ترجمة وتحرير: نون بوست
في قلب أنقاض غزة، يواجه الصحفيون الفلسطينيون المحليون معاناة لا يمكن تصورها جراء آلة الحرب المدمرة، والتجويع، والوحشية اليومية غير المبررة. وفي الوقت ذاته، يواجه الصحفيون المسلمون وغيرهم الذين يغطون الحرب من الخارج تحديًا آخر: معركة ضد خطاب غسل الدماغ.
على مدى الأشهر العشرة الماضية، أعرب الصحفيون في مختلف أنحاء العالم عن قلقهم بشأن التغطية غير المتوازنة والمضللة، وأحيانُا الوهمية، للحرب الإسرائيلية على غزة. وطالب هؤلاء المراسلون بروايات أكثر دقة ومدروسة عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد الإنسانية، مشيرين إلى أن الروايات السائدة تحجب حجم الدمار الذي لحق بالشعب الفلسطيني وحزنه. وبدلاً من الترحيب بوجهات نظرهم، تُرك هؤلاء الصحفيون للدفاع عن أنفسهم بشكل كبير.
وفي يوم الصحافة العالمي، نشر اتحاد الكتاب الوطني تقريرًا بعنوان “خطوط حمراء: الانتقام في قطاع الإعلام خلال النزاع في غزة”. ووثق التقرير 44 حالة انتقام ضد العاملين في وسائل الإعلام، تشمل تقييد المهام، وقمع وسائل التواصل الاجتماعي، وإنهاء الخدمة، وذلك في ظل الاعتقاد بأن المتهمين إما يدعمون الفلسطينيين أو ينتقدون الحكومة الإسرائيلية.
ولم يكشف التحقيق عن توجه مماثل تجاه العاملين في وسائل الإعلام المؤيدة لإسرائيل. ووفقًا للتقرير، أثرت هذه الموجة من الانتقام على أكثر من مائة إعلامي في أمريكا الشمالية وأوروبا بين تشرين الأول/ أكتوبر وشباط/ فبراير، وكان جزء كبير منهم من أصول شرق أوسطية أو شمال أفريقية أو مسلمة.
إن تأثير هذا الأمر واضح: إنتاج أخبار أقل عن الواقع في فلسطين، وقد تُركت هذه المهمة للقلة التي لا تزال ملتزمة بالمبادئ الصحفية من نزاهة ومساءلة عامة وحساسية تجاه الحالة الإنسانية.
لكن هذه الظاهرة ليست جديدة أو مقتصرة على ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بل هي تتويج لمقولات تحليلية زائفة تجرد الإنسان من إنسانيته، وقصص تخويف تبثها وسائل الإعلام السائدة التي تصف الفلسطينيين والعرب والمسلمين بالمجرمين المتعطشين للدماء.
لقد تم وصف المراسلين الذين يكرسون أنفسهم لتغطية أخبار فلسطين بشكل صحيح بالمتحيزين، أو السذج، أو عديمي الخبرة، أو حتى المتعاطفين مع الإرهاب من قبل أولئك الذين يشعرون بالتهديد من قدرة الصحافة على إحداث تغيير حقيقي.
لقد نُصح بعض الصحفيين، بما فيهم أنا، بشكل دبلوماسي بتوجيه شغفهم إلى العمل غير الربحي أو الدعائي إذا كانوا يرغبون حقًا في معالجة القضية بجدية، لكن من الواضح أننا لسنا من يتجاهل المبادئ الأساسية للصحافة. فقد تأتي الخطايا الحقيقية في هذا المجال من أولئك الذين على مدار عقود اعتبروا الفلسطينيين ليسوا بشر، واعتبروا الظروف المروعة في فلسطين غير جديرة بالتغطية الإعلامية. هؤلاء هم من ساهموا في تمكين إسرائيل من ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان الفادحة وغير المنضبطة على مر السنين، وأظهروا مدى قلة أهمية “المعايير الأخلاقية” و”أفضل الممارسات” في الصحافة عندما يتعلق الأمر بفلسطين.
وفي هذه المقالة، تحدثتُ إلى مجموعة من الكتاب والمراسلين حول تجاربهم في النضال لنقل القصص الفلسطينية بشكل صحيح، وإليكم بعض مما أخبروني به.
