على وقع التوتر الإقليمي والحراك التفاوضي الذي يجري فعليًا بين الولايات المتحدة وبنيامين نتنياهو، وصل وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إلى المنطقة متنقلًا ما بين تل أبيب والقاهرة والدوحة، معلنًا: “سمعنا موافقة نتنياهو على الصفقة، وأتمنى أن توافق حماس عليها بدورها”. نتنياهو ذاته الذي أعلن بعيد انتهاء لقائه مع بلينكن أنه لن يقبل أية صيغ للانسحاب من محورَي فيلادلفيا ونيتساريم، ولا بإنهاء الحرب في قطاع غزة، ما يؤكد أن الولايات المتحدة لم تنجح إلا في اختلاق المزيد من الوهم.
كان واضحًا مسبقًا أن موقف المقاومة بألّا تقبل المشاركة في الجولة التفاوضية يستند إلى استشراف لطبيعة العرض الأمريكي، المبني بدرجة أساسية على تلبية الاشتراطات الإسرائيلية التي غلظت خلال لقاءات الدوحة، بحيث تحولت إلى عرض يستجيب لكل ما يريده نتنياهو حصرًا، دون أي اعتبار لمطالب المقاومة وبدرجة أساسية أولوياتها المرتبطة بإيقاف واضح وشامل لإطلاق النار، وضمان عودة أهالي شمال قطاع غزة إلى منازلهم دون قيد أو شرط، والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة.
ورغم الإصرار الأمريكي على تكرار عبارات التفاؤل في توصيف تطورات حراكها الحالي مع الوسطاء في ملف المفاوضات بشأن مستقبل الحرب في قطاع غزة، فإن ما نُشر حول العرض الأمريكي الجديد، متبوعًا بتصريحات نتنياهو، يحسم بما لا يدع مجالًا للشك أن الجولة الحالية لن تفضي إلى شيء، بل يمكن الجزم بأنها أعادت الكثير من القضايا إلى المربع الأول.
العرض الأمريكي الجديد
وفقًا لمصادر متعددة، فإن العرض الذي نقله الوسطاء إلى حركة حماس بوصفه الصيغة الأمريكية المقترحة، يشمل الخطوط الأساسية التالية:
- تقليص تواجد الجيش الإسرائيلي في محور فيلادلفيا.
- إعادة السلطة الفلسطينية لإدارة معبر رفح تحت رقابة إسرائيلية لم يحدَّد شكلها بعد.
- الإصرار على المراقبة الإسرائيلية للنازحين العائدين إلى شمالي قطاع غزة في محور نيتساريم دون تحديد شكلها بعد.
- إبعاد عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم في صفقة التبادل إلى خارج فلسطين.
- حق “إسرائيل” في رفض إطلاق سراح عدد لا يقل عن 100 أسير من السجون الإسرائيلية.
- عدم الانسحاب من قطاع غزة حسب نص ورقة 2 يوليو/ تموز 2024.
- الإغاثة مشروطة بالموافقة على البنود أعلاه.
- يناقَش وقف إطلاق النار الدائم في المرحلة الثانية ضمن سقف محدد، وإن لم توافق حماس على المطالب الإسرائيلية يعود الجيش إلى الحرب وتنفيذ عملياته العسكرية.
- المفاوضات على إعادة إعمار قطاع غزة ورفع الحصار متروكة لنتائج المفاوضات التي ستلي تنفيذ المرحلة الأولى.
هذا فيما تصرّ “إسرائيل” على زيادة عدد الأسرى الإسرائيليين الأحياء المقرر إطلاق سراحهم.
قراءة في نصوص ومضامين العرض
في الواقع، يعدّ العرض الأمريكي الأخير الانتكاسة الأكبر في تسلسل المفاوضات بين المقاومة والاحتلال منذ بدأت تأخذ هذه المفاوضات مسارًا جّديًا، بعد مغادرة عموميات إطار باريس إلى نقاش التفاصيل الواردة في الردّ الأول للمقاومة على الإطار المذكور.
يلبّي العرض الأمريكي الجديد الاحتياجات الإسرائيلية بامتياز، وإن لم يكن أكثر ممّا طمح الاحتلال تحويله إلى مادة الضغط الرئيسية على المقاومة، وفقًا لاعتبارات متعددة يقع في صلبها وجود تقدير أن الإنهاك الكبير الذي سبّبه استمرار حرب الإبادة على مدار 11 شهرًا، وحاجة المقاومة إلى إيقاف المعاناة المستمرة لسكان قطاع غزة، سيدفعانها إلى قبول أية صيغة مقدمة يوافق عليها الاحتلال.
