهة وحياد، دون تدخل في اختصاصاتها، عبر إصدار تعليمات في نازلة معينة.
أما السلطة التنفيذية، فقوتها تتمثّل وفق رشيد لزرق في “تحمّل الحكومة مسؤوليتها السياسية وفق الاختصاصات والصلاحيات التي أوكلها لها الدستور، وتنفيذ القانون عبر استخدام كل تلك الصلاحيات، وأي امتناع عن التدخل ستكون مقصرة ولتقصيرها تأثير على هيبة الدولة”.
ويستدرك لزرق بالقول “صحيح أن هيبة المؤسسات لا يعني أنها معصومة من حدوث تجاوزات أو اختلال في المشروعية، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال القفز على مبدأ سمو القانون، فلا يمكن للدولة التفريط في الدفاع عن المصلحة العليا للدولة”.