طلال جباري، صحفي فلسطيني يبلغ من العمر 45 سنة ومخرج أفلام وثائقية، قضى معظم حياته المهنية في الشرق الأوسط، حيث عمل مع قنوات مثل الجزيرة، وبي بي سي العالمية، وإيه آر تي، وبرنامج 60 دقيقة.
ويقول جباري، بعد زيارة استمرت ستة أسابيع لعائلته في الضفة الغربية، إن الفلسطينيين دائمًا ما كانوا يدركون أن مطالباتهم تواجه “عبء إثبات أعلى بكثير” في وسائل الإعلام. ويشير إلى أن القصص الأكثر هدوءًا عن مجتمعه هي الأكثر أهمية في بيئة رقمية لطالما أذلتهم.
ويقول جباري بابتسامة حزينة: “مع مرور الوقت، تتراكم هذه الأمور. فعندما تتم مراجعة التاريخ، لن يروا فقط كل ما جُرِّدنا منه وكل العنف الذي عانيناه، بل سيشاهدون أيضًا أننا كنا الحالمين والمقاومين، وأولئك الذين لم يستسلموا أبدًا… للأسف، فلسطين لا تظهر في الأخبار إلا عندما يتم قصف أطفالنا ونسائنا ورجالنا”.
وبعد حصوله على درجة الماجستير من جامعة ليدز، عاد جباري إلى فلسطين خلال الانتفاضة الثانية، التي بدأت عندما قاد رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، أرييل شارون، قوة قوامها أكثر من 1000 شرطي وجندي مدجج بالسلاح لاقتحام مجمع المسجد الأقصى في القدس الشرقية المحتلة في أيلول/ سبتمبر 2000.
ويقول جباري بصوت خافت وهو يتذكر أيام شبابه: “إن أثر شارون باقٍ. لقد أشعل النار في نفوس الفلسطينيين مثلي الذين كانوا تائهين في ذلك الوقت. وشعرنا بدعوة عميقة لمهنة الصحافة. لقد رأينا الكثير، ومن غيرنا سيشارك قصصنا مع العالم؟”
ويستذكر جباري فقرة برنامج “60 دقيقة” التي صوّرها في سنة 2012، والتي سلطت الضوء على النضال الفلسطيني وفصائل حماس المختلفة. ويروي جباري العملية المحفوفة بالمخاطر التي قام بها في الاندماج مع المقاتلين: “إنهم مستهدفون، وأنت تعمل إلى جانبهم. بينما لا ترى إسرائيل أي تمييز، ولهذا كنا مستهدفين أيضًا.”
فوجئ جباري في البداية بالاهتمام الذي أبدته شبكة سي بي إس بقصته، ويقول: “بدا الأمر جيدًا لدرجة يصعب تصديقها.” ويضيف أنه كان يعتقد أن إتاحة الفرصة لأي فصيل مقاوم للبث على قناة إخبارية رئيسية ستمكنهم من إضفاء الطابع الإنساني على نضالهم، لكن عندما قرر المنتجون إلغاء الفقرة في اللحظة الأخيرة، شعر جباري بأن ذلك يعكس بوضوح موقفهم السياسي.
بعد هذه الحادثة، قرر جباري ترك الصحافة والتركيز على صناعة الأفلام الوثائقية، معتقدًا أنه يمكنه من خلالها أن يؤثر بشكل مباشر على كيفية سرد القصص الفلسطينية. واستمر في إخراج أفلام تسلط الضوء على الجانب الإنساني للشعب الفلسطيني ونضاله، مثل فيلم “أعداء الجنوب” في سنة 2015 وفيلم “نائلة والانتفاضة” الذي فاز بجائزة في سنة 2017.
لم يتغير الكثير بالنسبة للفلسطينيين في صناعة الإعلام منذ بداية مسيرته في سنة 2005. وفي سنة 2009، أشار الباحث في الدراسات الإعلامية محمد المصري إلى أن وسائل الإعلام الأمريكية كانت تؤطر العنف الإسرائيلي كعنف عقلاني ومبرر، بينما كانت تصور العنف الفلسطيني على أنه “همجي وعديم الإحساس”.
