لطالما شجّعت العديد من المجتمعات، خاصة الإسلامية والعربية، على تناول الطعام بطريقة تشاركية وبشكلٍ عائليّ وجماعيّ. ففي الإسلام على سبيل المثال، ثمة العديد من الأحاديث التي تمتدح الطعام الذي تجتمع حوله الكثير من الأيادي. ومع تطوّر الثقافات، حافظت المجتمعات على هذا السلوك بوصفه صفةً جماعية محبّبة.
وبالمثل، فقد لاحظ علماء الأنثروبولوجيا وعلم النفس التطوّري منذ فترة طويلة أهمية تقاسم الطعام كإيماءة رمزية من أجل تعزيز التضامن بين أفراد الأسرة، إذ تعدّ مشاركة الطعام عنصرًا حيويًا مهمًّا في بناء شبكات القرابة والعائلة؛ عوضًا عن أنّ الطعام العائلي يشكّلي أهمية عاطفية عميقة في إرساء التماسك والتضامن وتقوية الروابط والوحدة الاجتماعية بين الأفراد.
طوّر البشر الأكل الجماعيّ كآلية لتسهيل الترابط الاجتماعي وتقوية العلاقات بين أفراد الجماعة الواحدة
يمكننا القول أنّ الأكل الاجتماعي يلعب بوضوح دورًا رئيسيًا في تطوير الحياة الاجتماعية والاستقرار النفسيّ عند الأفراد داخل أيّ المجتمع، فوفقًا لإحدى الأوراق البحثية فقط طوّر البشر الأكل الجماعيّ كآلية لتسهيل الترابط الاجتماعي وتقوية العلاقات بين أفراد الجماعة الواحدة. وقد أظهرت الورقة ذاتها أنّ من يأكلون جماعيًّا يسجّلون في أغلب الأحيان نسبًا أعلى في السعادة والرضا عن الحياة؛ فهم أكثر ثقة في الآخرين وأكثر انخراطًا مع مجتمعاتهم المحلية، ولديهم عددًا أكثر من الأصدقاء.
وقد بدأت دراسة الطعام أو الأكل تأخذ منحنىً مغايرًا منذ نهايات القرن العشرين، إذ لم تعد تقتصر على وظيفته الفسيولوجية أو البيولوجية وحسب، بل ظهرت أيضًا العديد من الدراسات الإنسانية الحديثة التي تبحث في الوظائف النفسية والاجتماعية له، ودراسة أثر العوامل الاجتماعية عليه وفهمه من خلال نظريات علم الاجتماع مثل نظرية التحديث والتحضّر والتصنيع والفردانية والجماعية وغيرها الكثير.
مبدئيًا، يمكن ملاحظة أثر التحوّلات الثقافية على موقع الطعام ومكانته من خلال مراقبة كيف كانت العديد من المجتمعات تنظر إلى وقت تناول الطعام على أنه مقدّس، لاجتماع العائلة جميعها حول سفرةٍ واحدة في نفس الوقت بعد قضاء عدة ساعاتٍ في تحضير تلك الوجبة التي يحبّها الجميع ويحتفون بها معًا. أما في في يومنا هذا، فمعظم الآباء ليس لديهم الوقت لطهي الطعام، والكثير منهم لا يعرفون حتى كيف نظرًا لتطورات الحداثة وانشغالهم الدائم والكبير.
كما أنّ فكرة قضاء المزيد من الوقت والمال في انتقاء المستلزمات والمنتجات اللازمة لإعداد وجبة طعام من السوبر ماركت باتت غير مجدية أبدًا أو غير ضرورية في الوقت الذي تستطيع فيه طلب أيّ وجبة من خلال اتصالٍ هاتفيّ أو تطبيقٍ ذكيّ على هاتفك المحمول، أو تتوقف لمدة عشر دقائق لجلب تلك الوجبة من أيّ مطعمٍ للوجبات السريعة والجاهزة في طريق عودتك لبيتك بعد نهار عملٍ طويل.
غياب الوجبات الجماعية راجعٌ أساسًا نتيجةً لانحطاطٍ في مركزية الأسرة في المجتمعات الحديثة واضطرار الأمهات والإناث للعمل خارج المنزل لساعاتٍ طويلة، وهيمنة المطاعم والوجبات السريعة
ضمنيًا، هناك حقلان يمكن أنْ نركّز عليهما في حديثنا عن أثر تحوّلات الثقافات الحديثة على الطعام والأكل في المجتمعات المختلفة؛ أولهما يبحث في أسباب غياب أو تراجع الوجبات الأسرية أو العائلية الجماعيّة، والثاني ينظر في نتائج وعواقب هذا الانخفاض. وبشكلٍ عام، يمكننا القول أنّ الأمر راجعٌ أساسًا نتيجةً لانحطاطٍ في مركزية الأسرة في المجتمعات الحديثة. بالإضافة إلى الأسباب المرتبطة بهذا مثل اضطرار الأمهات والإناث للعمل خارج المنزل لساعاتٍ طويلة، وهيمنة المطاعم والوجبات السريعة وزيادة الضغوط المجتمعية على الأسرة ما أدّى إلى العديد من التغييرات في شكلها ووظيفتها.
