“لم آت لإسرائيل بصفتي وزيرًا لخارجية الولايات المتحدة فقط، ولكن بصفتي يهوديًا فرّ جده من القتل، وسنلبي جميع احتياجات الإسرائيليين الدفاعية..” كشف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، بهذه الكلمات التي استهل بها زيارته لتل أبيب في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023 (بعد 6 أيام من طوفان الأقصى) عن حقيقة الدور المتوقع أن يقوم به لخدمة الكيان الإسرائيلي المحتل، الذراع الاستعماري للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وعلى مدار 9 جولات مكوكية قام بها الوزير اليهودي لـ”إسرائيل” منذ بداية حرب غزة كان الرجل حريصًا على ترجمة تصريحاته التي قالها في زيارته الأولى، حيث الدعم المطلق لحكومة بنيامين نتنياهو في حرب الإبادة التي تشنها ضد غزة، والتصدي بكل قوة لأي تهديدات تتعرض لها، سواء من المقاومة الفلسطينية في الداخل أم عبر إيران وأذرعها في المنطقة.
وفي خضم هذا الانخراط في الدفاع عن “إسرائيل” يبدو أن بلينكن قد نسي أنه وزير أمريكي قبل أي شيء، ويمثل دولة تدعي أنها وسيط في تلك الحرب، وتتشدق بين الحين والآخر بضرورة فرض التهدئة وإنهاء القتال، ليتحول الرجل من وزير لخارجية أمريكا إلى وكيل لـ”إسرائيل” في المنطقة.
وخلال الجولة الأخيرة التي شملت “إسرائيل” ومصر وقطر، وضع بلينكن بلاده ومسار المفاوضات في مأزق حين أعلن عن دعم بنيامين نتنياهو للمقترح الأمريكي المقدم، بما فيه عدم الانسحاب من محوري فيلادلفيا ونتساريم واستمرار الحرب حتى بعد الهدنة، وهو التصريح الذي رغم نفيه من وسائل إعلام أمريكية، يمنح حكومة الاحتلال الضوء الأخضر لمواصلة الحرب والقضاء نهائيًا على غزة ومن فيها، وهو ما يريده نتنياهو واليمين المتطرف.
وكيل “إسرائيل” في المنطقة
منذ اليوم الأول للحرب صدّر بلينكن نفسه كحائط صد في مواجهة كل ما يهدد “إسرائيل”، دبلوماسيًا وعسكريًا، حيث قام بدور “المندوب الإسرائيلي” لتخدير القوى الإقليمية، بأوهام المفاوضات وأهمية الحل الدبلوماسي لإنهاء الحرب، حتى يحقق نتنياهو أهدافه من تلك المعركة.
وعلى مدار 10 أشهر كاملة تخللتها 9 زيارات مكوكية، لم يتوانَ وزير الخارجية الأمريكي عن دعم “إسرائيل”، تصريحًا لا تلميحًا، في مفارقة غير معهودة في الأعراف الدبلوماسية لدولة تزعم أنها تقوم بدور الوسيط والداعم لإنهاء الحرب، حتى وإن لم تكن تلك هي الحقيقة.
فمع الزيارة الأولى التي قام بها بلينكن بعد 6 أيام فقط من عملية طوفان الأقصى، التي شارك خلالها في أحد اجتماعات مجلس الحرب المصغر المشكل بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعث الوزير اليهودي برسالة مباشرة مفادها أن أمريكا لن تترك “إسرائيل” وحدها وأنها ستقف خلفها حتى تحقيق أهدافها، وهي التصريحات التي اعتبرها البعض حينها ضوءًا أخضر للحرب المفتوحة.
ومع إجرام جيش الاحتلال في مواجهة المدنيين من أطفال ونساء غزة، وبداية تصاعد الانتقادات الموجهة لتلك الانتهاكات، واستثارة غضب الشعوب العربية والإسلامية، بدأ بلينكن جولة شرق أوسطية جديدة في 16 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، شملت بعض الدول العربية، كان الهدف منها حشد التأييد للحليف الإسرائيلي ودعم حربه ضد المقاومة في مقابل تخديرهم بمزاعم ضرورة إدخال المساعدات والتأكيد على عدم تهجير الفلسطينيين من القطاع.
