المبارة النارية التي ينتظرها الشعب الألماني لم تكن في مونديال روسيا، فحامل اللقب ودع المونديال من الدور الأول، ولكن المبارة النارية حقًا في ألمانيا جاءت بين المستشارة أنجيلا ميركل ووزير داخليتها الرئيس السابق لحكومة ولاية بافاريا هورست زيهوفر على مدار الأسبوعين الماضيين، وهي المبارة التي على أساسها قد تخرج ميركل من منصبها بشكل أشد سوءًا من خروج منتخب بلادها من المونديال الكروي، وحينها لن يكون هذا الزلزال السياسي مقتصرًا على ألمانيا فقط وسيطول كل أوروبا، وهو ما يفسر سر زيارة أنجيلا ميركل للبنان والأردن مؤخرًا.
ولا يخفى على أحد أن مشهد الصدام المتصاعد بين إيطاليا وفرنسا الآن هو أيضًا لنفس سبب الخلاف بين ميركل ووزير داخليتها، نعم إنه ملف الهجرة واللاجئين الذي باتت تداعياته تهدد مستقبل زعماء وحكومات وأنظمة أوروبا وفي مقدمتهم ألمانيا.
فبعد أن صرح علنًا وزير الداخلية زيهوفر الذي يتزعم حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي (CSU) الحليف الرئيسي لحزب ميركل الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، بأنه لم يعد قادرًا على العمل مع رئيسة الحكومة المستشارة أنجيلا ميركل، بسبب سياستها المتهاونة في ملف الهجرة، معربًا عن اعتقاده بأن رد اللاجئين من عند الحدود الألمانية بات أمرًا ضروريًا من أجل إخماد أصوات القوى السياسية اليمينية، دب الخلاف علنًا بين ميركل ووزير داخليتها بسبب إعداد زيهوفر لخطة هدفها رفض استقبال المهاجرين المسجلين في دول أخرى بالاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي تعارضه ميركل لأن من شأنه أن يغير سياسة “الباب المفتوح” التي انتهجتها عام 2015 وتقوض من سلطتها.
والآن يستمر النزاع داخل البوندستاغ (البرلمان) في التفاقم بين حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تتزعمه ميركل، وحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي الذي يتزعمه حليفها زيهوفر، كي يهدد هذا الانقسام ائتلاف ميركل الحاكم الذي لم يمض على تشكيله أكثر من ثلاثة أشهر، ويوجه ضربة أيضًا لنظام الحدود المفتوحة بين دول الاتحاد المعروف باسم “شينغن” في وقت تتزايد فيه الانقسامات داخل الاتحاد.
صرح هوست زيهوفر لصحيفة “بيلد” الألمانية، قائلاً: “الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا، لكن المسلمين الذين يعيشون عندنا ينتمون بالتأكيد إلى ألمانيا، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن نتخلى عن تقاليدنا وأعرافنا لاعتبارات خاطئة”
الأمر الذي عبر عنه وزير الداخلية الألماني زيهوفر، عندما كتب مقالاً لصحيفة “فرانكفورتر” منتصف يونيو، يقول فيه: “تماسك أوروبا في خطر وكذلك تماسك ألمانيا، الوضع خطير ولكن يمكننا التغلب عليه، فمن الضروري أن تتوصل قمة الاتحاد الأوروبي في نهاية يونيو/حزيران إلى اتفاقيات تعترف بالعبء الذي تتحمله ألمانيا فيما يتعلق بسياسة الهجرة، فالاتحاد الأوروبي يجب أن يضمن حماية الحدود الخارجية لدول الاتحاد، كذلك التوزيع العادل للأشخاص الذين يسمح لهم بالبقاء، وسرعة عودة الذين ليس لهم ذلك الحق، كما يتعين على القيادة السياسية في ألمانيا وأوروبا أن تجعل المواطنين يقتنعون أنه نستطيع أن نتحكم في الهجرة، وأن لدينا سيطرة على الأحداث، وأن على المواطنين ألا يقلقوا وبإمكانهم أن يعيشوا حياتهم في أمان”.