يحمل العرض الأمريكي الجديد في طياته العديد من العناوين، فيتنصّل من مطلب المقاومة الرئيسي القاضي بتحقيق الانسحاب الكامل لجيش الاحتلال من قطاع غزة، إلى صيغة “تقليص” تواجد جيش الاحتلال في محور فيلادلفيا، إضافةً إلى اشتراط وجود رقابة على عمل السلطة الفلسطينية في معبر رفح، ما يعني إتاحة المجال للسيطرة الأمنية غير المباشرة للاحتلال على حركة المسافرين عبر المعبر، مع الجهوزية العسكرية بفعل تواجد الجيش على محور فيلادلفيا للتدخل في حال تطلب الأمر.
يشرعن العرض الجديد المطلب الإسرائيلي بمراقبة العائدين إلى شمالي قطاع غزة، من مدخل الاشتراط الإسرائيلي المسبق برفض “عودة المسلحين إلى شمالي القطاع”.
ورغم أن العرض الأمريكي لم يفصّل شكل وآلية هذه الرقابة، فإنها تعني في جوهرها أن العودة إلى الشمال ستكون عودة مجتزأة وخاضعة للمعايير الإسرائيلية، التي ستحظى أيضًا وفق هذه الصيغة بشكل من أشكال السيطرة الأمنية التي تحدد من يُسمح له بالعودة ومن لا يُسمح له بها، ما يفتح الباب أمام العديد من التخوفات حول شكل المستقبل الذي يسعى الاحتلال إلى تشكيله في مناطق شمالي القطاع.
يمنح العرض الأمريكي تفوقًا إسرائيليًا مطلقًا في ملف صفقة الأسرى، سواء في ملف عدد الأسماء المسموح للاحتلال بوضع “فيتو” على إطلاق سراحهم، أو عدد المبعدين من الأسرى المطلق سراحهم، وسط حديث من بعض المصادر عن أن “إسرائيل” تشترط حتى أن يكون الإبعاد إلى دول لا تسمح للأسرى بممارسة أي نشاط سياسي.
في الشق المرتبط بوقف إطلاق النار، لا يمنح العرض الأمريكي أية صيغة توحي بأي التزام تجاه وقف كامل لإطلاق النار في قطاع غزة، بل يمنح الاحتلال نصًا واضحًا يكفل عودة العدوان واستئناف حرب الإبادة في حال لم توافق حماس على المطالب الإسرائيلية، ما يعني بوضوح ما سبق وأن صرح به نتنياهو من أن الاتفاق لن يتعدّى تنفيذ المرحلة الأولى فقط.
من أخطر ما يردُ في العرض الأمريكي الجديد ربط الجهود الإغاثية في قطاع غزة بالموافقة على ما ورد من بنود، فيما يرحّل ملف إعادة إعمار قطاع غزة ورفع الحصار إلى النقاش في المراحل اللاحقة، ما يعني أن المعاناة الإنسانية لسكان وأهالي قطاع غزة ستكون أداة ابتزاز للمقاومة، لانتزاع المزيد من التنازلات تحت وطأة الحاجة الملحّة لسكان القطاع للمساعدات وتخفيف الحصار.
يلبّي العرض الأمريكي بشكل فاضح جدًا متطلبات بنيامين نتنياهو، وقد صيغ بما ينسجم مع حاجة الأخير لإتمام المرحلة الأولى فحسب من الصفقة، والعودة إلى استئناف حربه من حيث انتهت بعد أن يكون قد جرّد المقاومة من ورقتها الأهم لإنهاء الحرب، عبر إطلاق سراح الشق الأكبر من الأسرى والتخلص من الشق الأكبر من العبء الذي يشكّله هذا الملف على كاهله، ويضمن أن تشكل فترة الهدوء التي ستوفرها المرحلة الأولى المدخل للتملُّص من الضغوط الدولية وتفكيك معادلات الضغط الخارجي والداخلي.
إعادة احتلال غزة وتثبيت السيطرة الأمنية
يحتوي العرض الأمريكي على العديد من البنود التي تنسجم انسجامًا مباشرًا مع المتطلبات الإسرائيلية، ورؤية نتنياهو الهادفة إلى إطالة أمد الحرب في قطاع غزة، ضمن مخطط استراتيجي يسعى إلى تغيير بعيد الأمد في قطاع غزة تهدف إلى تحييد القطاع من معادلة المواجهة والاشتباك، إلى جانب تحويل القطاع إلى نموذج ردع صارخ لكل من يفكر في تشكيل خطر حقيقي على “إسرائيل”، وترميم الردع الإسرائيلي واستعادة زمن الحسم العسكري الإسرائيلي في المنطقة.
