كيف يجب التعامل مع الذكاء الاصطناعي؟

kuenstliche-intelligenz-cimon-soll-astronauten-unterstuetzen

مستقبلا، لن يكون الذكاء الاصطناعي في حياتنا مجرد إنسان آلي، كما هو الحال حاليا. وبالتالي، يجب علينا الآن أن نثق بدرجة أكبر في هذه التكنولوجيا الجديدة.

هل من الممكن أن تتخيل أن هناك ثورة لم يتمكن من ملاحظها إلا عدد قليل جدا من الناس؟ في الواقع، لقد اندلعت هذه الثورة حاليا بالفعل، ولكنها لا تشبه ما يعرضه الممثل الأمريكي، أرنولد شوارزنيجر، ولا تضاهي القوالب التي تقدمها أفلام هوليوود المعروفة. في الحقيقة، حاول فيلم الخيال العلمي “ذا تيرميناتور”، الذي جسد الآلة في صورة إنسان، تسليط الضوء على سبب الثورة الحالية، ألا وهو الذكاء الاصطناعي. ولم تعد المشكلة في قدرة الإنسان على بناء آلة مشابهة للآلة التي ظهرت في “ذا تيرميناتور”، بل تكمن في حقيقة أن الكثيرين يضعون تصورا خاطئا حول هذه التكنولوجيا، ولم يقدروها حق قدرها.

اشتعل فتيل الثورة الحقيقية الآن

السؤال المطروح حاليا: ما هو الذكاء الاصطناعي؟ وكيف تمكّن من التوغل في كل جزء من حياتنا اليومية بهذه الطريقة؟ كيف سيؤثر الذكاء الاصطناعي على حياتنا الاجتماعية وعلى الوظائف التي نشغلها؟ وهل بالفعل أصبحت نصف الوظائف الحالية في خطر بسبب الذكاء الاصطناعي، كما يعتقد البعض؟ أم هل يقودنا الذكاء الاصطناعي إلى تغييرات جذرية، ليخلق لنا فرص عمل جديدة، على غرار ما فعلته التحولات التكنولوجية السابقة؟ وإلى أي مدى ستكون هذه الوظائف أكثر نجاعة مقارنة باليوم؟

قد يكون من الغباء أن نحاول التنبؤ بهذه التفاصيل في الوقت الحالي، أو أن نقدم إجابات قاطعة لهذه الأسئلة. فمع التطور المستمر في عالم الحواسيب، أصبح من الصعب توقع التغيرات التي ستحدث في السنوات القليلة القادمة. ولكن من المؤكد أن هناك تطورا كبيرا سيحدث، وسيصحب هذا التطور مجموعة من الإمكانيات الهائلة والمختلفة جذريا عما نراه اليوم، ومن المهم التعامل مع هذا التطور بالشكل المناسب.

من المثير للدهشة أن أقل من ثلث الذين خضعوا لاستطلاع الرأي رأوا أن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع أن يحل محلهم في العمل

هل نتعامل معه بالفعل بطريقة صحيحة؟

كشف استطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب بالتعاون مع جامعة نورث إيسترن في الولايات المتحدة الأمريكية، أن الغالبية العظمى من البشر أصبحوا مدركين بشكل كبير لوجود هذه التكنولوجيا الجديدة. وتوقع الكثير ممن أجري معهم استطلاع الرأي أن الذكاء الاصطناعي سيكون له أثر بالغ في حياتنا، وأن العديد من الأشخاص سيفقدون وظائفهم بسببه. وعلى المستوى الشخصي، أكد غالبيتهم أنهم لن يفقدوا وظائفهم الحالية بسبب الذكاء الاصطناعي.

كما أجرت مؤسسة إبسوس استطلاعا آخر للرأي أكثر دقة وعلى نطاق أوسع، بناء على طلب من مجموعة بوسطن الاستشارية, وأظهر هذا الاستطلاع أن 58 بالمائة من قرابة 7000 شخص، خضعوا لاستطلاع الرأي، يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي لن يتمكن من أن يشغل مكانهم في الوظيفة التي يعملون بها حاليا. وكانت النسبة الأعلى من الأشخاص المؤمنين بهذه الفرضية في فرنسا، حيث بلغت نسبتهم 69 بالمائة، تليها ألمانيا بنسبة 67 بالمائة.

