تمضي المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن نيكي هالي إلى أرض أجدادها بالهند في مهمة عسيرة تفوح منها رائحة النفط، وبلهجة تهذِّبها مقتضيات الدبلوماسية تخِّير مضيفيها، إما نحن أو إيران، أسواقنا أو نفطهم. وفي القارة نفسها، دول أخرى مقابلة للمحور الإيراني لم تعد أمامها خيارات غير القبول والإذعان لإملاءات ترامب.
ومنذ أعلن الرئيس ترامب في مايو/أيار الماضي إنهاء الاتفاق النووي مع إيران وإعادة العقوبات وبدء تطبيقها في خلال الأشهر القليلة القادمة تسيِّر واشنطن حملات دبلوماسية تحذر فيها الأقربين والأبعدين بأن التعامل مع إيران أو استيراد نفطها سيجعلهم شركاء في العقاب، لكن السعودية والإمارات رغم بعدهما عن تلك العقوبات إلا أنهما فاجأ الجميع.
على خُطى السعودية.. الإمارات تقدم نفسها بديلاً لإيران
فيما يتواصل السجال الأمريكي الإيراني حول الإمدادات النفطية، تسير الإمارات على خُطى حليفتها السعودية، وتعرض نفسها بديلاً لإيران، للمساهمة في تخفيف أي نقص محتمل لإمدادات النفط، مؤكدة أنها قد تزيد إنتاجها من النفط؛ وذلك في أحدث التصريحات ردًا على طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خفض أسعار الطاقة العالمية عبر زيادة الإنتاج.
وتلبية لرغبات ترامب، قالت شركة بترول أبو ظبي الوطنية “أدنوك” – شركة النفط الرئيسية لحكومة أبو ظبي – إنها ستزيد إنتاجها من النفط بمئات الآلاف من البراميل يوميًا إذا كان ذلك ضروريًا لتخفيف أي نقص في السوق العالمية، لتحذو بذلك حذو السعودية التي استجابت لطلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بهذا الخصوص.
تسير الإمارات على خُطى حليفتها السعودية وتعرض نفسها بديلاً لإيران
وقد فاجأت السعودية شركاءها في منظمة “أوبك” لتكشف عن استعدادها لزيادة إنتاجها من النفط بنحو مليوني برميل يوميًا، وكان اتصال هاتفي بين الرئيس الأمريكي والعاهل السعودي كافيًا ليُجري طبيعة تلك العلاقة بين الجانبين، طلب خلاله ترامب من الملك سلمان رفع إنتاج المملكة من النفط، فاستجاب الأخير على الفور.
لكن هذه الزيادة التي توافق هوى ترامب تخالف الاتفاق الذي أجمعت عليه دول “أوبك” خلال اجتماعها قبل أيام في فيينا، إذ قررت المنظمة زيادة إنتاج النفط بمليون برميل يوميًا فقط بدءًا من يوليو/تموز الجاري، على أن تتوزع هذه الزيادة على جميع الدول الأعضاء، لكن دولاً بعينها استأثرت بذلك ظنًا منها أنه يصب في مصحلتها.
تصريحات ترامب تعطي القرار السعودي الإماراتي بعدًا سياسيًا يتجاوز صلاحيات منظمة أوبك
القرار السعودي والإماراتي قد يبدو عاديًا واقتصاديًا بحتًا، فما الضير في أن تستفيد تلك الدول من أسعار النفط المرتفعة نسبيًا، والتي قاربت 80 دولارًا للبرميل للمرة الأولى منذ عام 2014؟ الإجابة تكمن في الطلب الأمريكي والموافقة السعودية والإماراتية العاجلة التي تثير تساؤلات أخرى بشأن مشروعية الزيادة الإنتاجية، فالرئيس ترامب قال قبل أيام إنه هو من طلب ذلك من السعودية، ووراء هذا الطلب الكثير.
فتغريدة ترامب التي كشفت ذلك عزت المطلب إلى اضطرابات ساحتها إيران وفنزويلا بسبب العقوبات الأمريكية، لكن تصريحاته تعطي هذا القرار السعودي بعدًا سياسيًا يتجاوز صلاحيات منظمة “أوبك”، وربما يتعدى على ميثاقها الذي يتعدى على حصص الإنتاج بين الدول الأعضاء، لا سيما حصة إيران “العدو اللدود” للسعودية والإمارات، ومن ثم أمريكا، ما يعني زيادة الضغوط على إيران بأيدى خليجية.