وفي ظل فشل نتنياهو وجيشه في تحقيق أهداف الحرب خلال الشهر الأول كما كان متوقعًا، الأمر الذي يتطلب إطالة أمدها حتى تحقيق أي من تلك الأهداف، غير أن مسألة كتلك ربما تلقى رفضًا واعتراضًا من بعض القوى الإقليمية كذا عائلات الأسرى والضغوط الداخلية، ومن ثم كان لا بد من غطاء دبلوماسي “مخدر” لتمرير هذه الاستراتيجية، وهنا بدأ بلينكن زيارته الثالثة في 3 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، التي شملت “إسرائيل” والأردن بعض دول آسيا، معلنًا بداية مسار عملية المفاوضات لإنهاء القتال وإبرام صفقة تبادل، وهو المسار الذي ضمن لنتنياهو استمرارية الحرب حتى اليوم.
وبقي الوضع الميداني في غزة كما هو منذ تلك الزيارة، قصف عشوائي ممنهج في مواجهة مقاومة صامدة، على أمل تحقيق أي من أهداف الحرب، حتى جاءت عملية اغتيال القيادي في حركة حماس، صالح العاروري، في العاصمة اللبنانية بيروت في الثاني من يناير/كانون الثاني 2024، وهي العملية التي أثارت حفيظة المقاومة في غزة وحزب الله في جنوب لبنان، ليتوعدا بالانتقام والرد على تلك العملية، فيما استنفر محور الممانعة تنديدًا بتلك الجريمة التي خرقت قواعد الاشتباك بين الحزب والكيان المحتل.
وهنا كان على بلينكن التحرك سريعًا لتهدئة الأجواء والتخفيف من وطأة رغبة الانتقام لدى حزب الله من الحليف الإسرائيلي، ردًا على تلك العملية، فجاءت زيارته الرابعة في التاسع من الشهر ذاته، وقد شملت “إسرائيل” وتركيا والأردن وقطر والإمارات والسعودية.
ومع تصاعد الضغوط الداخلية من عائلات الأسرى على نتنياهو بعد فشله في تحريرهم من قبضة المقاومة، حاول بلينكن القيام بدور حمامة السلام لدى الوسطاء والقوى الإقليمية لإقناعهم بضرورة الإسراع بإبرام صفقة تبادل وإقناع حماس بإطلاق سراح الأسرى المحتجزين لديها، وعليه جاءت زيارته الخامسة في 5 فبراير/شباط 2024.
وأمام الوحشية الإسرائيلية وحرب الإبادة التي يشنها الكيان ضد غزة، بدأت إرهاصات انتفاضة في الضفة الغربية دعمًا لإخوانهم في القطاع رغم القبضة الأمنية المشددة لسلطة أبو مازن هناك، ومن ثم كان لا بد من احتواء تلك الانتفاضة في مهدها، فجاءت الزيارة السادسة لوزير الخارجية الأمريكي في 22 مارس/آذار الماضي، التي تضمنت لقاء مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، حيث ناقش معه التدابير الرامية إلى تحييد الضفة عما يحدث في القطاع والإغراء بورقة أن يكون للسلطة دورًا في مستقبل غزة بعد الحرب.
بعد إعلان نتنياهو نيته القيام بعملية برية في رفح، وحالة القلق التي خيمت على القاهرة جراء هذا التطور، فضلًا عن التداعيات الكارثية إنسانيًا على النازحين الفلسطينيين في تلك المنطقة، وما لذلك من ارتدادات على الموقف الدولي إزاء الأزمة المتوقع حصولها حال تنفيذ تلك العملية، حرص بلينكن على تخفيف تلك الأجواء المتوترة من خلال زيارته السابعة في 30 أبريل/نيسان الماضي، التي شملت “إسرائيل” وبعض الدول العربية، وأكد خلالها على خطورة هذا التحرك، أو على الأقل ضمان ألا يتسبب في كارثة إنسانية بحق المدنيين، ليبدأ جيش الاحتلال بعدها عمليته تلك وما نجم عنها من جرائم إبادة لا يُنكرها منصف، وسط صمت أمريكي فاضح.