واليوم، بينما يحاول بعض المراسلين العثور على وصف يليق بحجم الفظائع التي يشهدونها، لا يزال العديد من المراسلين الذين يغطون الحرب على القنوات الأمريكية يستخدمون نفس العبارات المبتذلة مثل “وفقًا لوزارة الصحة التي تديرها حماس”، و”حرب إسرائيل وحماس”، و”العثور على (س) ميتًا في غارة جوية على غزة”، وغيرها من العبارات التي تبرر ما لا يمكن تبريره.
حتى في ظل أسوأ الفظائع، مثل القصف الأخير لمدرسة التابعين في غزة الذي أدى إلى تفتيت العائلات الفلسطينية، أو الجنود الذين التقطتهم الكاميرات وهم يرتكبون عمليات اغتصاب وحشية لسجين فلسطيني في سجن “سدي تيمان” المعروف بقسوته، فلا يزال هناك عدم قدرة على التأثير بشكل كافٍ لتغيير السياسات التحريرية المعيبة وغير الإنسانية.
إن أفضل ما قاله محمد الكرد، مراسل صحيفة “ذا نيشن” في فلسطين، هو: “إن موتنا أصبح أمرًا عاديًا لدرجة أن الصحفيين [الغربيين] ينقلونه كما لو كانوا ينقلون أخبار الطقس. سماء غائمة وأمطار خفيفة و3000 قتيل فلسطيني في الأيام العشرة الماضية. فكما هو الحال مع الطقس، الله وحده هو المسؤول: لا المستوطنون المسلحون، ولا غارات الطائرات المسيرة.”
ملاك سلمي، فلسطينية أمريكية من ديربورن، ميشيغان، تبلغ من العمر 25 سنة. منذ صغرها، كانت مولعة بالصحافة؛ حيث قضت معظم وقتها غارقة في دفتر الملاحظات أو على حاسوبها المحمول. لقد شعرت برغبة عميقة في معالجة الظلم الذي رأته في التغطية الإعلامية لمجتمعها، قائلة: “أردت أن أكون جزءًا من تثقيف [مواطني] ديربورن – لأظهر لهم أن الصحفيين ليسوا جميعًا متحيزين، ولأطلع الآخرين أيضًا على مجتمعنا من الفلسطينيين الأمريكيين”.
وأضافت: “لطالما تم تمثيل عرب ديربورن بشكل سيء في وسائل الإعلام”، مشيرةً إلى مقال افتتاحي في صحيفة وول ستريت جورنال بتاريخ 2 شباط/ فبراير، بعنوان “مرحبًا بكم في ديربورن، عاصمة الجهاد في أمريكا”، الذي وصف ديربورن، وهي أكبر مدينة ذات أغلبية عربية مهاجرة في الولايات المتحدة، بأنها مركز للمتعاطفين مع “الإرهاب المعادي للسامية.”
كان هذا المقال الافتتاحي مثالًا على الصحافة الغربية: تتمحور حول الاستعمار، وتعاني من رهاب الإسلام، ويفتقر إلى الدراسة المتعمقة. ورغم ذلك، تمت الموافقة على نشره بعد أيام قليلة من إصدار محكمة العدل الدولية، أعلى سلطة قضائية في العالم، أمرًا لإسرائيل بوقف الإبادة الجماعية المحتملة في غزة في أواخر كانون الثاني/ يناير.
وبعد تخرجها من جامعة ولاية وين في سنة 2020، حيث تخصصت في الصحافة الإذاعية والدراسات الدولية، عملت سلمى في أوتلاير ميديا، وهي غرفة أخبار محلية غير ربحية في ديترويت، حيث عملت كمراسلة إخبارية عربية. وبعد سنة، حصلت على أول وظيفة بدوام كامل كمراسلة رقمية مع سان أنطونيو إكسبريس نيوز، قبل أن تعود إلى أوتلاير ميديا كمراسلة في قاعة المدينة لمدة سنة وأربعة أشهر.
تقول سلمى في إشارة إلى الاشتباكات العنيفة التي شهدتها بين الجنود الإسرائيليين والفلسطينيين: “كانت هذه هي المرة الأولى التي أعود فيها إلى هناك مع عائلتي بصفتي عاملة محترفة. لقد جعلني هذا الأمر عاطفية للغاية. شعرت أنني كنت أحاول القيام بشيء أكبر مني بكثير في هذا المجال. كان هناك من حاولوا قبلي ولم يتمكنوا من تغيير النظام، فشعرت بالسذاجة”.