محاصرة إيران بأدوات خليجية
ثنائية الرغبة والقدرة بين أمريكا وبعض الدول الخليجية تتجاوز القول إلى امتلاكه
بعد يوم واحد من الطلب الأمريكي، اتهم ترامب منظمة “أوبك” بالتلاعب بأسعار النفط العالمية، وتوعدت واشنطن بأنها ستزيد الضغط على إيران عبر خفض عائداتها من بيع النفط الخام إلى الصفر. وفي مقابلة مع محطة “فوكس نيوز” الإخبارية هدد ترامب الحلفاء الأوروبيين بعقوبات في حال واصلوا التعامل تجاريًا مع إيران.
وفي أبريل/نيسان الماضي، هاجم الرئيس الأمريكي منظمة “أوبك”، مشتكيًا من رفع أسعار النفط، واتهم المنظمة بالتلاعب بالأسعار، لكن زيادة الإنتاج ستضمن لواشنطن استقرار أسعار النفط، وربما انخفاضها، وهو ما ستسوقه إدارة ترامب كإنجاز اقتصادي خلال انتخابات التجديد النصفي في أكتوبر القادم.
وتتواصل التهديدات والضغوط، حيث يقول مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية براين هوك إن واشنطن واثقة من وجود ما يكفي من الاحتياطات النفطية في العالم للاستغناء عن الخام الإيراني، مضيفًا أن هذه العقوبات لا تهدف إلى تغيير النظام بل تغيير سلوك القيادة الإيرانية. وتابع أن الحزمة الأولى من العقوبات ستدخل حيز التنفيذ في 4 أغسطس/آب المقبل، وستشمل قطاع السيارات والتجارة والذهب والمعادن الأخرى. أما الحزمة الثانية ستدخل حيز التنفيذ في 6 نوفمبر/تشرين الثاني، وتستهدف قطاع الطاقة وكل الأنشطة المتعلقة بالنفط وعمليات البنك المركزي الإيراني.
تضمن واشنطن نجاح خطتها بمحاصرة النفط الإيراني بمساعدة دول خليجية، رغم بيان لمجلس الوزراء السعودي يقول إن أي قرار لزيادة أسعار النفط ستتخذه المملكة بالتنسيق والتشاور مع الدول المنتجة الأخرى
وكان ترامب توعد إيران بعقوبات غير مسبوقة بعيد إعلانه انسحاب واشنطن من اتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى، وهنا سيكون مفهومًا أن تتخذ السعودية والإمارات خطوات لضرب المصالح الإيرانية، وتؤيد العقوبات عليها، رغبة في تقويض التمدد الإيراني الذي وصل حدودها، لكن ما لا يبدو جليًا أن يحدث ذلك بدون خطة مواجهة متكاملة لردع هذا الخطر، باستثناء ما يُنظر إليه على أنه تنفيذًا غير مشروط للإرادة الأمريكية، وفوقه ثروات طائلة لم تُنتج حتى الآن سوى تخبط في الإقليم كله.
وقبل كل ذلك، ثنائية الرغبة والقدرة، بما يتجاوز القول إلى امتلاكه، وحينها تضمن واشنطن نجاح خطتها بمحاصرة النفط الإيراني بمساعدة دول خليجية، رغم بيان لمجلس الوزراء السعودي يقول إن أي قرار لزيادة أسعار النفط ستتخذه المملكة بالتنسيق والتشاور مع الدول المنتجة الأخرى.
لكن الغضب الإيراني من خطوة السعودية دليل على أن قرار الرياض اُتخذ بمعزل عن الدول الأعضاء في أوبك، وهنا تحذر إيران السعودية وليس أمريكا من التعدي عى حصتها في سوق النفط – كما تحددها أوبك – وتعتبر طهران أن أي مسعى للاستحواذ على نصيبها في السوق النفطية سيكون بمثابة خيانة عظمى.
ويذهب الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى ما هو أبعد، وبلغة أقرب إلى التهديد، يحذر روحاني من أن صادرات النفط الإقليمية قد تتعرض للحظر إذا حاولت واشنطن الضغط على دول العالم لوقف شراء النفط الخام من إيران. كما هدد بإغلاق مضيق هرمز، اليوابة البحرية التي تتحكم في معظم صادرات النفط في منطقة الخليج، ردًا على أي عمل عدائي أمريكي على إيران.
