كان خطاب عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي الذي ألقاه عبد الفتاح السيسي، مساء يوم الأربعاء 3 من يوليو 2013، الأشهر في مصر منذ سنوات خمسة، خرج وقتها على المصريين بزيه العسكري حين كان قائدًا للقوات المسلحة، وكان قد أعد العدة، فملك زمام الجيش وخضعت له الأحزاب السياسية ودعمه رأس الأزهر والكنيسة، ففعل بمصر ما شاء.
ومن بين كل صوره، ستظل اللحظة التي توثق خروج الجنرال من عتبة المقاعد الخلفية محمولًا على انقلاب أكثر اللحظات التصاقًا به، ففيها عرف السيسي طريقه للانقلاب على كل من ينافسه في الحكم مبكرًا، بعد بالإطاحة بمرسي، ليصبح بعد 5 سنوات وحيدًا متفردًا بالسلطة، لا ينازعه فيها أحد.
المدنيون أولًا.. الخروج من “دولة 30 يونيو”
بعد سنوات على مشهد عزل مرسي الذي وجدت به 15 شخصية، تحل الذكرى الخامسة لانقلاب الثالث من يوليو وسط تطورات دراماتيكية عديدة، أبرزها تخلُّص السيسي من شركائه الأساسيين كافة، وصار صُناع مشهد عزل مرسي خارج “دولة 30 يونيو”، فانحسرت عنهم الأضواء وباتوا على هامش الحياة السياسية، وباتت مواقفهم ما بين المعارضة والصمت والانسحاب نهائيًا من العمل السياسى.
قبل أشهر قليلة، وصل عبد الفتاح السيسي إلى ولاية رئاسية ثانية، وفي سبيل ذلك، تفرقت السبل برفاق الانقلاب، بين راحل عن الحياة وصاعد في المناصب أو مغادر منصبه ومهاجر خارج البلاد أو معارض لسياسيات النظام بعد تأييد مطلق للمشهد في ذلك اليوم، ومنهم أيضًا من قضى جزءًا من حياته في السجن، ومنهم من ينتظر، وآخرين عادوا عبر المنافي ومنصات التواصل إلى مصافحة الإخوان المسلمين الذين عاداهم من قبل.
كان قيادات جبهة الإنقاذ الوطني ممن مهدوا الطريق بالتيار الشعبي لـ30 يونيو
واحد من هولاء، كان المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية محمد البرادعي الذي لعب دورًا بارزًا في التحضير لـ30 يونيو وتصدر مشهد الانقلاب، إذ عُين نائب للرئيس عدلي منصور للشؤون الخارجية، لكن اعتراضه على فض اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة صيف 2013، كتب له النهاية المبكرة في “دولة 30 يونيو”، إذ قدّم استقالته، وغادر القاهرة متجهًا إلى فيينا.
أما المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي، أحد قيادات جبهة الإنقاذ الوطني، وممن مهدوا الطريق بالتيار الشعبي لـ30 يونيو، صار هو الآخر خارج الحسابات السياسية، بعد أن أيّد إجراءات عزل مرسي، ثم خسارته في الانتخابات المحسومة أمام السيسي في 2014، وحلوله ثالثًا بعد الأصوات الباطلة والمنقلب السيسي، لكنه صعّد ضد السلطة مع اتفاقية تيران وصنافير، واعتصم مرتين، إلا أنه أعلن عدم ترشحه في أي انتخابات مقبلة ويعتبر نفسه معارضًا تحت الطلب في أي أزمة سياسية.
ورغم مشاركته في مظاهرات 30 يونيو، اصطدم حزب مصر القوية برئاسة المرشح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح، بالنظام الحاليّ، ويعود ذلك إلى إجراءات حكومية واعتقال أعضاء بالحزب الذي قاطع استحقاقات انتخابية، قبل أن يتم اعتقال رئيسه، في فبراير/شباط الماضي، ومن قبله نائب رئيس الحزب محمد القصاص.