الصين تخطو خطوات كبيرة في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي

من المثير للدهشة أن أقل من ثلث الذين خضعوا لاستطلاع الرأي رأوا أن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع أن يحل محلهم في العمل. وقد يرجع السبب في ذلك إلى اختلاف العقليات، وطبيعة الوظيفة التي يشغلونها. ولكن السبب الرئيسي يرتبط في الواقع بجانب مختلف تماما. ففي الصين، ينتشر استخدام الذكاء الاصطناعي بصورة أوسع من استخدامه في كل من فرنسا وألمانيا. بناء على ذلك، وعند إجراء مقارنة مع الدراسة التي نشرتها مجموعة بوسطن الاستشارية، يتضح أن فرص اعتماد الذكاء الاصطناعي تزداد كلما شعر الناس بأثر الاستخدامات التطبيقية له. ولذلك، يختلف الأمر من دولة لأخرى.

في الوقت الحاضر، تنبثق أغلب الابتكارات في استخدام الذكاء الاصطناعي انطلاقا من الشركات الكبرى في الصين والولايات المتحدة

في الحقيقة، قد يقودنا ذلك إلى منحى خطير على مستوى تطور الأحداث، وخاصة في حال استمر السياسيون والمجتمع كما عهدناهم في سد آذانهم عما يخبرنا به العلماء والخبراء ورجال الأعمال حول الذكاء الاصطناعي. في واقع يجب على هؤلاء الأشخاص أن يطالبوا بالاعتماد أكثر على الذكاء الاصطناعي ودعمه في المجالات العلمية والصناعية، ولاسيما في الشركات الناشئة. في الوقت ذاته، ينبغي على السياسيين دعمهم بصورة أكثر فاعلية، في حين لا بد من التشجيع على إدراج الذكاء الاصطناعي في إطار الدراسة الأكاديمية والتدريب. وفي حال لم يحدث ذلك، سيفقد الكثيرون وظائفهم الحالية بالفعل، لأنهم لن يكونوا مؤهلين للعمل ضمنها في المستقبل.

في الوقت الحاضر، تنبثق أغلب الابتكارات في استخدام الذكاء الاصطناعي انطلاقا من الشركات الكبرى في الصين والولايات المتحدة، على غرار شركة غوغل وفيسبوك وأمازون، أو شركة تينسنت الصينية. ولسائل أن يسأل، كيف سيتغير العالم بعد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي؟ ولماذا يعتقد الكثيرون أن هذه التكنولوجيا ستنافس الإنسان في بعض المجالات؟ منذ عقود، يسعى الباحثون من كافة أنحاء العالم إلى تطوير برمجيات ذكية، تستطيع إنجاز ما يقوم به البشر. وبعد تحقيق بدايات مبشرة، مني الباحثون بسلسلة من الخيبات أثناء محاولتهم تحقيق هذا الهدف، وخاصة في سبعينيات القرن الماضي.

ففي تلك الفترة، لم تكن أبحاث الذكاء الاصطناعي تلقى الدعم المادي الكافي لإكمالها، وعرفت تلك الحقبة باسم “شتاء الذكاء الاصطناعي”. وقد كان مصطلح “الذكاء الاصطناعي” في ذلك الوقت سيء السمعة، وحتى مع دخولنا الألفية الجديدة، يفضل الباحثون والشركات إطلاق مسميات مختلفة على تطبيقات الذكاء الاصطناعي. ولكن خلال السنوات القليلة الماضية، باتت كافة الشركات الناشئة تستخدم كلمة “الذكاء الاصطناعي”، كما أن المؤتمرات المتعلقة بالتكنولوجيا لا تكاد تخلو من هذه الكلمة السحرية.

التقدم يسير بخطى متسارعة

لا يخفى على أحد أن التطور السريع على مستوى رقاقات الحاسوب وكذلك استخدام الخوارزميات بصورة أفضل، أدى إلى تطور الآلات والحواسيب بصورة كبيرة خلال الآونة الأخيرة، وخاصة في بعض المجالات، لدرجة أنه تفوق على المجهود البشري فيها. ولا يرجع ذلك إلى أنها تستطيع التثبت في كمية هائلة من البيانات خلال وقت قصير جدا فحسب، وإنما يمكنها أيضاً الوصول إلى نتائج محددة ودقيقة واقتراح عدة قرارات بشأنها.

تشترك جميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي في شيء واحد، أنها مجرد برمجيات حاسوبية، وليست كما تظهر في أفلام هوليوود

ليس هذا فحسب، فمنذ فترة، ابتكرت شركة “آي بي إم” تطبيقا يستطيع خوض مناقشة مع البشر, وخلال مؤتمر المطورين الأخير لشركة غوغل، قدم المطورون تطبيقا يعتمد على الذكاء الاصطناعي، يستطيع حجز موعد مع الحلاق عبر الهاتف، دون أن يلاحظ المجيب على الهاتف أن من يتحدث إليه ليس إنسانا.