الرؤية الاستراتيجية التي يطمح بنيامين نتنياهو إلى تحقيقها لتحصيل “إنجازات” تشابه مكاسب عملية “السور الواقي” في الضفة الغربية، التي نجحت في تفكيك البنية التحتية للمقاومة وتثبيت واقع جديد في الضفة، يسمح بالسيطرة الأمنية والعملياتية على المدن التي أصبحت حبيسة عوازل وحواجز الاحتلال، تتطلب أن تعيد “إسرائيل” احتلال قطاع غزة ولو بشكل جزئي، بما يسمح لها بفرض السيطرة الأمنية على القطاع وضمان حرية الحركة لقواتها.
ويتم ذلك عبر تغيير الواقعَين الجغرافي والديموغرافي في القطاع، إلى ما يسمح بحركة سلسة لجيش الاحتلال لتنفيذ عمليات الإغارة على الأحياء ومدن القطاع بأريحية للتحييد التدريجي لقوة المقاومة وبنيتها التحتية، وهو ما يقع في صلبه تصلُّب نتنياهو الحالي للبقاء في محورَي نيتساريم وفيلادلفيا، وعدّه “أصولًا استراتيجيةً” لـ”إسرائيل”.
وأيضًا فرض الرقابة على من يعود إلى شمالي قطاع غزة، بحيث يتمكن من هندسة الواقع الديموغرافي في الشمال ومن ثم في الجنوب، بما يتناسب مع الشكل المتوقع لقطاع غزة المتوافق مع المتطلبات الأمنية الإسرائيلية.
تعي المقاومة أن الواقع الإنساني في قطاع غزة وصل إلى مراحل صعبة جدًا، والحاجة ملحّة جدًا للوصول إلى اتفاق يوقف آلة القتل الإسرائيلية، كما أن معادلات استنزاف قدرات المقاومة البشرية والمادية تجاوزت كل الحدود بعد مرور أكثر من 11 شهرًا على القتال المستمر الذي شمل أراضي قطاع غزة من جنوبيه إلى شماليه، إلا أنه يجب ألا تتفوق هذه الحاجة على أية اعتبارات أخرى.
فرغم أن المقاومة مستعدة لإبداء مرونة في العديد من القضايا والعناوين التكتيكية على قاعدة ترتيب الأولوية التي يقع في مقدمتها إيقاف العدوان المستمر، إلا أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن تقبل المقاومة بأن يسهم الضغط العسكري الهائل إسرائيليًا في دفعها إلى الوقوع في محظورات استراتيجية، عبر القبول بتواجد جيش الاحتلال في قطاع غزة بوصفه أمرًا واقعًا يتطلب التعايش معه من قبل سكان القطاع، عبر تجاوز فكرة بقاء جيش الاحتلال متمركزًا في محوري فيلادلفيا ونيتساريم.
سيشكّل قبول المقاومة بصيغ تشمل بقاء الاحتلال متمركزًا داخل أراضي القطاع، ويسيطر على مفاصل حياة رئيسية لأهالي قطاع غزة، إقرارًا من المقاومة بإعادة احتلال قطاع غزة، وقبولًا منها للتعامل مع هذا المعطى بوصفه ممرًا إجباريًا يتطلب القبول به وفق معطيات الواقع، ما يعني تعبيد الطريق أمام إمكانية أن يحقق نتنياهو أهدافه الاستراتيجية في قطاع غزة، وتحصيل انتصار بعيد المدى يحيّد القطاع لعقود قادمة من معادلة النضال الوطني الفلسطيني.
رهان نتنياهو على الضغط العسكري
يكرر رئيس وزراء الاحتلال أن المدخل الأساسي للوصول إلى صفقة تتناسب مع المعايير الإسرائيلية يتمثل باستمرار الضغط العسكري الأقصى على المقاومة في قطاع غزة، معتبرًا أنها الوسيلة الأجدى في انتزاع تنازلات جوهرية تفضي في محصلتها إلى تحقيق أهداف الحرب، وتقرّب “النصر المطلق” الذي يبحث عنه بنيامين نتنياهو.
حرص بنيامين نتنياهو على تفسير المرونة التي أبدتها المقاومة في الأشهر الأخيرة بأنها تنازلات جلبها الضغط العسكري الهائل، الذي وجّه جيش الاحتلال إلى ممارسته داخل قطاع غزة وخارجه، مدللًا بذلك على نجاح استراتيجيته مقابل الأصوات الداعية إلى إبداء مرونة في الاستجابة لجزء من مطالب المقاومة، بما في ذلك القبول بوقف إطلاق النار والانسحاب من قطاع غزة.