تحل الذكر الخامسة لانقلاب الثالث من يوليو وسط تطورات دراماتيكية عديدة، أبرزها تخلُّص السيسي من شركائه الأساسيين كافة
كما تجمد نشاط شباب الاشتراكيين الثوريين وحركة 6 أبريل، الذين كانوا أبرز الداعمين لرحيل مرسي، وجرى تحييد 6 أبريل في معادلة السياسة المصرية، بعد أن سُجن مؤسسها أحمد ماهر، وحُظر نشاطها، مع استمرار حبس الناشطين البارزين محمد عادل وهيثم محمدين.
وتبدل حال البعض من الدعم المطلق إلى المعارضة الشديدة، وهم الآن خلف القضبان، ومنهم: الناشطان البارزان حازم عبد العظيم ووائل عباس، فعارض هذان الناشطان بشدة حكم مرسي الذي استمر عامًا واحدًا، وأيَّد أحدهما السيسي قبل أن يتحولا إلى معارضين لسياساته.
ولحق بهؤلاء كل مثقفي التيار المدني الذين باتوا في دائرة الاستهداف الأمني والملاحقات القضائية والمنع من السفر وإغلاق مؤسساتهم، كما يجري حاليًّا مع علاء الأسواني وخالد علي وكثير من السياسيين الرافضين لحكم الرئيس مرسي، بينما اختفت الكاتبة سكينة فؤاد عن المشهد بصورة كبيرة، ورحل عبد الله حامد قبل عامين، وبقي الطيب وتواضروس في منصبيهما الديني.
وظل حزب النور مؤيدًا للنظام، لكن بعد 5 أعوام، صار الحزب خارج المشهد السياسي، ولم يعد له وزن في الحياة السياسية، ويقبع قياداته حاليًّا في المنطقة الدافئة، دون معاداة النظام، بل يلقون تطاولًا من كل وسائل الإعلام وإجراءات قمعية بحق شباب السلفيين الذين يرفضون سياسات السيسي حاليًّا، ومنع قياداتهم من الخطابة أو إلقاء الدروس، بل إجبارهم على إعلان التأييد لكل سياسات النظام المرفوضة شعبيًا.
خطة السيسي في السيطرة على المؤسسة العسكرية لم تستثن حتى شركاءه في الانقلاب
انقلبوا معه فانقلب عليهم.. السيسي وهواية صيد النسور من رفاق السلاح
9 أشهر للتحضير للانقلاب، ثم 8 أشهر أخرى لتصفيه معارضيه بلا رجعة، أيقن خلالها السيسي أن الانتخابات الأولى بعد أي انقلاب هي الأسهل، لكنه كان يعلم تمامًا أن عام 2018 سيحمل له منافسين محتملين من داخل القوات المسلحة وخارجها، وعرف أن عليه خلال 5 سنوات إحكام قبضته والاستعداد جيدًا لمنافسيه الحقيقيين أو حتى الحالمين، فأطاح بالفريق سامي عنان والفريق أحد شفيق من طريقه بسهولة.
خطة السيسي في السيطرة على المؤسسة العسكرية، لم تستثن حتى شركاءه في الانقلاب؛ حيث حاول منذ اليوم الذي عُيِّن فيه وزيرًا للدفاع أن يتخلص من كل قيادات المجلس العسكري الذي كان عضوًا فيه في أثناء اندلاع ثورة يناير، حيث تمَّت إقالة البعض ودفع آخرين إلى تقديم استقالتهم، ونقل بعضهم إلى مناصب مدنية، وترقية آخرين إلى تولّي قيادات وأفرع القوات المسلحة، ولم يتبقَّ من هذا المجلس أحد على الإطلاق، بعد أن تخلص منه السيسي على مدار أربع سنوات من الإحلال والتجديد.
طوال 5 أعوام كاملة، واصل السيسي عمليات صيد قيادات القوات المسلحة
وطوال 5 أعوام كاملة، واصل السيسي عمليات صيد قيادات القوات المسلحة، ففي سبتمبر/أيلول 2012، أطاح السيسي بـ70 لواءً، عدد كبير منهم أعضاء المجلس العسكري ومقربون من طنطاوي، كما أحال مراكز قوى في المجلس العسكري مثل محسن الفنجري وسامي دياب ومختار الملا إلى رتبة عملية يمكن تسميتها بـ”لواء تحت السيطرة”.