تشترك جميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي في شيء واحد، أنها مجرد برمجيات حاسوبية، وليست كما تظهر في أفلام هوليوود، وتلعب دور البطولة المطلقة فيها. لكن هناك استثناءات في تلك الأفلام، على غرار فيلم “هي”، عندما وقع البطل في حب الذكاء الاصطناعي، وكذلك، في فيلم “2001: ملحمة الفضاء” للمخرج العالمي، ستانلي كوبريك، الذي ظهر فيه الحاسوب “HAL 9000” في هيئة عين يخرج منها اللون الأحمر، وتصدر صوتا.

بالطبع، لن تستطيع التطبيقات بصورتها الحالية، على غرار المجسم الذي يصور نظام التشغيل أندرويد، فعل ما يفعله الإنسان، فهي ليست ذكية بقدر نظام التشغيل “سامانثا”، الذي جسد الذكاء الاصطناعي في فيلم “هي”. كما لا تمزق هذه التطبيقات ما أمامها دون رحمة، مثل HAL 9000، في رائعة كوبريك. لن يحدث الذكاء الاصطناعي المعجزات، فهو في نهاية المطاف مجرد وسيلة مساعدة متطورة.

القضاء على الوظائف المكتبية

ما ذَكر سابقا لا يجعلنا نستهين بقدرات الذكاء الاصطناعي. فعلى من يرغب في الحصول على وظيفة في المستقبل أن يدرك من الآن أن عليه التعامل مع زملاء جدد غير مرئيين. فهناك بعض الوظائف التي لن يكون على المرء فيها أن يقوم بأي مجهود، لأنها ستتم بطريقة آلية، على غرار أمين الصندوق في الأسواق التجارية، وما على شاكلتها من وظائف.

يكمن الأمر المذهل حول هذه الأنظمة الأوتوماتيكية، في أنها تتمتع بذكاء شديد، وليس هناك داع لإعادة برمجتها في كل مرة تطرأ فيها مستجدات على طريقة إنجاز العمل

فضلا عن ذلك، سيطال هذا الأمر أيضا الوظائف المكتبية. فخلال الخمس سنوات القادمة، سيتم إنجاز حوالي 40 بالمائة من الأعمال التجارية في المكاتب الخلفية، بطريقة أوتوماتيكية عن طريق الروبوتات، وذلك حسب توقعات شركة “آي تي كيرني” للاستشارات. يمكن لهذه البرمجيات الروبوتية على سبيل المثال إدخال أسماء وعناوين الحرفاء وأرقام الطلبيات، انطلاقا من الرسائل الإلكترونية التي يرسلها الحرفاء إلى أنظمة الحواسيب في الشركة.

يكمن الأمر المذهل حول هذه الأنظمة الأوتوماتيكية، في أنها تتمتع بذكاء شديد، وليس هناك داع لإعادة برمجتها في كل مرة تطرأ فيها مستجدات على طريقة إنجاز العمل. ففي الغالب، تكتفي هذه الأنظمة بمشاهدة الموظفين وهم بصدد إنجاز العمل، وتتعلم منهم بشكل آلي، حيث تعمد إلى ملاحظة التغيرات التي يدخلها البشر أو الإصلاحات المتبعة فيما يتعلق بالأخطاء في البرمجيات المستخدمة في العمل. وقد يعتقد البعض أن هذه المعطيات مجرد تخمينات، كما يشككون في مصداقيتها، في حين غالبا ما يشعرون بأن الأمر يشكل تهديدا بالنسبة لهم.

لكن في كل الأحوال، سواء كانت نسبة الوظائف التي ستستولي عليها الروبوتات ستبلغ 40 بالمائة أو 50 بالمائة أو 20، تعد، في الواقع، نسبة لا يستهان بها. وتعتبر هذه الأرقام لمحة عن البداية فقط، حيث يشهد العالم الآن مرحلة رقمنة سريعة، في حين أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي باتت تمثل جزءا هاما من عملية التطور في خضم هذه المرحلة.

يتمثل الأمر المميز حول هذه التطورات التكنولوجية في أنها تحدث بسرعة خيالية. نتيجة لذلك، يواجه الأفراد أحيانا صعوبة في استيعاب المستجدات في هذا المجال. وفيما يلي مثال لتبين السرعة المهولة لهذا التطور. لنفترض أن لدينا ملعب كرة قدم، ونحاول تعبئته من خلال ضخ قطرات من الماء كل ثانيتين، أولا نضع قطرة، ثم قطرتين، ثم أربعة، ثم ثمانية، وهكذا يتضاعف العدد كل مرة. فكم سنستغرق من الوقت لملء الملعب بأكمله حتى مستوى سقف المدرجات؟ تتمثل الإجابة في أن هذا الأمر لن يستغرق أكثر من 10 دقائق.