أسفرت عملية رفح وما سبقها وأعقبها من فشل جيش الاحتلال في تحقيق أي من أهداف الحرب، بجانب رفض نتنياهو إبرام أي صفقة تبادل وعرقلة كل الجهود الماضية في هذا المسار، عن توسعة الهوة والخلاف داخل مجلس الحرب الإسرائيلي، الأمر الذي أسفر عن استقالة بعض الأعضاء على رأسهم الوزير بيني غانتس وأيزنكوت، الخطوة التي حملت معها بداية التآكل لحكومة نتنياهو.
وهنا كان على بلينكن القدوم مرة أخرى لإعلان كامل الدعم والتأييد لتلك الحكومة وحمايتها من السقوط أو التآكل، وعليه جاءت زيارته الثامنة في 10 من يونيو/حزيران 2024، التي شملت بجانب “إسرائيل”، مصر وقطر والأردن، وأكد خلالها كالعادة على المضي قدمًا في مسار المفاوضات رغم الإجرام الإسرائيلي الذي لم يتوقف.
ثم تأتي الزيارة التاسعة الأخيرة التي بدأها في 18 من أغسطس/آب الجاري، وحاول من خلالها الدفع قدمًا نحو صفقة تبادل واتفاق تهدئة يخدم الرؤية الإسرائيلية ويضمن تحقيق أهداف نتنياهو كاملة من حيث السيطرة على القطاع وخنق مداخله ومخارجه والقضاء على معاقل المقاومة وتجفيف منابعها والتحكم في حياة أكثر من مليوني إنسان محاصر بداخله.
ولم يكتفِ الوكيل الإسرائيلي ذو الجنسية الأمريكية بدعم رؤيه حليفه نتنياهو ويمينه المتطرف فقط، بل مارس هوايته المفضلة في شيطنة المقاومة وتحميلها مسؤولية إفشال الاتفاق، في قلب فاضح للحقائق ونسف كلي لأبجديات أخلاقيات التفاوض والوساطة الدبلوماسية، ليكشف الرجل عن وجهه الحقيقي الذي حاول تجميله على مدار 10 أشهر كاملة، كونه يهوديًا قبل أن يكون سياسيًا أمريكيًا.
تربية يهودية.. محاولة لفهم الجذور
لم تكن استماتة بلينكن في الدفاع عن “إسرائيل” مجرد مسألة نابعة من توجهات سياسية من إدارة جو بايدن فحسب، لكنها جينات تتغلغل في خلاياه، تفرض عليه نوعًا من صلة الرحم والوفاء للجذور الضاربة في أصله الأسري.
فأنتوني المولود في 16 أبريل/نيسان 1962 بمدينة يونكيرس بولاية نيويورك، سليل أسرة يهودية من الطراز الأول، فوالده دونالد بلينكن الذي تعود أصوله لعائلة أوكرانية هاجرت قبل عقود للولايات المتحدة، ووالدته هي جوديث بريسار التي تعوذ جذورها للمجر، أما جده فهو المحامي موريس هنري بلينكن المولود في العاصمة الأوكرانية كييف، الذي أطلق “معهد فلسطين الأمريكي” في الولايات المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية لدعم اليهود ودعم تأسيس الكيان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية.
أما زوج والدته الثاني، فهو صامويل بيزار، المعروف في أمريكا بـ”الناجي من الهولوكست” الذي عمل مستشارًا لعدد من الرؤساء، منهم الرئيس الأمريكي جون كنيدي (1961-1963)، وكان له تأثير كبير على أفكار أنتوني وتوجهاته الداعمة لليهود، فلطالما طلب منه ابن زوجته أن يسمع عن تجاربه في أثناء المحرقة، كما ذكر في إحدى المقابلات الصحفية له.