تؤكد سلمى أن هويتها كامرأة عربية ومسلمة في هذه الصناعة كانت مقبولة بشكل عام، وتقول: “ولكن عندما تعلق الأمر بهويتي الفلسطينية كصحفية، واجهتُ توقعات مختلفة. فخلال دراستي الجامعية، نصحني العديد من الأساتذة والموجهين بتوخي الحذر في التعبير عن دعمي لفلسطين. واقترحوا أن أحافظ على “نظافة” وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بي وتجنب الآراء الشخصية، وهو ما أفهم أن الهدف منه منع التحيز وبناء الثقة، لكن هويتي الفلسطينية، ووضع علم في سيرتي الذاتية على إنستغرام على سبيل المثال، لا يُعد رأيًا. يبدو أنه يُنظر إليه باعتباره تحيزًا شخصيًا أو علامة حمراء أو كشيء مثير للجدل”.
وكتبت سلمى في مقال رأي للجزيرة في كانون الثاني/يناير بعنوان “لماذا اضطررت كفلسطينية-أمريكية إلى ترك صناعة الأخبار”: ”في الوقت الحالي، لا أعتقد أنه يمكنني أن أكون ذات قيمة كصحفية في صناعة إعلامية تنزع الشرعية عن الصحفيين الفلسطينيين وتشيطنهم وتسمح بتغطية تحرض على الاعتداءات عليهم وتبررها”.
وتكرس سلمى وقتها الآن لكتابة القصص الواقعية والشعر لنشرتها الخاصة “صب ستاك”، وتأمل أن تعود إلى العمل في هذا المجال في وقت ما في المستقبل القريب، ولكن فقط إذا تمكنت من المساهمة بعمل من شأنه أن يعزز الحوار المحيط بالمجتمعات العربية الأمريكية والفلسطينية بشكل إيجابي “بطريقة فشلت صناعة الأخبار في القيام بها بشكل بائس”.
وعمل بسام بونيني، البالغ من العمر 43 سنة، مراسلًا لشمال أفريقيا في بي بي سي لمدة خمس سنوات؛ حيث غطى أخبارًا ذات تأثير كبير في شمال أفريقيا والمنطقة ككل، من تصاعد تنظيم القاعدة في اليمن إلى الحرب الأهلية في سوريا والإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي في سنة 2013.
وفي أوائل تشرين الأول/أكتوبر؛ أمرت هيئة الإذاعة البريطانية العالمية بالتحقيق في نشاط سبعة من زملاء بونيني على وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن زعمت منظمة كاميرا، وهي هيئة مراقبة إعلامية موالية لإسرائيل تدعي مراقبة “تغطية وسائل الإعلام الأجنبية للأمور المتعلقة بإسرائيل”، أن زملاءه شاركوا في تعليقات “تساوي بين حماس ومقاتلي الحرية”.
وكان رد بي بي سي يركز فقط على الضحايا المدنيين في إسرائيل، وشعر بونيني أن ذلك كان موقفًا سياسيًا من النوع الذي “قيل لنا باستمرار أنه لا يسمح لنا اتخاذه”. وانتهى به الأمر بالاستقالة من المؤسسة، وقال بعد كتابة استقالته: “لقد وصلت الصناعة إلى طريق مسدود وأنا أرفض أن أكون متواطئًا بعد الآن”.
يقول بونيني إن رغبته في سرد قصص الفلسطينيين كانت بسبب هويته الخاصة: “لستُ بحاجة إلى أن أكون عربيًا، ولست بحاجة إلى أن أكون مسلمًا لأعبر عن تضامني مع فلسطين والسودان ومع الشعوب التي تعاني من أي ديكتاتورية عنيفة في المنطقة”.
بونيني الآن في تونس يؤلف كتابًا بعنوان “عبارات الطوفان” عن قيام وسائل الإعلام السائدة بالسماح بجرائم الحرب الدولية، ويقول: “إن الغرض الرئيسي من هذا العمل هو تأسيس رواية دقيقة وأكثر تنقيحًا توضح بشكل لا لبس فيه سبب استمرار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. رواية تطالب بمحاسبة الحكومات الغربية ووسائل الإعلام الرئيسية عن تفاقم موجة التصعيد من خلال تبنيها لأيديولوجيات التفوق العرقي”.