عندما تتحدث إلى خبراء الذكاء الاصطناعي، يحيل أغلبهم إلى أن هذه التكنولوجيا المتطورة لن تكون قادرة على اكتساب أي جانب عاطفي خلال الفترة القادمة

حان الوقت للاستعداد لمواجهة الأمر

ستسغرق هذه العملية بعض الوقت قبل أن تكتمل فعلا، وتأتي اللحظة التي يمتلأ فيها الملعب بالماء ولا يعود بإمكان الجماهير التغاضي عن هذا الأمر. في البداية، ربما لن يلاحظ الكثير من الأشخاص أن هناك شيئا ما بصدد التشكل، حيث لن يروا سوى قطرات قليلة تتساقط على العشب، لتبدأ برك الماء الصغيرة بالتشكل. في الأثناء، لا يمكن الاستهانة بهذه القطرات، بل تمثل هذه المرحلة الوقت المناسب للاستعداد.

ولكن كيف؟

عندما تتحدث إلى خبراء الذكاء الاصطناعي، يحيل أغلبهم إلى أن هذه التكنولوجيا المتطورة لن تكون قادرة على اكتساب أي جانب عاطفي خلال الفترة القادمة. كم جانب آخر، يشكك آخرون في إمكانية حدوث هذا الأمر بالأساس. فضلا عن ذلك، تثير بعض العراقيل إزعاج المهتمين بهذا المجال، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدعم الابتكار والاختراعات، ولكنه لا يمكنه تعويض العقل البشري المبدع. بناء على ذلك، تحتاج هذه التكنولوجيا لتعزيز الجوانب البدائية فيها، مثل القدرات العاطفية والابتكار. وفي انتظار ذلك، من الأفضل أن تكون لدينا فكرة ولو بسيطة حول كيفية عمل برمجيات الذكاء الاصطناعي.

ما الذي يمكن للسياسة أن تقدمه في إطار هذا المجال؟

تتمثل الأخبار الجيدة في أن الحكومة الألمانية أعلنت أنها بصدد تشكيل لجنة من الخبراء في الذكاء الاصطناعي، وتعتزم تقديم مخطط لتطوير هذا المجال خلال القمة الرقمية القادمة، المزمع انعقادها في أوائل كانون الأول/ ديسمبر. وفي حال التزمت الحكومة الألمانية بتنفيذ تعهداتها في هذا الصدد، سيشهد قطاع الذكاء الاصطناعي في ألمانيا دفعة قوية. ومن المنتظر أن تتضمن الخطة الحكومية جهودا ضخمة في مجال التعليم والتدريب، إضافة إلى إستراتيجية لدعم البحوث العلمية والمشاريع التجارية في هذا المجال. ومن المرجح أيضا أن تنجح الحكومة في إحداث تغيير جذري على مستوى الرؤية العامة في مجال الذكاء الاصطناعي.

توجد العديد من الدول التي لا تهتم كثيرا بالمخاوف التي تعرقل تطور الذكاء الاصطناعي

المناطق الأخرى من العالم أقل اهتماما بالمخاوف من الذكاء الاصطناعي

مما لا شك فيه أن أي تكنولوجيا على غرار الذكاء الاصطناعي، تحمل في ثناياها بعض المخاطر والغموض المثير للقلق. ويكمن الخطر الحقيقي في الوقت الحالي في أنه بسبب المخاوف الكبيرة في ألمانيا وأوروبا، والنظرة السلبية لهذا القطاع، يتم إحداث أغلب التطورات التكنولوجية الكبيرة خارج القارة العجوز. من هذا المنطلق، من المهم جدا ألا نتوقف عند حدود إبداء تحفظات بشأن هذا الموضوع، بل لا بد أن ننخرط في هذا المجال بشكل سريع، مع محافظتنا على معيار العقلانية والجانب الإنساني. ففي الغالب، يمكن للأخطاء التي نخشى حدوثها أن يتم معالجتها بشكل سهل، عوضا عن الاكتفاء بمراقبة ما يحدث في باقي أنحاء العالم.

توجد العديد من الدول التي لا تهتم كثيرا بالمخاوف التي تعرقل تطور الذكاء الاصطناعي. وبالطبع تحتاج أوروبا إلى جعل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في متناول الأفراد، من أجل خدمة صالحهم الشخصي، وليس كما يحدث في الصين، حيث يتعرض كل مواطن يجرؤ على تجاوز إشارة المرور الحمراء إلى تجريده من عدد من النقاط في تصنيفه الاجتماعي.

المصدر: زود دويتشه تسايتونغ