وانتزع ملف إدارة أملاك الدولة من اللواء عادل عمارة، وأجبر اللواء إسماعيل عثمان مدير إدارة الشؤون المعنوية على معالجة شؤونه المعنوية الخاصة، بينما أُحيل الفريق عبد العزيز سيف الدين قائد قوات الدفاع الجوي وعضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة إبان ثورة يناير للتقاعد في أغسطس 2012، أما اللواء أركان حرب حسن الرويني قائد المنطقة المركزية العسكرية، فقد عُيِّن مساعدًا لوزير الدفاع في 11 من يوليو 2012، ثم قدّم استقالته من عضوية المجلس العسكري نهاية العام نفسه.
ثم جاءت العودة إلى رفاق السلاح بعد توليه فترة الرئاسة الأولى، حيث أتى خريف السيسي الثاني على قيادت الجيش، بداية بقانونين رقم 18 و20، وبهما حصن منصبة كوزير للدفاع وهيكل المجلس العسكري، ثم أرسل مجموعة أخرى من اللواءات ليلحقوا بسابقيهم في رحلة بلا عودة.
وبعد شهرين فقط من توليه منصب الرئيس، وبنهاية يوليو/تموز 2014، ودع اللواءان سعيد عباس قائد المنطقة الشمالية، وطاهر عبدالله رئيس الهيئة الهندسية العسكرية المجلس العسكري للأبد، وغاب عن المشهد الكثير من الأسماء التي كان لها دور بارز في مرحلة ما بعد 25 يناير، ومنهم اللواء محمد عبد النبي واللواء محمد فريد حجازي واللواء محسن الفنجري واللواء إسماعيل عتمان واللواء عادل عمارة واللواء محمد عطية.
سعى السيسي للتخلّص من العدد الأكبر ممن يوصفون بمراكز الثقل في دوائر حكمه
وخلال الأشهر الأخيرة من ولايته الرئاسية الأولى، سعى السيسي للتخلّص من العدد الأكبر ممن يوصفون بمراكز الثقل في دوائر حكمه، فأسماء شهيرة كاللواء محمد عرفات قائد المنطقة الجنوبية، وأحمد وصفي قائد الجيش الثاني الميداني لم تجد لها مكانًا، وفي مطلع عام 2018، واصل السيسي مسلسل الإطاحات، بعدما أقال رئيس جهاز الاستخبارات اللواء خالد فوزي الذي كان يشغل منصب رئيس وحدة الأمن القومي في جهاز الاستخبارات العامة إبان انقلاب 3 يوليو.
ووسّع السيسي تلك الإقالات لتطال صهره والرجل القريب منه في المؤسسة العسكري محمود حجازي رغم الصعود إلى رئاسة الأركان، ففي 28 من أكتوبر 2017، أقال السيسي الفريق محمود حجازي رئيس أركان حرب القوات المسلحة، وعينه مستشارًا للرئيس وتكليف الفريق محمد فريد حجازي بدلًا منه.
تخلص السيسي أولا من الشركاء المدنيين جملة واحدة، في حين حرص على التخلص من الشركاء العسكريين على فترات، خشية اتفاقهم بالانقلاب عليه
ففي مفاجأة لم تكن متوقّعة، أطاح السيسي بآخر من تبقّى من شركائه الأساسيين،فقد تفاجأ الفريق صدقي صبحي بقرار إقالة كانت في انتظاره، ليلحق بعشرين قيادة عسكرية سبقته بسيناريوهات إقالة قريبة من ذلك، بعض هؤلاء المقالين تم تعيينهم في مواقع شكلية، كحجازي الذي استحدث له موقع مستشار رئيس الجمهورية للتخطيط الإستراتيجي.