وأثرت تلك النشأة بطبيعة الحال على عقيدة أنتوني السياسية، فخلال دراسته في جامعة هارفارد، كتب العديد من المقالات في مجلة الجامعة دافع فيها عن “إسرائيل”، وكان من أشد الأصوات الداعمة للوجود الإسرائيلي في فلسطين.
تاريخ من دعم الاحتلال
منذ دخوله للعمل العام، سواء كان محاميًا في أمريكا وفرنسا، أم صحفيًا ومراسلًا ومحللًا سياسيًا في عدد من الصحف منها مجلة”نيو ريببلك” و”نيويورك تايمز” وشبكة “سي إن إن”، ثم سياسيًا داخل الحزب الديمقراطي وصولًا إلى منصب وزير الخارجية الأمريكية، جيّش بلينكن كل إمكانياته للدفاع عن “إسرائيل”.
فخلال حرب لبنان الأولى عام 1982 كتب سلسلة مقالات دافع فيها عن الكيان الصهيوني وتصدى لما أسماه الخطاب المعادي له، وحاول تفنيد المقارنة بين جيش الاحتلال والنازيين لافتًا إلى أنها مقارنة خاطئة.
وخلال عملية “الجرف الصامد” الإسرائيلية في غزة عام 2014، أيقظه سفير “إسرائيل” لدى واشنطن حينها، رون ديرمر، لطلب المساعدة ضد المقاومة بالقطاع، حسبما يحلو لبلينكن أن يروي وفق ما نقلت عنه وسائل إعلام أمريكية، وعلى الفور تحرك الرجل واستطاع الحصول على موافقة الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما لتقديم دعم بقيمة ربع مليار دولار لتمويل تجديد القبة الحديدية الإسرائيلية.
ثم عاود التأكيد على حماية “إسرائيل” والدفاع عنها، وأن ذلك مسألة ثابتة وحيوية في سياسة الديمقراطيين خلال حملة بايدن الرئاسية عام 2020، حين حاول استمالة اليهود وطمأنتهم للحصول على دعمهم في تلك الانتخابات.
حتى اتفاق أبراهام عام 2020 الذي أفضى إلى إبرام التطبيع مع عدد من الدول العربية، الإمارات والبحرين والمغرب، ثم السودان لاحقًا، ورغم أنه إنجاز يحسب لمنافسه الجمهوري دونالد ترامب، فإنه وصف تلك الخطوة بأنها “تطورٌ إيجابي”، معلقًا حينها بأنه كلما زادت عدد البلدان المطبعة مع “إسرائيل”، ساعدها ذلك على تحقيق السلام في جميع المجالات بثقة زائدة.
وفيما يتعلق بفكرة حل الدولتين التي دومًا ما ترددها إدارة بايدن والديمقراطيون بصفة عامة، فالبنسبة لبلينكن هي مسألة غامضة غير محسومة بشكل كامل، إذ دومًا ما كان يتهرب من تساؤلات الصحفيين عما إذا كانت إدارة بايدن ستدعم جعل القدس الشرقية عاصمة لفلسطين، هذا بخلاف تأييده لضم الجولان التي اعتبرها مهمة لأمن “إسرائيل”.
في ضوء ما سبق يمكن القول إن بلينكن لعب دورًا محوريًا في إطالة أمد الحرب كل تلك الأشهر، وقدم لنتنياهو وحكومته المتطرفة خدمات جليلة في استمرار القتال عبر تسويف المفاوضات، وخداع الجميع بوهم جهود التهدئة، وامتصاص غضب القوى الإقليمية والدولية تجاه الانتهاكات الإسرائيلية التي لا تتوقف، مترجمًا بشكل عملي مقولته بإنه يهودي قبل أن يكون وزيرًا أمريكيًا، بما يحوله من وسيط إلى شريك ومتواطئ في جرائم الإبادة التي يتعرض لها سكان غزة.