إبراهيم سمرة، 28 سنة، هو صحفي فلسطيني أمريكي حائز على جوائز في مجال الوسائط المتعددة، ولد ونشأ في شيكاغو. واشتهر في مجتمعه بتعليقاته المستمرة من على هامش مباريات كرة السلة المدرسية منذ سن الخامسة عشرة، وتقليده المستمر والمبالغ فيه لمذيعي الأخبار الذي كان يصوغه بحب لإثارة ضحك عائلته خلال طفولته، يشعر سمرة بالرضا عندما يجعل الآخرين يبتسمون، ويقول لي: “هذا يجلب الكثير من البهجة إلى قلبي”.
ويقول سمرة: “لطالما تساءلتُ لماذا أنا مجبول على ذلك. إن سعادتي الداخلية تعتمد على إيصال السعادة لكل من حولي. أدرك أن حاجتي لرؤية الآخرين سعداء هي تغطية على كل الألم الذي أشعر به في أعماقي: ألم رؤية من أحبهم يتألمون، ومن أحبهم يموتون، ومن أحبهم يبكون، ومن أحبهم يتم تجاهلهم، والأهم من ذلك كله، من أحبهم يُقتلون في “الحروب””.
وكمسلم أمريكي فلسطيني مسلم يعيش في حقبة ما بعد 11 أيلول/سبتمبر، اختبر سمرة المعاناة الفريدة لمجتمع يعتقد أنه غالبًا ما يُساء فهمه بشدة. يقول: “لقد رأيتُ عائلات مثل عائلتي على حافة الهاوية، وقصصهم غير مروية، وآلامهم غير مرئية”.
في سنة 2022، عيّنت شبكة سي بي إس نيوز سمرة للعمل كمراسل وسائط متعددة في محطتها في ديترويت. وفي وقت قصير جدًا، حصل على تكريم وطني لعمله، حيث فاز بجائزة “3 تحت 30” من المؤسسة العربية الأمريكية في سنة 2023 لتغطيته لأخبار مترو ديترويت، بما في ذلك ديربورن.
ويقول سمرة إنه شعر بأنه يمكن أن يكون له “صوت حقيقي في غرفة الأخبار الناشئة”، ولكن بعد ذلك جاء يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.
ووفقًا لدعوى قضائية رُفعت في المنطقة الشرقية من ميشيغان في آذار/مارس، أعرب سمرة مرارًا وتكرارًا عن مخاوفه بشأن التغطية المتحيزة للحرب. لكن محطة سي بي إس، كما تزعم الدعوى، “واصلت إغفال أي ذكر لفلسطين أو الفلسطينيين أو غزة أو العائلات الفلسطينية والعربية الأمريكية المتضررة من الحرب”. (رفضت قناة سي بي إس التعليق على الدعوى).
وبحلول ديسمبر/كانون الأول، وفقًا للدعوى، واجه سمرة تدقيقًا شديدًا ومراقبة شديدة على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب منشوراته على الإنترنت، والتي أكد أنها مجرد إعادة مشاركة لأخبار موثوقة من زملائه الفلسطينيين من غزة، حتى أنه تم التدقيق معه بشأن حماس. وبعد بضعة أسابيع، كان سمرة قد أبلغ رؤسائه بشعوره بالغربة وسوء المعاملة باعتباره الموظف الفلسطيني الوحيد في المحطة. في تلك المرحلة، تم تجريد سمرة من المجتمع الذي تم تعيينه فيه مع تخفيض ساعات عمله بشكل كبير، وفقًا للدعوى القضائية. وبحلول شهر شباط/فبراير، تقدم سمرة بتحقيق رسمي في ممارسات التغطية في محطة ديترويت.
وكتب: “ما يوجد دليل عليه هو وجود تحقيق في “الموقف السياسي” البارز لقناة سي بي إس ديترويت تجاه إسرائيل خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، وهو ما يتعارض مع سياسة سي بي إس. هذا هدف آخر متعمد تم وضعه على كاهلي لتغطيتي للمجتمع الذي تم تكليفي بتغطيته”.