وفي هذا الصدد، اعتبر رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام مصطفى خضري ما جرى في السنوات الخمسة الماضية من إقالات مفاجئة وغامضة أسلوبًا متبعًا في الأنظمة الديكتاتورية التي جاءت بانقلاب، للتخلص من الشركاء، وأوضح أن السيسي تخلص أولاً من الشركاء المدنيين جملة واحدة، في حين “حرص على التخلص من الشركاء العسكريين على فترات، خشية اتفاقهم بالانقلاب عليه؛ فالبعض رُقي لمناصب مدنية استرضاءً لهم، والبعض أحيل للتقاعد، والبعض الآخر توفي في حوادث طرق غامضة”، حسب قوله.
يوم لا ينفع الندم.. بين المتمردين والتائبين من 30 يونيو
لم يختلف المصير كثيرًا بالنسبة لحركة “تمرد” التي كانت الغطاء الإعلامي البارز في مظاهرات 30 يونيو واستغلتها الإمارات للإطاحة بخصمها اللدود محمد مرسي، بمساعدة وزير الدفاع آنذاك الجنرال عبد الفتاح السيسي، فكان ميدان التحرير مولد ووأد أول تحول ديمقراطي في تاريخ مصر.
وبينما اختفى “المتمردون” عن المشهد، استمرّ اثنان فقط من صُناع حركة تمرد في المشهد السياسي، الأول محمود بدر أحد أعضاء حملة السيسيالانتخابية في 2014، وعضو مجلس النواب الحاليّ الذي تربطه علاقات قوية بالمسؤولين في الدولة، والثاني محمد عبد العزيز عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان وأحد أعضاء لجنة العفو الرئاسي التي شكلها الرئيس للإفراج عن الشباب المحبوسين في قضايا سياسية، وخسر أيضًا انتخابات البرلمان عن دائرة شبرا الخمية، فيما عاد حسن شاهين لصفوف المعارضة عبر صفحته على موقع فيسبوك.
اختفى أعضاء حركة تمرد من المشهد
المثير أنَّ العديد من أعضاء تمرد ومؤسسيها انضموا إلى جوار من تحركوا للإطاحة بهم من سدة القرار، وشهدت السجون في مصر منذ العام 2014 دخول عدد ليس بقليل من أعضاء تمرد ومنهم: محب دوس الناصري القبطي الذي اتُّهِم في القضية المعروفة باسم “تنظيم 25 يناير” لعام 2015، واتهم فيها بالدعوة للتظاهر والتحريض ضد مؤسسات الدولة، بعد أن أكد أن السيسي فقد شرعيته وإسقاطه يحتاج لوعي شعبي، ولكن لم يطل حبسه؛ حيث أُفْرِج عنه في تفاهمات بعد 70 يومًا.
مما يأخذه طيف واسع من ثوار يناير على الإخوان أنهم ابتلعوا الطعم مبكرًا من سنارة العسكر وانسحبوا من الميادين وذهبوا إلى صناديق الاقتراع على أرضية دستور عسكري
وبالنسبة للقوى السياسية والمدنية المصرية فإن مظاهرات الثلاثين من يونيو كانت آخر عهد المصريين بحرية الرأي والتعبير، فبعد خمسة أعوام تعترف القوى المدنية واليسارية والليبرالية التي شاركت في مظاهرات 30 يونيو أنها سقطت في الفخ، فلم تكن سوى أداة استغلت مع جزء من الرصيد الشعبي المعارض للإخوان المسلمين لعودة المجلس العسكري إلى سدة الحكم والهيمنة على مفاصل الدولة سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا.
ومما يأخذه طيف واسع من ثوار يناير على الإخوان أنهم ابتلعوا الطعم مبكرًا من سنارة العسكر وانسحبوا من الميادين وذهبوا إلى صناديق الاقتراع على أرضية دستور عسكري، وفي المقابل، من الإخوان من يرى أن الحركات المدنية والليبرالية والقومية واليسارية اقترفت الإثم ذاته حين شاركت في الانقلاب على روح ثورة 25 يناير، وسلمت مصر على طبق من ذهب لحكم عسكري.