وبناءً عليه، يرى نتنياهو أن الاستهدافات الأخيرة التي طالت قيادة المقاومة، متمثلة بالادّعاء بالنجاح في اغتيال القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف (نفى متحدث باسم حماس نجاح الاحتلال في اغتياله)، واغتيال رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، الفرصة الأمثل لممارسة المزيد من الضغط العسكري على قطاع غزة بسكانه ومقاومته، وإنهاك بنيته الاجتماعية والسياسية، بما يدفع إلى أن تقدّم قيادة الحركة تنازلات أكبر، أو تدفع إلى الانهيار الذي طال انتظاره من قبل العدو منذ بداية الحرب.
ورغم أنه يقرأ في مضامين خيار حركة حماس باختيار يحيى السنوار رئيسًا لمكتبها السياسي خلفًا للشهيد إسماعيل هنية، أن عملية الاغتيال لم تؤتِ ثمارها بردع الحركة، أو بثّ حالة من الذعر في صفوف قيادتها، أو على الأقل دفعها إلى اتخاذ مناحٍ أقل زخمًا في المواجهة والصمود لتحظى بفرصة لترتيب صفوفها؛ فإن رئيس وزراء الاحتلال متمسك بأن الضغط العسكري سيمثل الصيغة الأمثل في تحصل أهداف “إسرائيل”.
خصوصًا بعد أن تجاوز هذا الضغط توجيه الضربات للمقاومة الفلسطينية فقط، بل تعداه ليضرب كل الجبهات الإسنادية وحلفاء المقاومة، لردعهم عن تقديم مساهمات أكثر تأثيرًا تساهم في تخفيف الضغط الكبير عن كاهل المقاومة الفلسطينية.
تعي المقاومة الفلسطينية، وحركة حماس على نحو التحديد، أن المرونة وخفض السقف الذي جرى في الأشهر الأخيرة قد منحا نتنياهو مؤشرات تسمح له بالرهان على جدوى الضغط العسكري، وبارقة أمل بعد الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني ومقاومته، بأن هذا الضغط يمكن أن يجلب انهيارًا كبيرًا في قدرة المقاومة على التصدي والصمود.
وبالتالي إن قرارها برفض المشاركة في الجولة التفاوضية في الدوحة، ورفضها العرض الأمريكي بوضوح، يمثلان رسالة مضادة بأن الضغط العسكري وتصعيد الاغتيالات لن يقابَل إلا بتقليص هامش المرونة الذي سبق وأُتيح، إضافةً إلى تفعيل أوراق أخرى يمكن أن تربك كل المشهد الأمني الإسرائيلي على غرار استئناف العمليات الاستشهادية ردًا على تصعيد الاغتيالات، على أساس أن انتهاك الاحتلال لكل الخطوط الحمراء سيفضي إلى أن تضع المقاومة كل أوراقها على الطاولة، حتى تلك التي طوتها منذ أكثر من عقدين على انتهاء “انتفاضة الأقصى”.
وكخلاصة، إن الدور الأمريكي الذي تحرك بفاعلية ارتباطًا بالحاجة الأمريكية لتجاوز التصعيد الإقليمي، الذي ارتفعت مؤشراته ارتفاعًا غير مسبوق على خلفية اغتيال القيادي في “حزب الله” اللبناني فؤاد شكر، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، في العاصمتَين اللبنانية والإيرانية بشكل متتالٍ، يمثل دورًا ينشط وفق انسجام كامل مع الاحتياجات الإسرائيلية ومتطلبات بنيامين نتنياهو.
وبناءً عليه صاغت الولايات المتحدة مقترحها الأخير الذي كان يفترض به أن يكون لـ”جسر الهوة” بين مطالب المقاومة والاشتراطات الإسرائيلية، بما يتطابق مع حاجة الأخير لأن يستكمل حربه على قطاع غزة، ويؤمن للولايات المتحدة الهدوء اللازم لتمرير موسمها الانتخابي.
من جانبها، ورغم الحاجة الملحّة للهدوء، فإن المقاومة الفلسطينية تعي تمامًا أنها غير مخولّة ومن غير المقبول لها تحت أي ظرف كان أن تقبل صيغًا تحمل نصوصًا واضحةً تشرعن إعادة احتلال قطاع غزة، وتمنح للاحتلال سيطرةً أمنيةً مطلقةً على القطاع، وأن تحول مطلبها بإنهاء حصار قطاع غزة ومنح أهله حياة كريمة وأن يكون رأس حربة مشروع التحرير الفلسطيني، إلى قبول بأن يكون القطاع تحت الاحتلال ويحيَّد من معادلة النضال الوطني الفلسطيني لعقود قادمة، الأمر الذي ترجمته المقاومة برفضها الانجرار إلى معادلة التفاوض الحالية المصمَّمة وفقًا للحاجتَين الأمريكية والإسرائيلية.