ويرى البعض أن ذلك المقال استكمال لأفكار زيهوفر التي عبر عنها سابقًا، عندما صرح في 2 من مارس 2018 لصحيفة “بيلد” الألمانية، قائلاً: “الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا، لكن المسلمين الذين يعيشون عندنا ينتمون بالتأكيد إلى ألمانيا، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن نتخلى عن تقاليدنا وأعرافنا لاعتبارات خاطئة، فألمانيا طابعها مسيحي يوم الأحد عطلة، أيام العطل مسيحية وأعياد الفصح والعنصرة وعيد الميلاد جزء منها”.
وأثار هذا التصريح جدلاً واسعًا في البلاد بشأن مكانة الإسلام في المجتمع الألماني حيث يعيش أكثر من أربعة ملايين مسلم، واستقبل بتشجيع من ميركل منذ 2015 مئات الآلاف من اللاجئين غالبيتهم العظمى من بلدان مسلمة.
خاصة أن تصريح زيهوفر جاء بعد يومين من إعادة انتخاب المستشارة أنجيلا ميركل لولاية رابعة على رأس تحالف بين المحافظين والاشتراكيين الديمقراطيين، ومن المعلوم أن الرئيس الألماني السابق كريستيان فولفيشير قد صرح في 2010 أن الإسلام أصبح جزءًا من ألمانيا، وهي جملة التي كررتها أنجيلا ميركل مرات عديدة.
يستمر التضارب والاختلاف فيما بين دول الاتحاد في التعامل مع ملف الهجرة، وكل دولة حسب مصالحها السياسية
خلاصة القول، لقد أمهل حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي أوروبا كلها وليس أنجيلا ميركل فقط أسبوعين، قبل قمة الاتحاد الأوروبي المقررة يومي 28 و29 من يونيو/حزيران، لتقديم حل أوروبي بشأن سياسة الهجرة قبل المضي قدمًا في تنفيذ خطته التي تمثل تحديًا صارخًا لميركل التي قد تفخخ الاتحاد الأوروبي من الداخل، وتجعل الدول الأعضاء فيه في موقف التربص من بعضهم البعض.
فإذا قرر زيهوفر المضي قدمًا في خططه وتحدي ميركل، فمن المؤكد أن التحالف البرلماني المحافظ والمستمر منذ 70 عامًا بين الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي سيكون على وشك الانهيار، فدون الاتحاد الاجتماعي المسيحي سيفقد ائتلاف ميركل الذي يضم أيضًا الحزب الديمقراطي الاشتراكي أغلبيته البرلمانية.
ورغم أن الاتحاد الأوروبي أعلن أمس الخروج باتفاق جديد بشأن الهجرة على لسان رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، يحمل طابعًا شاملاً ويقضي بإنشاء مراكز للمهاجرين في الأراضي الأوروبية يمكن الإشراف عليها، إلا أن حقيقة الأمر بعد انتهاء قمة الاتحاد الأوروبي ببروكسل التي جاءت يومي 28 و29 من يونيو، لم تخرج القمة بخريطة واضحة متفق عليها من كل دول الاتحاد للتعامل مع ملف الهجرة، وتضارب وتناقض تصريحات زعماء دول الاتحاد ووكالات الإعلام الأوروبية جاء دليل على ذلك.
وربما يكون الشيء الوحيد الذي جاء متفقًا عليه من جميع دول الاتحاد هو إقرار تمديد العقوبات ضد روسيا لمدة 6 أشهر أخرى، كي يستمر التضارب والاختلاف فيما بين دول الاتحاد في التعامل مع ملف الهجرة، وكل دولة حسب مصالحها السياسية ونفوذ شركاتها على النفط والغاز في الشرق الاوسط، ونوعية الشعارات التي ستستخدم في الانتخابات القادمة بكل دولة بالاتحاد.
فيبدو أن ما طال الدول التي أصابها حمى الربيع العبري من خراب وتشريد لأهلها سيطول حكومات وأنظمة كثيرة، وأوروبا ستدفع قريبًا فواتير كثيرة غير اللاجئين، وستكون بين سندان أزمات الشرق الأوسط ومطرقة دونالد ترامب، ومن المؤكد أن ألمانيا أصبحت على صفيح ساخن، فحتى إن هدأت الأمور بعض الشيء بين ميركل وزيهوفر، فهناك من القوى السياسية بداخل ألمانيا ستستغل ذلك الأمر جيدًا لصالحها، مما سيجعل الولاية الرابعة للمستشارة الألمانية (التي وصلت شعبيتها إلى أدنى مستوى) بلا يوم هادئ.