قيادات بعض الدول الخليجية لا تجد حرجًا في الظهور بمظهر الراضخ المستكين لواشنطن
مهمتنا إفقار الشعوب.. للحماية ثمن يتعين دفعه
حملت مقابلته مع محطة “فوكس نيوز” أيضًا ما هو أبعد من التهديد لأوبك والوعيد لإيران، حيث وجَّه الرئيس الأمريكي كلامه إلى دول منظمة أوبك، بالقول “نحميكم بمقابل”. وواضح أن تلك الدول خليجية بالأساس، ومعروف أن السعودية تأتي على رأسها، وهي من كبار أعضاء منظمة الدول المصدرة للبترول التي يتهمها الرئيس الأمريكي بالتلاعب بأسعار النفط في الأسواق العالمية.
وعلى حساب تلك الدول، ربما يريد الرئيس ترامب تصحيحًا لوضع حد يتأذى منه اقتصاد بلده لاسيما بعد انسحاب إدارته من اتفاق إيران النووي، فمن البيانات ما يشير إلى أن السوق النفطية ستعاني نقصًا في حال اختفاء النفط الإيراني كاملاً من الأسواق.
ولهذا السبب طلب ترامب ووعد الملك سلمان بالتنفيذ، وللإيفاء بالوعد ستضطر السعودية إلى استخدام طاقتها الإنتاجية الاحتياطية والمقدرة بنحو مليوني برميل. وبالأرقام، فإن السعودية أكبر أعضاء منظمة أوبك إنتاجًا، تنتج حاليًا 10.3 مليون برميل يوميًا، وبتلبيتها طلب ترامب، فإن إنتاجها سوف يرتفع 11.8 مليون برميل يوميًا، وهو مستوى قياسي وتاريخي.
لا ينفك الرئيس دونالد ترمب يذكر الرياض بذلك، ولا تنفك هي تدفع، وقد حث ذلك كثيرًا منذ وصف ترامب للملكة بـ”البقرة الحلوب”
وتخشى إدارة ترامب الماضية في محاصرة النفط الإيراني من تبعات ذلك داخليًا، كارتفاع أسعار الوقود، ومن ارتدادات ذلك على مزاج الناخب الأمريكي حين يصوت في انتخابات تجديد الكونغرس المقبلة، وهنا كان لا بد من تعويض النقص المحتمل في الإمدادات، لكنه مسعى خطير، إذ يقدم مصلحة مواطنيه على حساب مواطني دول أخرى، دون حسبان أي أذية قد تلحق بشعوب الدول النفطية في حال زاد المعروض من إنتاجها فتراجعت الأسعار.
في المقابل، فإن قيادات تلك الدول – أو واحدة منها على الأقل – لا تجد حرجًا في الظهور بمظهر الراضخ المستكين لواشنطن، فالحماية لها ثمن يتعين دفعه، ولا ينفك الرئيس دونالد ترمب يذِّكر الرياض بذلك، ولا تنفك هي تدفع، وقد حث ذلك كثيرًا منذ وصف ترامب للملكة بـ”البقرة الحلوب”.
ولا يتوقف المحللون الاقتصاديون في السعودية كثيرًا عند رفع الإنتاج النفطي وأثره على الأسعار بل على المملكة، وليس منهم من يحث على توجيه المال العام نحو التنمية ومحاصرة المشكلات الداخلية متعددة الأوجه بدلاً من بذله بسخاء على مشروعات كبرى على الورق، وعلى صفقات أسلحة حروب لا طائل منها، وعلى استحداث فرص عمل للأمريكيين.
وبوسع السعودية دومًا أن تعزو خروجها عن إجماع “أوبك” بجهود تقول إنها تبذلها للمحافظة على استقرار أسواق النفط،، غير أن اللافت للنظر في تلك الجهود هو أن السعودية لم تنسقها مع بقية الدول المصدرة للنفط، بل لا يمكن حتى الحديث عن تنسيق مع الأمريكيين أنفسهم لأن المسألة بانت لكثير من المتابعين أشبه بأوامر تنفذ تحت طائلة فقدان الحماية.