بعد أقل من ساعتين من إرسال الرسالة الإلكترونية، تم فصل سمرة.
وأضاف سمرة: “لستُ أنا فقط. فالمراسلون ذوو الكفاءة العالية في جميع أنحاء البلاد يفقدون وظائفهم بسبب هذا الأمر. لا ذنب لنا في أن النظام الموجود هنا في أمريكا معيب. هذه ليست صحافة حقيقية؛ ليست من النوع الذي أريد أن أكون جزءًا منه على أي حال”.
يدعو سمرة جميع الصحفيين إلى عدم إغفال حقيقة أنهم يمكن أن يكونوا حصن الدفاع الأخير بين الحياة والموت، ويقول: “ما نكتبه أو ننقله أو نصوره يمكن أن يقرر مصير عائلة أي شخص”، ويضيف: “لقد حدث ذلك بالفعل”.
ويضيف قائلاً: “نصيحتي.. لكل من يدخل هذا المجال: أنتم لا تدينون بشيء لأحد سوى الحقيقة.. سيكون الأمر صعبًا، وستخضعون للاختبار، وفي بعض الأحيان، ستُحرمون من نفس الحقوق التي يتمتع بها الآخرون، لكن أرجوكم لا تتوقفوا أبدًا عن الكفاح حتى يتقبلنا هذا النظام الذي يزداد تعصبًا”.
وبينما يتأمل الكثيرون في سبعة عشر سنة من الحصار البري والجوي والبحري، وأكثر من 75 عامًا من الاحتلال المميت، وما يقرب من سنة من الإبادة الجماعية التي لا هوادة فيها، أناشد الزملاء الصحفيين أن يقاوموا الانجذاب الصحفي للتضحية بأكثر صفاتهم الإنسانية: ضميرهم الأخلاقي.
وفي حين أصبح من المعتاد أن نرى تغطية غير متوازنة تعطي الأولوية لوجهات النظر الإسرائيلية في الغرب، إلا أن خلفية الإبادة الجماعية أو المذبحة التي يتعرض لها المدنيون في غزة؛ وعشرات الآلاف من الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال، المحتجزين في السجون الإسرائيلية؛ والاستخدام الإسرائيلي الممنهج للتعذيب والاغتصاب؛ تجعل هذه الفترة من التقصير الصحفي أكثر فظاعة. كما أنها تجعل التحيزات المؤسسية الراسخة والمغروسة بعمق ضد الفلسطينيين والتي تسمح بهذا الرعب دون رادع أكثر إثارة للقشعريرة.
ولكن على الرغم من ذلك، لا تزال المعلومات تصلنا، فنحن نعرف عن جرائم إسرائيل ضد الإنسانية أولاً وقبل كل شيء بسبب الفلسطينيين النبلاء في غزة الذين يكافحون لالتقاط أنفاسهم في الوقت الذي يسجلون فيه ما يرونه من جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل. كما لا يمكننا أن ننسى أيضًا أصحاب الضمائر الحية في أماكن أخرى من العالم الذين خاطروا بأنفسهم من أجل سرد القصة الحقيقية لغزة، ولإنتاج ما سيُعتبر يومًا ما حقيقة تاريخية.
فقبل شهر واحد فقط من هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، كتبت نادية مراد، الحائزة على جائزة نوبل للسلام والناشطة الحقوقية العراقية التي هربت في سنة 2014 من حرب داعش على الإيزيديين، مقدمة دليل شبكة الصحافة الاستقصائية العالمية للتحقيق في جرائم الحرب. وقد شددت فيها على الدور الذي لا غنى عنه الذي يلعبه الصحفيون بالنسبة لأولئك الذين أحاط الإرهاب حياتهم وهوياتهم.
أتذكر، بين الحين والآخر، الوزن القيّم الذي تحمله كلمات نادية مراد، فقد كتبت: “أود أن أحث الصحفيين الاستقصائيين على البحث عنا، والبحث عنا في وقت مبكر، نحن المختبئين والمستضعفين، قبل أن تبدأ الفظائع. فأنتم، في كثير من الأحيان، أملنا الوحيد”.
المصدر: ذا نيشن