ومع زيادة الطابع الفردانيّ على مجتمعات ما بعد الحداثة، ازدادت ممارسات الأكل الفردية بشكلٍ مطّرد حتى داخل الأسرة الواحدة، فلم تعد العائلة تجتمع حول الطعام معًا، حتى وإنْ صنعت الأم وجبةً ما، فبات من الصعب تجمّع جميع الأفراد معًا لتناولها، فهناك من يعمل وهناك من يدرس وهناك من لديه خطط مختلفة في الخارج، وهكذا.
فوفقًا للصيرورة الفردانية التي باتت تطغى على المجتمعات، أصبح الفرد مركزًا في اختياراته الفردية التي تتضمن المعتقدات والعمل والتعليم والأسرة والصداقات والعلاقات. فلم يعد شكل الزواج كما كان عليه سابقًا، ولم تعد الأدوار ذاتها كما كان مُتعارف عليه، فالمرأة الآن لا تقبل البقاء في البيت فقط لتمارس المهام المنزلية وحسب، بل تشارك في العمل جنبًا إلى جنب مع الرجل، وعليه فمهمّة إعداد الطعام أخذت بالانحسار والانخفاض من الثقافة العائلية التقليدية.
وقد انعكس الأمر أيضًا على شكل الوجبات التقليدية التي اعتدنا عليها لسنين طويلة، فاستُبدلت الوجبات التي كانت لا تُطبخ إلا لعائلة وبكميات كبيرة بأخرى أصغر حجمًا أو مخصصة لفردٍ واحد فقط تصنعها المطاعم وتقدّمها ليأكلها الفرد على عجلٍ حتى ولو شاركه فيها صديق أو اثنين. أو قد يتمّ إعدادها في البيت بطريقةٍ أكثر حداثية تماشيًا مع تبعات هذا الزمن وتطوراته مثل ضيق الوقت أو انشغال أفراد الأسرة وعدم قدرة تجمّعهم.
لفائف “مسخّن” فلسطيني ظهرت مؤخرًا مخالفةً للشكل المتعارف عليه لهذه الوجبة العريقة
إضافةً لذلك، تُعتبر ساعات العمل الطويلة وغير المنتظمة سببًا رئيسيًا فيما يمكن تسميته بالسلوكيات الحديثة والفردانية في الأكل، فخروج المرأة للعمل واعتمادها على نفسها ومساهمتها في مصاريف البيت كنتيجةٍ لتطورات الحداثة وما بعدها، أحدث الكثير من التغييرات في بُنية الأسرة وسلوكياتها ونشاطاتها ودورها فيما يتعلّق بالفرد نفسه وبالمجتمع ككلّ.
وفقًا لدراسة فالأطفال الذين يحظون بوجبات عائلية مشتركة قد سجّلوا معدلات سعادة وصحة نفسية أكثر ممن يفتقدون لذلك
كما قد يكون البحث الحالي حول الوجبة العائلية مهمًّا في دراسة التقلبات في العائلات المعاصرة بما في ذلك الأنواع العائلية المختلفة، النووية والممتدة، وأثر ذلك على تنشئة الأطفال والمراهقين وتطوّرهم النفسيّ والعاطفيّ من جهة، ونوعية ارتباط الآباء بأطفالهم من جهةٍ أخرى. إذ أنّنا نستطيع النظر للوجبة العائلية التشاركيّة بكونها فرصةً مناسبةً لمشاركة الأبوين وأطفالهما وقتًا مشتركًا يتحدّثون فيه عن شؤونهم الخاصة ويقوّون من خلاله الروابط الأسرية. فقد أشارت إحدى الدراسات أنّ أولئك الأطفال الذين يحظون بوجبات عائلية مشتركة سجّلوا معدلات سعادة وصحة نفسية أكثر ممن يفتقدون لذلك. كما أنهم يحصّلون معدّلات أفضل في مدارسهم ويسجّلون نسبًا أقل بتعاطي الكحول أو المخدرات أو التدخين أو استخدام أدوية أخرى. إضافةً إلى أنّهم يستمتعون بعلاقاتٍ أفضل مع أبويهم وأشقّائهم وأصدقائهم في المدرسة.
وبالمحصّلة، نستطيع القول أنّ تحوّل الطعام بوصفه فعالية اجتماعية تشاركية إلى فعلٍ فردانيّ بحت هو نتيجة لإضفاء الطابع الفردي على المجتمعات المختلفة، تمامًا كما هو نتيجةَ صعود وظهور الحركات المختلفة التي تدعو إلى التعبير عن الذات وإثباتها وتحقيقها ما أدّى إلى تغييرات كُبرى لا على مستوى الفرد وحسب، بل على مستوى الأسرة والعائلة والمجتمع ككلّ، ويكفي النظر إلى موقع الوجبة التي تجتمع حولها العائلة هذه الأيام ومقارنتها مع ما يقارب العشر أو العشرين سنة من الآن، لنلاحظ الفرق ونستشفّ الفروقات والاختلافات والعواقب الاجتماعية والنفسية.